أحمد المديني
من علاقتي الطويلة نسبياً بقراءة الرواية، وبثقافة نظرية نقدية موازية، وبخوضي تجربة كتابتها وحرث ترابها بنسبة أيضاً، أجازف فأختصر ثلاثة شروط لإمكانية توافر رواية على تجنيس ونسَق، ووجود روائي بكيان ووضع، وأقول إنها متشابكةٌ متفاعلةٌ بينها ومتكاملة.
أولها، أسميه اقتفاء الأثر. أعني به أن الروائيَ قبل أن تستتب كتابتُه، سردُه، على نحو من الأنحاء، ويصل إلى إقرار وضعه (statut) لا بد يكون قد قرأ أعمالَ سابقيه بعناية واستجلاء ثم وعيٍ وتمثل، لا لغرض معرفة ما الجنس الأدبي الذي هو بصدده وحده، بل كذلك لاستطلاع آفاقهم في الدراية به فنّياً وبإمكاناته ومقدراتهم في التعبير عن الواقع وخبايا النفس الإنسانية.
ثانيها، لصيقٌ بالأول، وينتج بالممارسة، يحصل بالمثابرة وتجربة الكتابة على أكثر من مِحك وامتحانِها بين جاذبياتِ الموهبة والرغبة والأهلية، وحين تتحقق المعادلة الصحيحة بينها وتتوازن لن تكتفي بكتابة الرواية، بسرد القصص مثلاً والأحداث وبقية العناصر، الأصح أن تمتلك المفهوم، أي لماذا الرواية بالذات هي تعبيري لا المسرحية مثلاً، أو العكس.
وهذا ليس بدَهياً إطلاقاً رغم بداهة الطرح شكلاً، لو تأمله كثير لخفّ حمل أسفار منها تنشر بلا طائل.
ثالثها، يترتب عن سابقيه، وباختصار شديد أن يصبح للروائي المفترض أسلوبه المجتمع في طريقته للسرد والحبك والوصف والقول ببلاغة متّشرّبة تخصه فتقول عنه هذا هو لا غيره، ولنفترض أنه تقلبَ أو نوّعَ في الأساليب فإنه لا بد مطمئنٌ إلى سبيل، صانعٌ لنسَق أو لا يكون.
اقتفاء الأثر
أحسَب هذه الشروط الثلاثة، ولها تفريعات، حاصلة عند الكاتبة المصرية ميرال الطحاوي، وأحببت أن أسجل هذا توطئةً لقراءة روايتها الأحدث “أيام الشمس المشرقة” (دار العين، 2022).
ومن قراءتي لهذه الكاتبة أستنتج أنها اقتفت أثراً، آثاراً، ويكفي أنها بدأت بـ”نقرات الضباء” (2002) عنوان دالّ على معنيين، وتواصل الاقتفاء ليصل إلى “بنت شيخ العربان” (2020). فيهما بدأت من البحث عما سلف بتقصّي الأثر على الأرض وعند السلالة وفي الروح والجسد، راكبة صهوة اللغة التراثية واللسان الشعبي وأصوات المُهج تقول هويةً هاجت وتموت، ووقتاً حيّاً ويترنّح وهو يفوت، وأشخاصاً/ شخصياتٍ عاشت/ تعيش وهي على حافة الهاوية هالكة. إن هذا العالم أو العوالم حين يُراد نقلُها إلى مضمار الفن تحتاج إلى شكل، إلى نظام، أو هو كلام عام وحديث سُمّار، فتضع ما يجول في رأسها وخاطرها وحصيلة بحثها، لأنها تبحث بدقة، تنقّب في الآثار والمخطوطات والعناوين، فتجد كتابتها تتوهج ومفخخةً بالتّناصات، يمكن عزلُها وحدها نصاً موازياً، وكله يصنع تصوّراً خصوصياً للرواية قوامه، قالبُه الخاص الحكاية، وهو مفهومها أو نفترضه نحن لها في الرواية وينسجم مع أسلوب به تعنى وتتميز.
حيوات مأزومة
في روايتها “أيام الشمس المشرقة”، تواصل الطحاوي استقصاءها بإعادة دورة تكوين الأرض ومن وما فوقها على طريقتها، ما دامت كل رواية حقيقية هي تنشئة وجود من موجود، يتم فيه الإيهام بحياة أخرى عبر شخصيات في أمكنة وأزمنة وهي ذات حيوات غالباً مأزومة.
