التراجيديا وغزة: وجهان لإنسانٍ واحد

rawan hussain
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

روان حسين

لطالما تَناهَتْ إلىّ تساؤلاتٌ عدةٌ بداخلي وأقصيتها مرارًا، لكنني الآن مُحاصرٌ حصارًا حزينًا، بين سؤالٍ وصورةٍ، صديقٍ ووداعٍ، حنينٍ وألفِ دمعةٍ، بين قسوةِ الدهرِ وطولِ الغيابِ، كَفُّ طفلٍ ووعاءٌ فارغٌ، نظراتٌ صماءٌ ووجوهٌ شاحبةٌ، إنسانٌ واثنان وعشرون غابةً، مُحاصرٌ بين كفنٍ وقماطِ طفلٍ حديثِ الولادةِ، بين اختلاطِ التهاني بالتعازي… ويبقى السؤالُ المنفردُ بنخرِ جدارِ الروحِ دائمًا: «كم مرةً علينا أن نتوادع؟»

قبيلَ كلِّ سفرٍ كُنّا نودعُ الأهلَ والرفاقَ، ونحزمُ حقائبَ السفرِ وبداخلنا صوتُ فيروزَ: “ضلوا تذكرونا”، وبدموعٍ تلمؤها الشكوكُ: هل سيسمحُ لنا القدرُ بالعودةِ مرةً أخرى؟ نودع الحارةَ والزقاقَ والبحرَ، متنفَّسَنا الوحيدَ في بقعةٍ تكاد تكونُ شحيحةً بالأوكسجينِ لكثرةِ دخانِ الغاراتِ، والشهداءِ والدماءِ التي تتصاعدُ كلَّ يومٍ منذ خمسٍ وسبعين سنةً. يموتُ عزيزُك وأنتم في نفسِ القطاعِ، وأطولُ وقتٍ بينكما ساعةٌ، لكنك لا تقدرُ على وداعِه؛ لا قبلةً على جبينٍ باردٍ، ولا نظرةً تُشبعُ العينَ التي سيغيبُ عنها دهرًا، ولا حضنًا يرممُ خرابَ الأيامِ بدونه. الوداعُ المتعارفُ عليه في العالمِ لم يُنصفْنا قطّ، وحتى سبلَ الموتِ قابلناها في أحلكِ الظروفِ وليلٍ طويلٍ لم تبزغ فيه شمسٌ بعد. واجهنا الموتَ في البيتِ، الشارعِ، الحاراتِ، خلفَ ستارِ المطبخِ، وفي بطونِ أمهاتِنا؛ لا ننجو من شظيةٍ أو صاروخٍ أو ربما أنيابِ دبابةٍ ضخمةٍ، وما زلنا نرقبُه وننتظرُ تصنيفَ القدرِ لنا. كما يُقالُ: “الحزنُ يعرفُ أهله”.

هذا الحزنُ عاشَ بيننا سنينًا؛ يحفظُ الأشياءَ المفضلةَ لنا عن ظهرِ قلبٍ ليعودَ وينتزعَها منا كلما سنحت له الفرصةُ. نالَ من حصصِ الفرحِ خاصَّتِنا، زارنا كثيرًا ولم يرحَلْ عنا لثوانٍ. ولأولِ مرةٍ بعد قرنٍ وشيءٍ من الأيامِ أوقنُ بأن الصديقَ الفعلي لغزةَ، من أكبر شيخٍ فيها إلى أصغرِ طفلٍ، هو الحزنُ. لا غرابةَ في لفظِ “صديق”؛ فكلُّ ما يندرجُ تحته ليسَ عليه أن يكونَ جيدًا—صديقُ سوءٍ على الأحرى. والإنفكاكُ من الحزنِ في هذا العالمِ كُلِّه، بحدودهِ وخرائطهِ، يبدو مستحيلًا.

