عبد الرحمن أقريش
يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.
توالت سنوات طويلة من الجفاف والجوع والوباء الأسود، جراد، بق، قمل، جردان، هوام من كل الأصناف، جنائز ومواكب للموت، الجميع هنا يموت، الحياة، الأرض، الشجر، الحجر، البشر، البهائم، وحده الموت لا يموت…
لا أحد يفهم الذي حدث، ولماذا يحدث الذي حدث؟ لذلك بدا الأمر عبثيا وقاسيا.
ولكن الحكايات تناسلت مع مرور الأيام، تشرح، توضح، تقرر، البعض يقول إنها علامات الساعة، البعض يقول إنه امتحان وابتلاء، والبعض يقول إنه القدر، قدر مرسوم، مسطر هناك فوق منذ الأزل، والبعض الآخر يقول إنه غضب السماء…
يسمع الناس الحكايات، يرفعون أبصارهم للسماء، يصدرون همهمات يمتزج فيها الخضوع بالعجز، والتسليم بالإيمان، يتساءلون.
– أهي القيامة؟ أهو الغضب؟ أهو العقاب؟
– لكن، لم تغضب السماء؟ لم تعاقبنا؟
الناس هنا فلاحون طيبون، طيبون إلى حد السذاجة، قرويون بسطاء، وكرماء أيضا، صحيح أنهم ليسوا مؤمنين مثاليين، فبعضهم لا يصلي بانتظام، وبعضهم الآخر متمرد لا يصلي أصلا، ولكنهم بسطاء وطيبون.
وصحيح أيضا أنهم في سنوات الرخاء والوفرة يبالغون في مظاهر الاحتفال والفرح، أعراس، مواسم، بهرجة، نزاهة وتبوريدة…
وطبعا تحدث بين الحين والآخر، بعض حالات الاختلاط، وتنفلت الغرائر من عقالها، نظرة من هنا، غمزة من هناك، أهواء خفية تكشف عنها زغاريد النساء، رغبات تنضح من عيون مليئة بالكحل والتحريض، أهواء ورغبات دفينة ترددها أغاني الرعاة، قصص عاطفية قوية، عنيفة وجامحة، ولكنها دائما مسيجة، ففي هذه القرية لا مجال للتهتك والابتذال.
…
حاول (الحاج) أن يتذكر اليوم ويحدد موقعه بين أيام الأسبوع، قدر أنه ربما كان الخميس أو الجمعة، تمدد لساعات دون أن يجد النوم إلى عينيه سبيلا، مد يده، عدل وضعية الحجرة على معدته، شد حزامه الجلدي بقوة، خف عنه الألم للحظات، أغمض عينيه وراح في إغفاءة قصيرة، ثم استشعر ذبيب الألم يسري في تفاصيل جسده، يخترقه، يدق قلبه بسرعة، أحس كما لو أنه ينخلع من مكانه، تمالك نفسه، قاوم الإغماء، حبس أنفاسه، وراح في غيبوبة للحظات.
مثل قصبة جوفاء، أحس بالفراغ، سمع ريحا تعصف بداخله، ثم رأى جسده وروحه يسبحان، رآهما يخرج أحدهما من الآخر، يحلقان في اتجاهين مختلفين، كما لو كانا من عالمين منفصلين.
عندما عاد إلى نفسه، واستعاد صفاءه الذهني تدريجيا، تذكر أرغفة عجينة الأركان اليابسة، نزل من السرير الخشبي، أوقد النار في بقايا شمعة، أدار بصره في أرجاء الغرفة، رأى الأرغفة السوداء مهملة هناك في ركن منزو، بدت مثل عجلات صغيرة ومعطوبة، أخذ واحدة، اقتطع منها كسرة، رفعها، اشتم رائحتها، ضغط عليها بأسنانه، لاكها، أدارها بلسانه مرة أو مرتين، أحس بحرارتها في فمه، استشعرها تتسرب إلى أحشائه، ثم تحولت الحرارة إلى مرارة لا تطاق، تقلصت أسارير وجهه، ثم لفظها بقرف…
عاد للسرير، شد إليه بطانية الصوف، لف جسده النحيل فيها بإحكام، فبدا مثل جثة محنطة.