القبض على الأزمة، معضلة الوجود هو جوهر الرواية وإشكالية (البطل) فيها وإما لا تكون. تقترح علينا القصة التالية وترسمها بحَرْفية ومادية بحت كمن يُشيّد عمارة من إسمنت مسلح ورأسها يضرب في سماء التجريد، مكانها لا مكان، ولا زمنيتُها الزمن.
هي مجموع قصص، مسبوكة في سبحة حكايات عن مجموعة أفراد وصلوا مهاجرين من بلدانهم الأصلية إلى أرض سمّتها “الشمس المشرقة” في جغرافيا موصوفة بحدود الساحل الغربي الجنوبي لقارة لا تسميها ومن جملة إشارات دالة غامضة يستنتج القارئ أنها أميركا الشمالية، سيظفر في نهاية الرواية باسم (أريزونا ص274).
تعمية مقصودة لكي نركز على الأفراد أو الشخصيات في وضعها الجديد، نتابعها تجرّ ويلات سلالية عائلية وخيبات حياتية دفعتها دفعاً إلى الترحال.
لهذه التيمة المركزية شخصية محورية “نعم الخباز”، تتفرع منها وحولها يُصنع محيط دائرة شخصيات تُرصَد فردياً ومثنى (في علاقة) وضمن وضع جماعي فِعلي حيّ وفي الآن سديم. لكل شخصية قصة تُروى في البداية منفصلةً في المصير الذي انتهت إليه ومنه يتم الرجوع إلى الجذور، فنتعرف إلى نشأة نعم الخباز في بيئتها الأولى وما عانته إلى انقطاع هذه الجذور ولم يكن لها بد من الرحيل.
شأنها شأن “أحمد الوكيل”، الذي طوَّحت به مأساة أمه في قرية الفقيه أبي عبد القادر هارباً من العار واستحالة العيش إلى قارة غربية في أقصى الأرض. كذلك نجوى، بنت أسرة المجد الآفل أباً وأمّاً خائبين وعمة تسعى لإحياء إقطاع.
نجوى، الطالبة الباحثة الفاشلة في علم الاجتماع وسط مجتمع أكاديمي مطبوع بالزيف والمساومة والفساد، من تتعرض لكل أنواع المهانة في وسطها بدءاً من الإكراه الفيزيقي وحين تفنى الأسرة تنزح بدورها إلى بعيد.
في السياق ذاته، سليم نجار متعدد الأنساب/ المثقف والثوري والمفكر والشاعر والفنان يُختصر بنموذج الفشل المزدوج بالأوهام يسوقه إلى هجرة حتمية.
فرص البقاء
تلتقي هذه الشخصيات المنتمية كلها إلى بلاد عربية ومسلمة (مصر، أولاً)، إلى جانب أخرى من إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية (صورة للمتسللين من الحدود والهاربين في قوارب الموت)، في المكان الذي سمته الكاتبة ورسمت له تضاريس وشيّدت أبنيتَه وديكورَه وخرائبَه وحتى مقابره وسنّت قوانينه وربطت علاقاته.
عالم واقع في الدونية، شماله أثرياء الجنة الأبدية حيث يعمل المهاجرون والباحثون عن فرص للبقاء لا غير، هم مجتمع رجال ونساء متناصف متعادل تقريباً في الشقاء والعذاب تُعليه الكاتبة بإمعان الطبيعة في التنكيل بهؤلاء المعذبات في الأرض رمزهن “نعم الخباز”، محروقة الوجه الدميمة المنبوذة من الرجال، كذلك نجوى القصيرة البدينة، بل أغلب الشخصيات مشوهة شكلياً ومخرّبة نفسياً (الضخامة، النّحولة، الدّمامة، قِصر القامة): “ينظر صورة المعلم ص 91 وزوجته ص 92”.
هي نزعة “الغروتيسك” علامة، دالّ سيميائي على مدلول لا ينفكّ يكبُر ويهوُل بمحتوى الاجتثات والوحشة وقسوة الطبيعة ورداءة المعيش وسوء المآل ليصنع دلالاته بجماليات القبح. هي ملازمة للرواية صريحة ومضمرة، بانية ومتخللة، معنونة بمعنى المفارقة وبلاغة الطباق: عالم تعيس وجغرافية قاسية ومصائر تالفة في أرض تسمى “الشمس المشرقة” ويسمى طباق التضاد وله أنواع بين تكافؤ ومطابقة ومقاسمة قد يُذكر فيه الشيءُ وضدُّه أو معناه باختلاف تفسير البلغاء.