أتنقلُ بين حديثِ الغرباءِ في الطرقاتِ وعلى المواقعِ: حزنُ امرأةٍ لأن صبغةَ شعرِها جعلتها أدكن درجةً، بينما نساؤنا في غزةَ قد أصبحتْ وجوهُهن مترهلةً وملامحُهن أكبرُ من مقاسِهن، وشعرُهن تفطَّرَتْ خيوطُه بالخيوطِ. وبين عاشقٍ وعاشقةٍ يتجولان بأيدٍ متشابكةٍ في مكانٍ ما، تبكي أيُّ عاشقةٍ في غزة سرًّا لأن حبيبَها تركها بنارِ الحبّ والذكرى. وبين أمٍّ تتفسحُ بأبنائها وتجرُّ طفلها الأصغر بعربةٍ تملأها صورُ الكرتونِ، نفسُ المشهدِ يتكرر في بلادي: أماً أخرى تجمعُ أبنائها لإطعامهم فتزهقُ طفولتهم آلةُ حربٍ وتتركُ لهم دماءَهم التي تُخضب أناملَها ذكرى. وأمٌّ أخرى تجرُّ ابنها على عربةٍ مليئةٍ برائحةِ الدمِ لكثرةِ ما اعتمدناها لنقلِ الشهداءِ. كلُّ معاييرِ الأرض تنقلبُ في غزة؛ كلُّ أداةٍ لها وجهُ استخدامٍ واحدٌ يُجبرونَ على جعلِها مثلَهم تتماشى مع كلِّ الظروفِ.

تعبنا من كوننا أساطيرَ نريد هدنةً من الأشياءِ التي تكاد تخنقُنا: حصةً من الحياةِ التي لم نَعِشْها ولو مرَّةً واحدةً. في كلِّ مرةٍ ضحكنا فيها من قلوبنا وتبادلنا النكاتِ، أسكنا صوتُ الخوفِ ليذكرَنا بأننا غير مسموحٍ لنا بالحياة: («الله يجعل ضحكنا على خير، الله يستر، شو بده يصير بكرا؟») كأننا وُجدنا لاستقبالِ الحزنِ وقِيلانهِ بألوانه التي جعلت طفلًا لا يتجاوزُ الخمسةَ أعوامٍ يودعُ عائلتَه كاملةً ويصنِّفهُ القدرُ ناجيًا وحيدًا ليستقبلَ حياةً عريضةً تملؤها الصعوباتُ وحدَه، بدون أمٍ تُصففُ شعرَه وتعدُّ له حليبًا دافئًا يشبهُ براءتَه مع قليلٍ من الزعتر، أو أبٍ يلاعبه ويحتضنه ويعلمه أنه في ظهرِه دومًا وأنه الوجهةُ الأولى إن أصابته حيرةٌ أو أذى، أو أختٍ تقاسمه حصةَ السمرِ والأحلامِ قبلَ النومِ. كيف له أن ينفّذَ خططه الشيطانيةَ الصغيرة بضربِ ولدِ الجارِ بدون أخٍ أو أختٍ تثني عليه بطولتِه وقوَّةِ شخصيتِه؟ كيف له أن يكبرَ بقلبٍ متعكزٍ شُلَّ فيه عمودُ العائلة؟

وبين طفلٍ آخر بُتِرت ساقاه، وكانَتْ هوايتُهُ الوحيدةُ كرةَ القدمِ؛ كيف له الآن؟ هل عليه أن يموتَ ثلاثَ مرّاتٍ؟ مرةً حينما اغتالتْ طفولتَه، ومرةً عندما يراقبُ أبناءَ جيله يلعبون بساقَيْهِما وهو يقتصرُ على التشجيعِ فقط، ومرةً حينما يشيخُ بقدمٍ واحدةٍ والكثيرُ من الحسرةِ…

في فلسطينَ لا شيءٌ يسمى “الطفولة” لأننا نولدُ جميعًا على عاتقِنا أحزانٌ ومسؤولياتٌ كبيرةٌ: دور تعبئةِ الماء، دور شحنِ الهاتف، أو ربما دورٌ على طابورِ الأحزانِ كدورِ لتكفينِ أخيه، أو المشي في جنازةِ أبيه بينما سيحتمي هو بنعشِ أبيه للمرةِ الأخيرة قبل أن تسحبه الدنيا لمعاركِها مُبكرًا…

حبيبتي يا غزة، حالٌ بيننا جرحٌ لم نحظَ بنهايةٍ، لم نقل وداعًا، ولِبقيةِ حياتي سوف أتساءل: لماذا؟

مقالات من نفس القسم