أحمد الزناتي
فى أواخر سنة 2016 وقع تحت يدى كتاب «الحقيبة الجلدية» للكاتب السعودى على سعيد. اشتمل الكتاب على مجموعة من اللقاءات مع أدباء ومفكّرين. فى أحد الفصول قرأتُ للمرة الأولى عن المؤرخ السورى العظيم د. سهيل زكّار، الذى تكلّم عن رحلته الثرية وإنتاجه العلمى الهائل، وهو بالمناسبة واحد من أجمل حوارات الكتاب. سيرة د. زكار نفسها تحتاج منا إلى وقفة وتكريم مستحق.
ما لفت نظرى هو الإشارة إلى المؤرخ البريطاني/الأميركى الراحل برنارد لويس. حكى د.زكار عن لقائه الأول مع لويس فى سنة 1964 لما سافر لتحصيل دراسة التاريخ هناك، وكان لويس وقتذاك رئيس قسم التاريخ وأستاذ تاريخ العرب والإسلام فى جامعة لندن. فى الفترة الأولى لم يشعر أحد من التلامذة بتعصّب لويس لديانته اليهودية، بل على العكس ساعد أحد الطُلاب العراقيين (وهى واقعة ذكرها لويس فى مذكراته كما سأشير لاحقًا). فى نهاية 1968 وصل إلى لندن طالب أميركي، تبيّن أن مُكلَّف من جهة رسمية أميركية باصطحاب لويس إلى أميركا. فى 1971 – والكلام هنا على لسان زكّار – طلّق لويس زوجته وتزوج السكرتيرة وسافر للتدريس فى جامعة برنستون الأميركية وقضى حياته هناك، مكرسًا حياته للمهمة المقدسة كما سنرى فى السطور التالية. بقيت هذه الفقرة عالقة فى ذهني، رأيتُ فيها مشهدًا روائيًا/دراميًا مؤثرًا. كهل فى أواخر الخمسينيات، وحيد، مكسور القلب بعد حياة زوجية محطّمة (على إثر خيانة زوجته كما روى لويس فى مذكراته)، يتقاضى راتبًا معقولًا وليس خرافيًا. ثم تُفتح أمامه مغارة على بابا، ويلوح مستقبل واعد براتب مغرٍ ومكانة علمية وامتيازات مادية هائلة، إلخ.
بين الحين والآخر كنت أطالع صفحات من كتب برنارد لويس (وأغلبها مُترجم إلى العربية)، ولم أكن أكمل بضع صفحات. باستثناء كتبه عن الإسماعيلية والحشاشين، فأغلب كتبه متوسطة القيمة – فى تحليلى الشخصى – والسياسي/ الإيديولجى الموجَّـه يطغى فيها على التاريخى العلمى النزيه.
صدرت مؤخرًا الترجمة العربية لمذكرات د.برنارد لويس بعنوان (هوامش على قرن مضى..خواطر مؤرخ مهتم بالشرق الأوسط)، بترجمة رائعة للدكتور عبد الله الأسمري. فى لفتة أدبية بارعة يصدّر د. لويس الكتاب برسالة إلى الآلة الكاتبة فيقول:” أحيانًا تحدّق تلك الآلة فى وجهى كئيبة صامتة، هل هذا تلميح إلى خطر داهم. أحيانًا أخرى تتعاون معي. أحيانًا أخرى تجلس كقاضٍ: تُـنصِت وتُدين، وتفكّر فى إصدار حُكم ما”.
فى مثل هذه الأعمال – أو هكذا اعتدتُ – نرى مراجعة للذات أو إعادة النظر إلى الأفكار أو إبداء الندم على بعض الآراء أو التؤكيد غيرها، لكنى لم أجد شيئًا من هذا، وهو ما عزّز وجهة نظرى فى الرجل، يبدو أن الآلة الكاتبة الأميركية لا تتكلم إلا بإذن أصحابها، أو من يواظبون على دفع مصروفات أعمال الصيانة الدورية لها.
عاش لويس حياة عريضة، زاخرة بالنشاط العلمى المكثف الدؤوب (عمَّر د.لويس حتى نيّف على المئة). وليسمح لى القارئ أن أطوف ببعض المشاهد التى استرعت انتباهي. لا شكَّ أن القَدَر لعب دورًا حاسمًا فى توجيه دفّـة حياته، إذ وقع برنارد الصبى فى حبّ اللغات فى سنّ مبكرة، وهو ما ساعده على صقل الكارير العلمى وساعده فى التميّز عن أقرانه (كان د.لويس يتقن العربية والتركية والفارسية والعبرية بطبيعة الحال وترجم أشعارًا من الأخيرة إلى الإنجليزية). ساعده تعلّم العربية على الوقوف على مصادر نشأة الإسلام ونصوصه الأولى، قرأ القرآن الكريم وألمَّ بسيرة النبى الأكرم (ص). أخذ نفسه بالشدّة.
