التائه

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

مشى بشكل غريزي وبدون هدف، مشى وكأنما يستجيب لنداءات آتية من بعيد.

في هذه المدينة يشعر أنه لا يحتاج إلى خريطة ولا تصميم ولا بوصلة، يكفيه أن يطلق العنان لروحه الشاردة.

يدخل من البوابة الشمالية، يخترق أزقة المدينة القديمة، باب دكالة، حي الملاح، درب العلوج، يعرج على السقالة، يصعد، يتوقف في مكان مرتفع، مكان يهيمن على الأفق، يلتفت يمينا ويسارا، وينظر، الأبراج، الأسوار التاريخية للمدينة، الميناء، الجزيرة، الكورنيش، دار البارود…

تهب ريح من جهة البحر، يتطاير رذاذ الموج، يستشعر برودته على وجهه، يستشعر ملوحته في عينيه وعلى شفتيه.

ينتعش، تنتعش روحه.

بعض المدن تشعره بالخوف، بعضها تشعره بالغربة، بعضها تخنقه، بعضها تشعره بالقرف، وأخرى تشعره بالكآبة والملل، فقط في هذه المدينة يشعر بالسعادة، سعادة مصدرها الحرية والهدوء والبساطة واللامبالاة.

يتساءل بداخله، لم تسكنه هذه المدينة؟ لم تهيمن عليه؟

ترتسم بداية ابتسامة هادئة على وجهه، تتسع تدريجيا.

بدا وكأنه وجد الجواب، بالنسبة له لم يكن الجواب صعبا، ففي كل ركن هنا تتراءى له أطياف من طفولته البعيدة، ينخرط في لحظة بياض قوية، يعود الماضي مفعما مثل نهر جارف، تتوالى صور الذكريات مثل شريط سينمائي، صور بالألوان، بالأبيض والأسود، بالرمادي، الملاح القديم، مدرسة اليهود، حديقة الغضبانات، ساحة أورسون ويلز، الليالي الممطرة، الكز القارس في صباحات ديسمبر الباردة، حيطان رطبة تنز بالماء وتفوح منها رائحة البحر، الطريق إلى المدرسة، بدلة النيلون الخضراء، الصندل المطاطي الأبيض، أريج غريب تمتزج فيه روائح القهوة والحليب والخبز المحشو بالشعرية في المطعم المدرسي، البيوت الواطئة لماخور المدينة، سجائره الأولى، شاربه الطفولي الذي حلقه مرة أو مرتين ثم تخلص منه إلى الأبد، وسامته الملساء التي أججت نرجسيته المفرطة، البدايات الأولى لمراهقة عصية وجارفة، الملصقات على واجهة سينما الريف، مباريات الكرة بين (أولاد الخيرية) و (أولاد الزنقة)، قسوة المعلمين وتربية العنف والخوف والكبت الرهيب.

تلاشت الابتسامة، انمحت تدريجيا، ولم يبق منها إلا خطوط حزينة ترسم تعبيرا غامضا لشيء يشبه الألم.

توقف على بعد خطوات من بوابة المسجد الكبير، توقف للحظات، وقف جامدا مثل تمثال، يرتفع صوت الآذان، صوت قوي، حاد وبدون جمالية، يتعالى، تنفخ فيه الريح، تعبث به، يخترق فضاء المدينة، يمضي، يسافر، يتبعثر، يتلاشى، ثم يعود رجعا بعيدا، يرفع بصره إلى الأعلى، ينظر للصومعة، يتأمل التفاصيل، السور العالي بأسنانه المدببة، الجامور، القرميد الأخضر، تفاصيل تليق بقلعة منيعة من القرون الوسطى، وقف هناك وكأنه يستوعب الموقف، بدا مترددا للحظات، ثم لسبب ما يجهله حسم أمره ودلف إلى الداخل، نزع حذائه، مشى في الممر الطويل، ثم مشى في الباحة المكشوفة، استشعر قساوة الحصير، استشعر بعدها حرارة الزليج تحت قدميه وهي تخترق  تفاصيل جسده، توقف أمام النافورة، جلس على الحافة الرخامية، رفع سرواله قليلا، شمر على ساعديه، توضأ في حركات منتظمة ومحسوبة، أسبغ عليه الماء بسخاء، أحس بالانتعاش، اختار مكانا قصيا، صلى ركعات، مدد ساقيه في وضعية مريحة، استسلم لخيوط الشمس الدافئة وراح يرقب حركة المصلين يدخلون ويخرجون…

