” ابدءوا بي
مِنْ هُنا..
, بي ،
بانفجاري ,
بالانهيارِ الذي يتعثَّرُ في سردِهِ على أنقاضه
, بي
مِنْ هُنا ,
مِنْ جنازةٍ تستندُ على عظامي
شاردة..” (ص : 6)
” عَمَّا قليلٍ سيبتدِىءُ الفَرَاغُ
، وَينْتَهِي الوقتُ
( ولا أعْنِي بِذلِكَ مَجَازَاتٍ مُحْتَمَلَةً
أوْ نُبُؤاتٍ مَا )
وَالهَوَاءُ الذي تَعَلَّقَ بِالنَّافِذَةِ
– أيضًا – سَيَنْهَارُ
، على المَدِينةِ الَّتي عَبَرَتْ
سَأَسْكُبُ ُأحْشَائِي على المَشْهَدِ العَاتي
مَائِلاً
وَأَسْتَدْرِجُ العَاصِفَاتْ …” (ص : 7)
الشَّاعر يُراهنُ على إمكانيَّةِ استقلالِ الذَّاتِ بذاتها ، واستغنائها التَّامِ عن الآخرين ، مادامَ التَّواصلُ قد باتَ حلمًا صعبَ المنالِ , ولا بأسَ أن يُهدي الشَّاعرُ تجربتَه إلى ذاته, وأنْ يقولَ في تصديرهِ لها ، مُستعيرًا صوتَ حافظٍ الشِّيرازيِّ :
“وارتضيتُ عزلتي
كما ارتضاها الفرجارُ
يدورُ حولَ محيطهِ
ولكنَّ القدرَ جعلني في النِّهايةِ كالنُّقطةِ
في وسطِ الدَّائرةِ “
والشَّاعر ُيتمسَّكُ بالذَّاكرةِ لحظةَ أنْ يسودَ الخرابُ ، وتذهبُ العقولُ , وهو يطلبُ من نفسِهِ أن ينسى الهزائم َكلَّها ، وألا ينسى رأسَه في الزِّحامِ الهادرِ.., ولا يكتفي الشَّاعرُ بنجاته الفرديَّةِ منْ طوفانِ الجنونِ ؛ بلْ يأملُ في أكثر من ذلكَ ، فيقولُ في لحظةٍ إشراقيَّةٍ نادرةِ التَّحقُّقِ في التَّجربةِ الضَّبابيَّةِ :
“خُذ الهياكلَ كلَّها
خذْهَا وراءَكَ..,
مزّقْ الهواءَ بهديركِ النُّحاسيِّ ,
بظفركَ المعدنيِّ.. حُكّ الصَّهيل ” (ص: 12)
الخروجُ منْ الجثَّةِ
ورغم الجليديَّةِ المطبقةِ ، والجاثمةِ على صدرِ الكونِ ، حتَّى لتكاد أنفاسُهُ تبدو متجمِّدةً على طولِ الخطِّ .., فإنَّ الذَّاتَ الشَّاعرةَ ؛ المكتفيةَ بذاتها في ذاتها ، تأبى استمرارَ فعْلِ السُّكونِ إلى ما لا نهايةِ ؛ فتتحرَّكُ قدرَ ما تستطيعُ , ولكنَّها الحركةُ الدَّائريَّةُ حولَ محورِ الثَّباتِ في حقيقةِ الأمرِ , وتبقى مُحصِّلةُ الوضعِ النِّهائيَّةُ كما هيَ . إنَّها حالةُ النُّشورِ ، المشكوك في استمراره ؛ حيثُ يخرجُ المرءُ منْ جثَّته عاريًا ؛ فيجدُ ” المذبحةَ في طريقهِ “، أو يجد ” الضَّياعَ”, يقولُ في موضعٍ :
“سأخرجُ من هذه الجثّة, كما جئتُها, عاريًا , ووحيدًا بهوائي وأضرحتي وأشعاري المُريعةِ , ضاريًا , إلى المذبحَةِ .”
. ويقول في موضعٍ آخر :
“سأخرجُ من هذه الجثّةِ مُتّجهًا إلى ضَياعي .”
محطَّاتٌ متلاحقةٌ للتَّعبِ ، هيَ تلكَ التي يتنقّلُ بينها الشَّاعر شريف رزق ، بدونِ وصولٍ حقيقيٍّ إلى مُرفأ واضحٍ , سوى مرافئ الوحدةِ والوجومِ .
