عبد الرحمن أقريش
الأصيل، تفقد الشمس سطوتها، تميل نحو المغيب، تتوارى أشعتها خلف غابة الأركان الكثيفة، تنكسر خيوطها، ترسم أفقا لمساء جميل وهادئ.
بعد قيلولة كسولة وممتدة، يحضر رجال قريتنا إلى الجامع الصغير تباعا، يتوضؤون، يحضرون صلاة العصر جماعة خلف الفقيه (سيدي محمد)، ثم يجلسون باسترخاء على المرتبة الحجرية في الباحة الأمامية للجامع، يسندون ظهورهم إلى الجدار الحجري، يتمددون في وضعيات جسدية مريحة، يحتسون كؤوس الشاي، يدخنون ويثرثرون…
بني الجامع على تلة عالية، مكان مرتفع، مفتوح، يهيمن على الأفق، يطل على المقبرة، ويمنح الرجال فرصة التجسس على مداخل القرية، ورصد حركة الغرباء وقطعان البهائم والدواجن والطيور وهي تعود أدراجها في المساء…
نحن الصغار، كنا نصلي بانتظام خلف الفقيه، نشاغب، نضحك، نسخر، نتدافع، نبني المقالب، نغرس الشوك في أحذية المصلين وفي أماكن السجود، بعضنا يصلي من غير وضوء…
ننتظم في صفوف متوازية بحسب السن، نمسك ألواحا خشبية مختلفة الأحجام، بعضها معطوب تشده جبيرة معدنية من الوسط، فتبدو النصوص القرآنية مثل حقول مزروعة، يشقها واد منحدر وعميق من الوسط، تتمايل أجسادنا الصغيرة في تناغم مع همهمة النصوص المقروءة، تنحشر أجسادنا الصغيرة في جلابيب بسيطة باهتة الألوان، رؤوسنا حليقة تتدلى منها ضفائر مجدولة بخيوط من الصوف الأحمر، عيوننا تنضح بالشقاوة والخوف والاستسلام.
– قل هو الله أحد، الله الصمد…
– قل أعوذ برب الفلق…
– لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف…
– ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل…
– ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده…
– ويل للمطففين الذين…
– والذي قدرااا فهدااا والذي …
يدخل الفقيه (سيدي محمد)، يخرج، يقطع المسافة بين غرفته الخاصة وقاعة الصلاة جيئة وذهابا، يمشي بخفة وكبرياء، هو رجل أربعيني أو يزيد قليلا، جسده قوي، مشدود ومنتصب، يبدو شابا وسيما، نشيطا، أنيقا، حليقا على الدوام، ثم يجلس أخيرا، يتربع أمام الصينية، يزيل عنها الغطاء في حركات هادئة ومحسوبة، ثم يفرقع أصابعه، يشير إلينا بسبابته في حركة خفيفة، فنلتفت للجهة الأخرى، إشارة تعني أنه يريد أن يتناول وجبته بعيدا عن أعيننا الجائعة، نسمع صوت صبيب الشاي، نشم شذى النعناع المسكر، نتخيل رغوته في الكؤوس، نتخيل أقراص الرغيف غارقة في سديم السمن والعسل، تجتاحنا رغبات غامضة، أصوات وألوان لذيذة، نحلم، نتخيل، حفلات، ولائم شهية، يجري ريق لذيذ ودافئ في أفواهنا الصغيرة، ولكننا لا نسمع أبدا الفقيه (سيدي محمد)، فهو يتنفس، يتحرك، يشرب، ويمضغ طعامه في صمت بودي عجيب…
تحتفظ ذاكرتي ببعض تفاصيل المكان، تفاصيل ترفض الإنمحاء، رائحة الصمغ والصلصال، قاعة الصلاة، المحراب المقبب، رطوبة قاعة الوضوء، النعش الخشبي الضخم وقد انغرست في ثناياه خيوط دم حمراء باهتة تشهد على أول جريمة قتل عرفتها قريتنا.
أتذكر طقوس العقاب البدني التي تؤثث المشهد، عصي، حبال، سلاسل، أغلال وقيود حديدية، فضاء غريب تسكنه سلطة خفية، مخيفة وقاسية، فضاء تلتقي فيه السماء بالأرض، ويتقاطع فيه المقدس والدنيوي.
يجلس الرجال هناك على المرتبة الحجرية لساعات طويلة، ينخرطون في الحديث والثرثرة، حديث ممتد لا يخضع إلا لقانون التداعي الحر، لا ينقطع إلا ليبدأ من جديد، يتحدثون عن كل شيء، عن السوق، الغلاء، مواقيت الحرث والزرع، تدابير الموسم الفلاحي، غلال الارض، أمراض الماشية، قضايا المحاكم والصراع على الأرض، وأسعار الشاي والسكر…!!