يفكر، تساءل بداخله، لم فعل ذلك؟

لا يدري.

يستعيد بداخله كل الأسئلة الغامضة التي تنتصب أمامه في كل مرة، والتي لم ينجح أبدا في أن يجد لها أجوبة مقنعة.

ارتسمت ابتسامته الغامضة مرة أخرى، أحس ببعض الدهشة عندما فكر أنه لم يخطئ في الحركات التي يتطلبها الوضوء، فقد انقطعت علاقته بالمساجد منذ عقود من الزمن، انقطعت بفعل فورة الشباب وروح متمردة وجامحة لا تستقر على حال.

يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.

ولكن ذاكرته تحتفظ بالتفاصيل، تفاصيل موشومة، طرية، حية وترفض الانمحاء.

تنغرس شمعة على النافدة الحجرية، تنبعث منها خيوط ضوء خافت، يجلس هو على كرسي خشبي صغير، يقاوم النوم بصعوبة، في الخلفية بعيدا يسمع صوت الآذان آت من بعيد، ينظر إلى إناء الوضوء، يجس الماء بأطراف أنامله، تخترق برودته تفاصيل جسده المحموم، تنتابه مشاعر متناقضة، مزيج من الحزن والعجز والغضب.

لسبب ما اختار والده صباحات موسم الأمطار الباردة، أيقظه لأيام متتالية مع الخيوط الأولى للفجر، أرغمه مرات على الوضوء والصلاة، أحيانا كثيرة توضأ ولم يصل، أحيانا صلى من غير وضوء، أحيانا صلى باكيا، أحيانا بكى فقط، آنذاك، بدا الأمر قاسيا، غريبا، وغير مفهوم لعقله الصغير.

ينبغي أن تمر سنوات لكي يفهم الموقف.

كان والده ينفذ خطة تربوية مدروسة لكسر تمرد بدأت بوادره تظهر في الأفق، تمرد أججته المراهقة ونداء الهرمونات وجرثومة الكتب.

ثم ذات يوم.

وقف منتصبا، استجمع شجاعته، خاطبه بصوت حزين، مجروح وغاضب.

 – لم تصر على إيقاظي في هذه الصباحات الباردة؟!…لم تفعل ذلك؟!…أنا لا أصلي، لن أصلي أبدا، دعني وشأني!

يضع الأب سبابته تحت ذقنه، يرفع وجهه الطفولي إلى الأعلى قليلا، ينظر في عينيه الغارقتين في الدموع، ثم يسأله بصوت حاسم.

 – لم تبك هكذا مثل فتاة؟ أتعرف لم أفعل هذا؟

يصمت هو.    

يجيب.

 – يجب أن تصلي لأنني أحبك…كل هذا لمصلحتك!!

عندما عاد إلى نفسه، رأى رجلان يصليان أمامه على بعد خطوات، نظر إليهما مليا، تأملهما، أحدهما أجنبي، بدا ذلك من سحنته وشعره الأشقر، لم يكن صعبا أن يفهم أن الرجل الأجنبي حديث عهد بالإسلام، وأن الرجل المغربي بجانبه يلعب دور المرشد والخفير في رحلة البحث عن الخلاص واكتشاف دين جديد، يصلي الرجل المغربي في حركات نمطية، حركات تعمد أن تكون بطيئة وهادئة، يتبعه الرجل الأجنبي، يقلده مثل تلميذ مبتدئ…

عندما غادر الرجلان، تملكه شعور غريب، استيقظت أسئلته الوجودية مرة أخرى، استعاد بداخله فكرته الخاصة عن الدين والسعادة والحياة وعلاقته المعقدة بالسماء، عقيدة مركبة تخصه لوحده، يمتزج فيها الدين والدنيا والمتعة والخطايا بالأمل وفكرة الغفران.