تمدد، تملكته هواجس غامضة، طردها وهو يردد بصوت خفيض يكاد لا يسمع.
– شحال قدك من الاستغفار يا البايت بلا عشا ؟!
في الصباح الباكر، ومع الخيوط الأولى للفجر قرر أن يغادر.
في الطريق قطيع من الحمير الهزيلة تسير بهمة في اتجاه البحر، عظامها بارزة تكاد تنفلت من جلودها، إلى اليسار صف من النساء والصبيان يحملون قفات من الدوم، وفؤوس صغيرة يسيرون في اتجاه الغابة.
ينظر إليهم بحزن.
– المساكين، سيقضون يومهم في التهام النباتات واصطياد الحشرات…سيعودون في المساء وأفواههم مصبوغة بالأخضر مثل السلاحف !!
سمع صوتا يتعالى من بعيد، وقف ينظر، يتأمل، منظر عجيب، سوريالي، لكنه حقيقي،
(أفقير محمد) يشق بطن الأرض اليباب، في خطوط مستقيمة بمحراث خشبي يجره زوج من الثيران الهزيلة.
– إياوكاو…هوووه…سير، سير، سير…هيييه…عيداااو…
بدا الرجل أسطوريا، جلبابه المشدود إلى الركبتين بحزام من الدوم، نظرته الهادئة، يداه الخشنتان، واحدة تمسك المحراث بقوة، والأخرى تنثر الزرع بمقدار وحرص شديدين، تنشق الأرض العطشى، يتطاير الغبار، تلتقط الطيور حبات الشعير وديدان الأرض قبل أن يطمرها التراب.
تساءل.
– من أين يستمد هذا الرجل كل هذا القدر من الطمأنينة والإيمان؟
ابتسم، فكر بصمت.
– أنا أعرف الرجل…وحده يجرأ على شق الأرض في عز الرمضاء، وحده يجرأ فينثر حبات الشعير، يدفنها في جوف الأرض، ثم ينتظر رحمة السماء ويحلم بغذ أفضل…!!
تقول الحكايات، إنه في عز سنوات القحط والجفاف والسيبة وأهوال الحروب بين القبائل، وحده (أفقير محمد) لم يتخل أبدا عن الحرث والزرع والإيمان برحمة السماء والأمل بالمعنى الديني العميق.
عندما ابتعد، بدت له القرية مثل مقبرة مهجورة، فقد نشر الموت أجنحته في كل مكان، جثث، جيف، هياكل عظمية، غربان، وطيور جارحة، دود وصديد.
بجانب البئر المهجورة يجلس الرجل الغريب عاريا تماما، كان الجذام قد التهم تفاصيل وجهه فحوله إلى ما يشبه المسخ، جلس يصطلي تحت أشعة الشمس، يحك جلده، فترسم أظافره خطوطا بيضاء على بشرته القذرة، على بعد خطوة أو خطوتين بسط جلبابه الصوفي، وراح ينظر لحركة النمل الدؤوبة، وهو يلتقط أجسام القمل الصغيرة، وقد أخرجها دفئ الشمس من مخبئها.
على مشارف (دوار العرب) حيث يسكن البدو، رأى سيدة تمشي بخطوات متصلبة، تحمل على ظهرها طفلا رضيعا يتدلى رأسه من الحمال، ينحشر جسمه الصغير ملتصقا معها بشكل يكاد لا يرى…
مرت دون أن تنظر إليه، نظر هو جهة الطفل، كان وجهه مجرد خرقة باهتة بدون لون، يقتات الذباب من بياض عينيه الغائبتين، ويمتص رحيق الموت من شفتيه اليابستين.
