الجرذ

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خديجة إبراهيم

ما إن فتحت سيدة الشقة الرابعة في الطابق الرابع باب بيتها حتى وجدت نفسها وجها لوجه أمام جرذ ضخم. جرذ في بيتها وهي التي ترتعب من النملة والفراشة؟ جرذ؟  فتحت فمها لتصرخ، بل شدت حلقها وأخرجت منه هواء قويا لافحا. لكن الصوت لم يخرج. لم تسمع شيئا.

بدأ الجرذ يقترب منها. ها هو يتهادى أمامها في ثقة وجبروت. لقد أدرك أنها مشلولة تماما. حاولت تحريك يدها فلم تفلح. أحست بسائل دافئ ينساب بقوة ويغرق قدميها. تبلل منها الحذاء والجوارب النايلون الأنيقة. عادت لتجرب الصراخ.  لا شيء يصل إلى سمعها. فقط صوت الخوف الصامت المذل. صوت هامس كفحيح أفعى. فجأة انطلقت دموعها كشلال قوي.

بعد أن ذرفت منها الكثير، فتحت عينيها ولم تجد الجرذ.

ثم ظهر جرذ في الشقة الثالثة في الطابق الثالث. يسميها الجيران شقة الممرضة. لا أحد منهم يعرف أن اسمها أسماء. لكنهم يعرفون جيدا أنها لن تخاف من جرذ. وهي فعلا لم ترتعب عندما وجدته أمامها وهي تنشر الغسيل في الشرفة الواسعة.

لا أعرف إن كان الجرذ نفسه. كل ما أعرفه أنه ظهر مباشرة بعد اختفاء الأول من الشقة الرابعة. كل الجرذان تتشابه على كل حال. كائنات ضخمة مخيفة بشوارب نافرة. كائنات تكاد تلتهمك بعيونها الوقحة.

استدارت أسماء وراءها تبحث عن مكنسة تهشم بها رأسه. خاف منها وحاول أن يتسلل إلى البلاعة. لكن يدها القوية أدركته قبل أن ينفذ بجلده. ضربة واحدة كانت كافية لتفقده توازنه.

تمدد على الأرض وهو يتلوى. حاولت أن تباغته بضربة ثانية. قبل أن تفعل كان قد اختفى.

في الشقة الثانية في الطابق الثاني ظهر أيضا جرذ كبير. مرح في المكان وعبث بكل شيء. دلق الزيت، لعب في القطاني، أكل الجبن. سيدة الشقة الثانية في الطابق الثاني غائبة منذ عام. بالضبط منذ أن ألقي القبض على زوجها في قضية قطع أشجار دون ترخيص. من كمدها تركت كل شيء على حاله وخرجت. كانت تجر وراءها طفلين يبكيان.

بعد أن أتلف الجرذ ما لم يتلفه الزمن في الشقة اختفى أيضا.

هل هو نفس الجرذ؟ ربما. ما المهم في الأمر؟ المهم أن سيدة الشقة الرابعة في الطابق الرابع غسلت الأرضية والجدران والملاءات والستائر والملابس والخضار والفواكه. غسلت كل ما يمكن أن تكون شوارب الجرذ قد ولغت فيه.

بعد أسبوع كامل من التنظيف المستمر أصيبت بحمى. هي الآن بخير. لكنها عاجزة عن النوم وعاجزة عن الصراخ.

أما الممرضة فتذهب إلى عملها كل صباح. تداوي وتحقن وتنصح وتساعد. أحيانا تنفعل وتصرخ. هي مزاجية رغم أنها طيبة. أما الجرذ فكأنه لم يزرها يوما. ابتلعته بلاعة النسيان في ذاكرتها وقطعت فروته تماما.

أعرف أنكم تسألون عن سيدة الشقة الثانية في الطابق الثاني. عادت إلى المنزل دون زوجها. لا أعرف أين اختفى. لقد قطع عشرين شجرة دون ترخيص. زيتون وخروب ورمان. هل حكموا عليه بالمؤبد؟ هل تستحق الأشجار كل هذا الغياب؟ ربما.

هو على أية حال لم يعد بعدها أبدا. عاد الجرذ ولم يعد هو.

أما هي فاحتضنت طفلين لم يتوقفا عن البكاء. بكت كثيرا في الظلام. خفت نورها فلم تبصر الجرذ أبدا. مهما صال وجال بين أغراضها وطعامها وأوانيها. لم تكن تراه.

قبل أن أنسى: لم يظهر جرذ في الشقة الأولى من الطابق الأول. لا تكون الحكايات بمنطق. الحكايات تتناسل من حركة جرذان واسعة تمر عبر نساء مختلفات، هشات أو قويات. سعيدات أو تعيسات.

وتبقى هناك دائما شقة فارغة في طابق فارغ لا قصة فيها ولا حياة.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

ناجية

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

ثلاث قصص

آية الباز
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ظُلمــة