سأتوقّف عند بعض المحطات التى تساعدنا – وفق قراءتى الشخصية – على فهم آليات الغرب فى تأريخ (تزوير التاريخ)، وصُنع المكّلفين بأداء هذه المهمة على خير وجـه. التحق بجامعة لندن سنة 1933، واختلف إلى كلية الدراسات الشرقية لتعلّم اللغة العربية، وركَّز على تاريخ الشرق الأوسط (التاريخ وليس اللغويات والأدب)، واهتم فى مرحلة الدراسات العليا بالحركات الراديكالية فى الإسلام (الحركة الإسماعيلية الباطنية وطائفة الحشاشين)، ووظَّف الرجل ببراعة معارفه التاريخة لخدمة أهداف محددة، فالحركات الراديكالية فى الإسلام يمكن حملها على وجهيْن متناقضين.
زار لويس مصر للمرة الأولى سنة 1937 ودَرَس العربية فى الجامعة الأميركية بضعة أشهر، كثرت أسفاره إلى تركيا والعراق وسوريا والسعودية وسار البلدان العربية المختلفة، ووطّد علاقته بمؤسسات راسخة وشخصيات نافذة، وقاريء المذكرات سيكتشف كيف بلغت علاقات الرجل مبلغًا عظيمًا، وكان يتردد على مكاتب رؤساء وزراء “الكيان”، قابل الزعيم الخالد جمال عبد الناصر بطريقة عارضة (لم يذكر تفاصيلها) وقابل الساسة وصُناع القرار منهم، مما ينمّ على أن الرجل كان يؤدى أدوارًا/ مهامًا أخرى تتجاوز بكثير كونه أستاذًا جامعيًا متخصصًا فى تاريخ الشرق الأوسط والإسلام.
لفتَ نظرى فى البداية افتخار الرجل واعتزازه القوى بخـدمة جيش بلاده. فى يناير 1940 استُدعى للخدمة فى سلاح الفرسان، ونُقل إلى فرع الاستخبارات بسبب “شغفى باللغات” على حد تعبيره وكأنه الوحيد فى بريطانيا العظمى الشغوف بتعلّم اللغات الشرقية، وفى الصفحات المتصلة بهذه النقطة تفاصيل مذهلة مهمة وكاشفة عن إخلاصه الشديد وولائه لأجهزة بلاده، ووفائه الشديد الذى لا يلين لوطنه، وهى تفاصيل تزيح الستار عن طبيعة الدور المرسوم له مستقبلًا، فضلًا عن أنها تدلّنا كيف يُربَّى الغربُ أبنائه، وكيف يعرِّف الغربُ مواطنيه بقيمة المحافظة على الأرض والدولة والوطن، وكيف يصدِّر لنا رسائل تبشِّر بالعكس وتروِّج لقيمٍ مضادة.
لنتوقف قليلًا عند رؤية برنارد لويس لعلم التاريخ. ولكنى أسأل أولًا: ما التاريخ؟
ثمة غموض يلفُّ الاسم نفسه. فقد يُراد بالتاريخ إما الأحداث المنصرمة وإما الكتابات التى تتكلّم عن الأحداث المنصرمة، ولكن ماذا لو كان الأول [الأحداث] من اختلاق الثانى [مَن كتب الأحداث]؟
فالماضى نظريًا فى آخر الأمر لم يعد له وجود. يقول د. لويس عن هذه النقطة قائلًا:” إن مسؤولية المؤرخ وواجبه يُحتمّان عليه أن يقول الحقيقة كما وقف عليها، الحقيقة كاملة ولا شيء سواها. لا ينبغى أن يسمح لنفسه بأن يكون بوق دعاية أو أن يُستخدم هو كمادة فى الدعاية الفجّة، لأن التاريخ أداة فى لعبة السياسة (ص141). هل أفلح د.لويس فى تحقيق هذه المقولة؟ بل هل سعى إليها من الأساس؟ الحقيقة أنّ أغلب كتابات برنارد لويس تسير فى عكس هذا الاتجاه، فأغلب أعماله تكرّس لوجهة نظر بعينها، أبعد ما تكون عن النزاهة الأكاديمية، وجهة نظر مغموسة فى برميل ثقيل من الأكاذيب والتلفيقات والتحيزات كما شهد عليه بنبرة شديدة العنف، د. نعوم تشومسكى (سآتى لهذه النقطة لاحقًا).