تساءل.
– أهو حي؟…أهو ميت؟…ألحكمة ما يموت الصبيان ؟
…
انفتحت البوابة الكبيرة بمجرد أن رآه الحراس.
– زيد (الحاج) زيد…ما تنساش الباب كيتسد من بعد صلاة العصر!!
كانت بوابات المدينة تنفتح وتنغلق وقفا لنظام خاص، بشكل يسمح بمرور البشر والمؤن والبضائع والإرساليات، ويحد في نفس الوقت من انتشار الوباء.
مشى في خط مستقيم، ثم انتبه، راعه أمر غريب، فالمدينة تعج بالحياة، يتحرك الناس في كل الاتجاهات، يتحركون بصمت مثل الأشباح، يشيرون فقط بأصابعهم، كما في الحكايات والكتب القديمة.
– أفقدت المدينة صوتها؟ أأصبحت بكماء؟
يفترش القرويون الأرض، يعرضون بضائعهم البسيطة على قارعة الطريق، بيض، دواجن، حمام بري، سناجب، سلاحف، أصابع الخروب، بصيلات إينري، وبعض الأعشاب اليابسة التي يحب المدينيون أريجها في كؤوسهم الصباحية.
لف إلى اليمين، ثم إلى اليسار، وقف أمام متجر اليهودي (موشي) فقد قرر فجأة أن يبيع ساعته (الدوغما) الثمينة، تردد في البداية، فكر، إنها آخر ما تبقى له من أيام العز والرخاء.
– سلام (موشي)…
– شلام شيدي (الحاج)…أشنو حبات الخاطر ؟
أخرج (الحاج) من ثنايا جلبابه ساعة جيب أنيقة.
– بغيتك تشري من عندي هاذ المكانة !!
نظر (موشي) للساعة، خلع نظارته الطبية، ركب في عينه اليسرى منظارا، فتحها،
تفحصها، أنصت لنبضها، ثم قال.
– إوا الله يعطيك الصحة، حاجة مليحة، إنما الشاعة لله…
تفاوضا للحظات، أصر هو على الثمن، بدا (موشي) حريصا، ولكنه كان نزيها.
منحه (موشي) ورقتين بنكيتين، دسهما في جيب جلبابه ومضى.
…
تسربت أشعة الشمس من وراء الغابة الكثيفة، لترسم أفقا لمساء جميل وحزين.
كان يمشي بخطوات سريعة، استحضر الحكايات المخيفة عن اللصوص وقطاع الطرق، ينبغي أن يصل إلى القرية قبل أن يحل الظلام، فالجوع حول الناس إلى ذئاب يأكل بعضها بعضا.
رأى فراشتين تتزاوجان، كانت إحداهما متوترة وأقل جاذبية، في حين بدت الأخرى زاهية، خفيفة ورشيقة، تطير، تحط، تعلو، تهبط، تفتح أجنحتها، تضمها، تراوغ، تراود…
فكر.
– إنها أنثى…الأنثى وحدها تملك هذا القدر من السحر والإغراء والجاذبية !!
هجمت عليه الذكريات فجأة، انخرط في نوستالجيا قوية، استرجع روح الطفولة بداخله، فكر في ولده الصغير.
– أوووه، كم سيكون سعيدا !!
أحس بالسعادة لفكرة أن يكون الطفل سعيدا، قرر أن يحمل إليه الفراشتين…
ردد بصمت.
– المال والبنون زينة الحياة الدنيا…
مالت الفراشات يمينا ثم يسارا، حطت، طارت، ناورت، راوغت…يقترب، تبتعد، خطوة، خطوتين، ثلاثة، خمسة…
ثم توقف، وقف مشدوها، مصدوما…
كانت المرأة المرضعة أمامه مباشرة، تحت شجرة الأركان الضخمة، جاثية على ركبتيها في منظر مريع، تنفخ في نار ترتفع ألسنتها إلى الأعلى، دخان، ورائحة اللحم تملأ المكان.