يتحدث البعض بكثير من الحماس عن تجاربهم الروحية واكتشاف أديان وعقائد جديدة، هو يتفهم ذلك، يفهمه، يفهم أن الدخول في دين جديد هو أمر معقد، تجربة رمزية، مشحونة بالمعنى، غنية ومدهشة، تجربة يتقاطع فيها في نقطة ما ما هو عقلي وروحي بما هو نفسي، ولكنها بالتأكيد تجربة مريرة وقاسية، فالدخول في دين جديد يعني أيضا الخروج من دين آخر ومغادرته، ولذلك فهي تجربة محفوفة بالمخاطر، وأحيانا كثيرة تجربة مهددة بالفشل والتيه والضلال…

خاطب نفسه بصوت مسموع.

– لا نكون سعداء بمجرد الهجرة إلى بلدان الآخرين وعقائدهم…

بسبب طفولة مضطربة، وبسبب مراهقة مستعصية وجارفة، لم يتمتع أبدا برفاهية اليقين الديني، لم يكن أبدا متدينا، أو هو متدين بطريقته، ولم ينجح أبدا في أن يكون مطمئنا من الناحية الدينية، صحيح أنه لم يفقد أبدا إيمانه، ولكنه لم يكن إيمانا تقليديا، كان إيمانا قلقا، هشا ومهددا باستمرار، إيمان تنفخ فيه الريح وتذروه في كل مرة، ريح الشك والحيرة والبحث عن المعنى والحرية والسعادة والخلاص.

مالت الشمس نحو المغيب، توارت تماما خلف الجزيرة، ترسم خيوطها تفاصيل غسق جميل، ملون وحالم، غير المد وتيرته، وبدأ البحر في التراجع، بسرعة اختفت الجزيرة ودار البارود خلف الضباب المتصاعد من الجنوب، في الأفق بدت مراكب الصيد الصغيرة مجرد خطوط ونقط ضوء باهتة، هبت رياح تيار الكناري الباردة، وبدأت طيور النورس تهبط استعدادا للمبيت في ساحة المرسى وعلى أسوار السقالة…

يلعب الموج لعبة الحياة والموت، يمشي، يسمع وقع خطواته وهي تنغرس في الرمل المبلل، بدا هادئا، غائبا، ومنخرطا تماما، تملكه إحساس عجيب، شيء يشبه الرضا والاستسلام.

 لسنوات طويلة كان البحر ملجأ لروحه الشاردة، يلوذ به في كل مرة يستشعر حاجته للصمت والعزلة والتيه بعيدا عن ضغوط العمل وضجيج الحياة الاجتماعية، لسنوات طويلة كان البحر بلسما لجراحه التي لا تندمل إلا لكي تنفتح من جديد، جراحات نرجسية تضرب جدورها بعيدا في طفولته الأولى.

يغوص بداخله، يستعيد شريط حياته في صور سريعة ومتلاحقة، يفكر في علاقته بالبحر، علاقة معقدة يمتزج فيها الحب والرهبة والخوف بالانجذاب لأسباب مبهمة لا يذكر منها إلا رهاب الماء والخوف المرضي من الغرق…

عندما عاد إلى نفسه، توقف قليلا وكأنما تذكر أمرا ما، التفت، كانت المدينة قد اختفت، مد يده إلى جيب سترته، أخرج  سيجارة، مال قليلا تفاديا للريح، أشعلها بصعوبة، امتص منها نفسا عميقا، أرسله بعيدا، بعثرته الريح، تلاشى، استشعر برودة المساء تخترق تفاصيل جسده، شد إليه ياقة سترته ومضى… 

 

مقالات من نفس القسم