أمّا الأسئلةُ فليسَ لها وجودٌ في الرّحلةِ المُضنيةِ ؛ فهيَ أسئلةٌ من نارٍ , وإجابتُها الوحيدةُ هيَ التوهة والنُّكرانِ ؛ غيرَ أنَّ الذّاتُ الشّاعرةُ مطمئنةٌ إلى حقيقتِها المستقرّةِ داخلها, وإلى إجاباتِها الخاصَّةِ عن كلِّ تفاعُلاتِ الكونِ والبشرِ والوجودِ , في حين لا تنتظرُ تلكَ الذّاتُ أحدًا .. يقولُ :
“الأسئلةُ التي حرَّقتْنا
سحقناهَا بالنِّعالِ
, وابتردْنا على المَداخِلِ
على المَداخِلِ التي لم تتَّسعْ لِسِوانا
, ولمْ ننتظرْ أحدًا
عبرْنا على بقايا كلامٍ
وشَواظٍ أنكرْتنا
فازْدردْنا غَمامًا وأبخرةً ,
وارْتحلنا واجِمينْ .” (ص ـ 67)
المرأةُ والجحيمُ
ووسطَ هذه الحالاتِ من الاكتفاءِ بالذّات، والاكتواءِ بالسَّعير حينًا ، وبالجليدِ حينًا, تأتي الأخرى أو المرأةُ ؛ لتكونَ بمثابةِ مُحاولةٍ للخلاصِ ، أو لإعادةِ الصِّياغةِ على نحو أفضل ؛ ولكنّ الذّات الشّاعرة لا يُرضيها احتمالُ التَّوحُّدِ بهذه الأخرى , وتُؤثرُ أنْ تذهبَ إلى يقينِ الفراغِ ؛ لأنَّه مفهومٌ أكثر رسوخًا من الاحْتمالاتِ , يقول :
“هكذا جاءتْ المرأةُ الأخرَى
وفكَّتْ لي ضلوعي
فجمعتُها في جيوبي
ونثرتُها في جحيمٍ
وهكذا جئتُ
للفراغِ الّذي لا ينتهي .” (صفحة 48)
الجديرُ بالذِّكرِ ـ وهكذا يرى الكاتبُ خيري شلبي ـ أنَّ للشَّاعر شريف رزق مذاقه الخاصّ بين الشُّعراءِ المصريينَ , وهذا المذاقُ ينبعُ منْ طبيعةِ الثَّمرةِ التي ينتمي إلى فصيلتِها ، أو تنتمي هيَ إليه ؛ وهيَ ثمرةٌ لا شكَّ ذاتُ نكهةٍ رصينةٍ أقرب إلى لذعةِ ثمرَةِ الكولا , أو ثمرَةِ الكرْزِ النَّاضجةِ , سرعانَ ما تنجابُ لذعتُها عنْ شعورٍ بالانتعاشِ ، وَمِنْ أهَمِّ المَلامِحِ الَّتي وَشَتْ بِهَا قَصَائِدُهُ الأولى أنَّهُ شَاعِرٌ يَمْضِي على طَرِيقٍ يَعْرِفُهَا جَيِّدًا ، وَيَحْفَظُ سِكَكَهَا وَدرُوبَهَا وَيَعِي مَا يُريدُ أنْ يَصِلَ إليْهِ مِنْ أهْدَافٍ بَعِيدَةٍ ؛ أيْ أنَّهُ شَاعِرٌ طَمُوحٌ جِدًّا ، وَأظُنُّ أنَّ لَدَيْهِ مِنْ الاسْتِعَدَادَاتِ الذَّاتيَّةِ وَالأدَوَاتِ مَا سَوْفَ يُسَاعِدُهُ على بِلوغِ طُمُوحَاتِهِ في أوْقَاتٍ مُبَكِّرَةٍ ، وَمِنْ هَذِهِ المَلامِحِ أيْضًا أنَّهُ شَاعِرُ “الطَّبخَةِ” الوَاحِدَةِ – إنْ صَحَّتْ الاسْتِعَارَةُ – أعْنِي أنَّ كُلَّ تَجْربَةٍ شِعريَّةٍ عِنْدَهُ تَجِيءُ مِنْ نَسِيجٍ وَاحِدٍ لأنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْهُ في الوَاقِعِ غيْرِ مُحَمَّلَةٍ بِأنْفَاسِ غَيْرِهِ أوْ ظِلالِهِمْ أوْ مُنْجَزَاتِهِمْ .”