نظر إليها بخوف، وصاح بقوة.
– أين الرضيع ؟
التفتت، انتبهت لوجوده، رمته بنظرة قاسية وشريرة، امتلأ قلبه رعبا، فأطلق ساقيه للريح ومضى لا يلوي على شيء، تقطعت أنفاسه، وعندما لم يعد قادرا على الحركة، توقف، توقف يسترجع أنفاسه وهو يفكر.
– الجوع الكافر بالله…إنه الخبز، بدونه تموت الرحمة والدين والعبادة !!
…
أخيرا، وهو على مشارف القرية، كان على موعد مع غريبة أخرى من غرائب زمن الجوع والقحط…
ابتسم، فكر بصمت.
– للجوع في هذه القرية حكايات، حكايات غريبة بلون الحزن.
وقف (هامان) على تلة تشرف على المسجد وعلى مقبرة القرية، كان الغضب قد أفقده صوابه، نزع عمامته البيضاء، ألقى بها إلى الأرض، يرفع بصره إلى السماء، يخاطبها، ينخرط في خطاب مليء بالتهديد والتجديف والغضب.
– شوف واسمعني مزيان…يا تبدل علي هاذ الحالة …وإلا راني غادي نكفر!!
ينظر إليه رجال القرية مصدومين، يخاطبه الفقيه (سي موسى).
– لا حول ولا قوة إلا بالله…العن الشيطان…الرجوع لله!!
يخاطب السماء مرة ثانية.
– هو عارفني…والله حتى نكفر!!
– أعود بالله…العن الشيطان…!!
– الشيطان مظلوم بحالي…مادار والو!!
يسمع صوت جنازة آت من بعيد…
يردد سي موسى آيات الخوف.
– ولنبلونكم بشيء من الخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات!!
انخرط (هامان) في نوبة هستيرية، امتقع لونه، جحظت عيناه، يصرخ، تتكون فقاعات بيضاء على حافة شفتيه، يلتقط الحجارة، يرفع سبابته مهددا السماء…
ماتت دجاجاته، رحلت حفنة النحل من زريبته بغير رجعة، وافترست الذئاب الجائعة ذات مساء ما تبقى من قطيعه الذي أنهكه الجوع والمرض.
(هامان) شخص بسيط، وديع، وطيب إلى حد السذاجة…أورثه اليتم رقة وهشاشة داخلية سريعة العطب، وأورثه الفقر والحرمان وقسوة الكبار قدرة غريبة على التمرد، وحساسية مفرطة ضد الظلم والحيف وغياب العدالة.
يمر الموكب الجنائزي الصغير.
– مولانا يا رحمان جد علينا بالغفران…!!
– اللهم اسق عبادك، وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت…!!
ينحني (هامان) يجلس القرفصاء، يمسك رأسه بكلتا يديه في وضع يكشف حجم الألم الذي يعتصره من الداخل.
…
الغروب، وقف (الحاج) ينظر للأفق، يسمع هدير البحر من بعيد.
يحمل الرجال نعشا آخر، يمشون خفافا في موكب جنائزي صغير صوب مقبرة القرية، وقف هناك صامتا، ينظر، وراح يتأمل في جلال الموت، قسوة الجوع، وهشاشة الحياة.
– عمي الحاج…عمي الحاج…!!
انتبه، يمسك الأطفال جلبابه وعيونهم شاخصة إلى كيس الكتان، يفتحه، يخرج أرغفة سمراء، وبضع حبات التمر والتين الجافة، يوزعها بالتساوي.
– أرا يديك…أرا يديك أنتا…!!
– أنا أعمي الحاج، أنا، أنا، أنا…!!
يتأمل وجوههم الصغيرة الباسمة والحزينة…
يخاطب نفسه بصوت مسموع.
– لحكمة ما…من يدري…!؟