في ذلك الزمن البعيد، وبعيوننا نحن الصغار تبدو أمور الحياة غريبة، غامضة ومستعصية، فلسبب ما نجهله لا يتحدث الرجال أبدا عن زوجاتهم أو أبنائهم !!
لا يتحدثون عن أنفسهم أبدا بصيغة المتكلم، ويستعملون دائما صيغة الجمع وهم يتحدثون عن آبائهم وأجدادهم !!
(كنا في السوق …جمعنا المحاصيل… قابلنا السيد القايد… رفعنا دعوى في المحكمة… ربحنا قضية… خسرنا قضية…نصبنا محاميا…آبائنا قرروا… كان أجدادنا يفعلون… ) !!
وحده (الحاج علي) العسكري المتقاعد، كان يتحدث عن نفسه بصيغة المتكلم المفرد، يحكي عن سنوات حرب (لاندوش) يقصد الهند الصينية، يحكي بلغة شاعرية وبكثير من الشغف، عن الحرب والموت والجثث والشجاعة والحيلة وقسوة البشر !!
كانت نبرة صوته ترتفع، تنخفض، تتناغم مع قصة تتغير تفاصيلها في كل مرة…
أدغال، بنادق، خنادق، مدافع، طائرات، نيران عدوة، نيران صديقة، قصف من جميع الجهات…
يحلق الموت فوق الرؤوس، يفرد جناحيه، تنتشر الجثث في كل مكان !!
ثم في لحظة ما، يصمت (الحاج علي)، يخلع نظارته الشمسية، يخرج منديلا قطنيا من جيبه، ينفخ فيها، يمسحها بعناية، يرفع بصره، ينظر للأفق وكأنما يستلهم الوحي أو يسترجع صورا لذكريات بعيدة، يستعمل كلمات فرنسية، ينظر إليه (أفقير بيهي) مستفسرا، ولكنه يواصل، ولا يكلف نفسه عناء الشرح !!
يخيم الصمت، تشخص إليه الأبصار مشدوهة، ينتبه (موليد) إلى فمه المفتوح، يعود إلى نفسه، يبتلع ريقه، ينظر لعقب سيجارته المنطفئ، يسحقه، يدفنه في التراب…
يتقدم (الحاج علي)، يجري، يندفع، يتمترس، يناور، يتربص، يصوب، يطلق النار من مدفعه الرشاش، يتطاير اللحم البشري، يجري الدم أنهارا، يسقط الضحايا بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، يدوس عليها بحذائه العسكري الضخم…
نيران، قرى مدمرة، أراضي ومحاصيل زراعية محروقة…
دخان، دخان، دخان…
وأخيرا تنتهي الحرب !!
يهدأ صوت (الحاج علي)، ينظر إلى الأوسمة النحاسية التي تزين صدر جلبابه الصوفي الأبيض، يبرزها، يشعر بالرضا، يداعبها بأنامله في حركة رفيقة ويبتسم .
تغيب الشمس أخيرا، تختفي، في الخلفية بعيدا يسمع صوت البحر.
نخرج نحن الصغار من الجامع، ننتظم، نسلم تباعا، يمد الكبار أياديهم، نقبلها، أيادي قوية، خشنة، يفوح منها عبق السجائر ممزوجا برائحة الأرض والعرق، ثم ننطلق خفافا، ننفلت كمن تحرر من قيود قاسية، يتملكنا شعور غريب بالحرية، نضحك، نجري، يتطاير الغبار الأبيض تحت أقدامنا الصغيرة، تعبث ريح المساء بجلابيبنا…
ثم، يغادر الرجال تباعا، ينفضون جلابيبهم من الغبار، ينظر الفقيه (سيدي محمد) إلى ملابسهم المرقعة بخيوط دقيقة ومتقنة، رقع ملونة، سوداء، زرقاء، حمراء…
يودعهم، يعدل هيئته، يستعد لرفع آذان المغرب.
في البيت، يجلس (الحاج علي) يتناول عشاءه على ضوء شمعة يتيمة، وتجلس زوجته (للا زينة) تنظر إليه بصمت، تضع كفها على خدها الأيسر، وترفع كفها اليمنى تتقي خيوط الضوء المنبعث من الشمعة…
ناولته كأس الشاي، رشف منها رشفات خفيفة وصامتة، بدا خاضعا ومستسلما، تمور بداخله أفكار وهواجس غامضة، تمنى لو يتلقى منها دعوة، تردد قليلا، ثم أصدر همهمة خافتة.
– …؟؟
حدجته بنظرة قاسية، رفعت سبابتها إلى شفتيها، رسمت علامة السكوت.
– شششووووت…الأطفال نيام !!
نظر إليها مهزوما بعينين منكسرتين، رفع كأسه، شرب ثمالتها…
وراح يقضي ليلته في الغرفة الأخرى.