ثمّة خريطة كاملة يمكن رسمها بحذافيرها من التضاريس الدقيقة لأرض معينة بطوبوغرافية وأوصاف محددة تقول إنك تراها بالعين المجردة، الشمال والجنوب، الجبل والبحر والخليج، المنعرج والمنبسط، إلا الفصول أغلبها ثلوج ورياح هُوج والرمادي كِساء، لتعميق دلالة الطِّباق تغذّيها نفوسٌ متجهمةٌ وأجسادٌ محطمةٌ وأحلامٌ آيلة ٌ للزوال.
لكنّها في الوقت ذاته خريطة وهمية وتجريد، فهذه الأرض (no Man’s Land) وما لا اسم له ويعيّن بصورة عنه مجاز، وكل ما تقع عليه العين القارئة الرّائية من تسميات وأوصاف وأشكال، وباختصار ما تعتمده الرواية من محددات واقعية ضرورية لها إنما توفره الطحاوي بتكديس وإعادات وتكرار مسرف يعتبر بلاغياً كناية عنه، والكناية: “أن تتكلّم بشيء وتريد غيره، وكنّى عن الأمر بغيره كناية” (ينظر أحمد مطلوب، معجم المصطلحات البلاغية، لبنان ناشرون، 2007، ص568).
والمراد على ما قال الجرجاني والسكّاكي إثبات معنى لا باللفظ وإنما بمعنى هو تاليه ورِدفه، وهو القصد الشائع الأعم في” الأيام [غير] المشرقة”!
ترحال الإنسان
من نافل القول اعتبار ميرال الطحاوي كاتبة ذات نزعة رسالية ورسولية أيضاً، فهذا من طموح ومزعَم الأدب والأدباء، وإذ يتواتر ويتعمق في رؤية للعالم بمنظور متصل يصبح عقيدةً أو إيديولوجياً. ليكن، المهم ما هي أعمدته روائياً وكيف يستقر مفهوماً في أكثر من عمل.
من تحصيل الحاصل أن الموضوع المركزي لرواية الطحاوي هو الهجرة وترحال الإنسان بحثاً عن مصير أفضل وربما هي الحياة كلها، هكذا هي رحلة بحث بدأها الإنسان منذ طُرد من الجنة وواصلها عوليس في أوديسة هوميروس ويرسو مركبها اليوم في ضفة الطحاوي لتجدد معناها وشكلها، هي نفسُها كاتبة اغتنت تجربتها بكسر طوق الأوطان وتذوّق طعم الاغتراب.
هو عندها معنى إنساني إشكالي أضحى أكبر من حيّز مكان واحد ليصبح في كل ولا مكان. ثانياً، لتخفّف من تجريده تستنبته من أصوله الفانية كما سردتها قصص الشخصيات، وثالثاً وهذا حاسم عندها، أن توصل رسالتها جهيرةً تقريباً كأن كل ما روت وشخّصت ووصفت وقالت على لسان شخصياتها لم يكن كافياً شافياً، فما المطلوب إذن؟
نزعية رسالية
وضعت الطحاوي منذ البداية استراتيجية لروايتها: معماراً وبلاغياً وسردياً. يعنينا الأخير حيث وضعت سارداً عليماً كليّ الحضور، فكانت وقالت (قال) وقبضت (قبض) على جميع الأزِمَّة، لا نفس وصوت إلا من حنجرت(ه)ها ومسام(ه)ها وحد(ه)ها تقود عربة السرد بلا توقف، كأنها عربة مدام بوفاري، مرآة عاكسة وتنعكس فيها نفوس وأمزجة الشخوص ورأيها بامتياز، لذا تحرص على تقديم المشهد والتمهيد لدخول الشخصية وتركها تلعب، والشرح والتعليق على لعبها ووضعها، بأسلوب تقريري قَوّال، نزعة تلازم الرواية العربية بحكم أسبقية النزعة الرسالية فيما يعتبرها البعض توكيداً للمعادل الموضوعي وترسيخاً لخطاب واقعيتها ليس منه بد مهما جددت ونوّعت لا بد تفصح عنه في الأخير.
وهذا ما نصل إليه في النهاية نتيجة لـ”رواية أطروحة” مكتملة الأركان، بين مقدمة وعرض وخاتمة جنائزية للمهاجرين السريين على متن مركب “عين الحياة” من باب المفارقة وصورة الطباق تموت ممثلة في جثث الأطفال العائمة مع جثة “ميمي دونج” وكلاب البحر النافقة فوق رمال الخليج!