لن أناقش أطروحات برنارد لويس حول التاريخ الإسلامى وتوظيف وقائع بعينها لخدمـة المشروع الذى نذر له حياته حتى الرمق الأخير، فقد سُلِخَ الموضوع بحثًا. لكنى سأمرُّ على بعض الأفكار التى تكشف عن بنية فِكر لويس (كأكبر ممثلى الرؤية الغربية)، ثم أنتقل للمقارنة بينها وبين رؤية إدوار سعيد.
يقول د. لويس إن ملايين البشر خلال القرن العشرين عانوا من مشكلات لا حصر لها بسبب المحاولات المضللة لتطبيق نوع من التوجيه وتأطير الناس من خلال ما يُسمّى حينًا بالهندسة الاجتماعية social engineering. أكاد أزعمُ أن برنارد لويس واحد ممن أسّسوا – ربما دون وعى مباشر – للهندسة الاجتماعية، التى تُعرّف بأنها فن اختراق العقول، وسُميّت هندسة لأن وراءها جيشًا من المُخططين والمهندسين والعمالة الفنية المدرّبة، وأثمرت اليوم عن اختراق وسائل التواصل الاجتماعى لوعى البشر وتزييفه وتوجيه مسار أفكارهم والتلاعب بها.
لم أستطع منع نفسى وأنا أقرؤ كتاب برنارد لويس من العودة إلى كتاب إدوراد سعيد الاستشراق، ومن المعروف أنّ سجالات حادة تفجرت بين الاثنين ، حتى أنَّ د.لويس فى مذكراته التى نتكلم عنها – وبُحرقة شديدة – شنَّ هجومًا حادًا ضد سعيد، وقَدَح فى نزاهة الأخير العلمية ومصداقية ما يكتب، والأسباب معروفة طبعًا.
لكن ما الذى جعلنى أرجع إلى استشراق إدوار سعيد؟ فقرة كاشفة فى مذكرات لويس برنارد حول الرؤية المهيمنة على العقل الغربي. وهى فقرة سافرة مستفزّة تكشف النقاب عن الوجه الحقيقى للعقلية المتشحة بجلود الحِملان، جُملى تحدّد العدو (وفق اصطلاحات د. كارل شميت).
يزعم د. لويس أن التاريخ غارق فى الأساطير والإيديولوجيا (طبعًا باستثناء التاريخ الذى يكتبه هو وأصحابه):”سياق الأحداث أمر فى غاية الأهمية. غاندى الذى نقدّره جميعًا لكفاحه الطويل ضد الإمبريالية البريطانية التى انتصر عليها فى النهاية. نجح فى كفاحه لأنه كان يقاتل عدوًا ديمقراطيًا متحضرًا. ما كان غاندى ليصمد أسبوعًا ضـد هتلر أو ستالين (ص 151)”.
كم هى طافحة بالغرور والصلف و”روح الجاهلية” الفقرة السابقة. لسان حال لويس يقول: أنا محتلُّ شريف، وحتى لو انتصرتَ عليَّ، فلأننى محتل وعدوُّ ديمقراطى متحضر. هذه هى عصارة فكر د. برنارد لويس وموجز الرؤية المهيمنة على منهج التأريخ الغربي. أهذا تأريخ أم تدليس؟
ليس ما أقوله جديدًا، بل هو كلام معروف ومبتذل ولن يقدّم أو يؤخّر. الجديد هو ضرورة العودة إلى سؤال كارل شميت. لا أقصد تحديد العدو، فالعدو معروف. لكن ماذا يريد منى العدو اليوم بالمعنى الأعمق للكلمة؟ وما أدواته فى تحقيق مآربه؟ السؤال الأهم: هل نحن على وعى بآلياته وأدواته الخبيثة الناعمة إذ يحاول تحقيق غرضه؟
لنقرأ الفقرة التالية من كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد (ت: محمد عناني). فى معرِض مناقشة نطاق الاستشراق، يورِد د. سعيد فقرة من كلام لورد كرومر وقبلها لورد بلفور عن بلاد الشرق، أراها ترجمة حرفية لفقرة برنارد لويس السابقة. يرى كرومر أن الشرق حفنة من الجهلاء، يقول نصًا:”الدقّة يبغضها العقل الشرقي، والأوروبى يُحكِم الاستدلال الدقيق، أما عقل الشرقى يفتقر إلى أى تناسق”. ويقول إن الشرقيين مولعون بالإفراط فى المدح والمكر والقسوة على الحيوان، لا يستطيعون المشى فى شارع أو على رصيف لأن أذهانهم الفوضوية تعجز عن فهم ما يُدركه الأوروبى الذكى – ص 95).
ماذا كان يريد الرجل؟
أراد كرومر ومن بعده برنارد لويس رسم خط فاصل بين عالميْن: الغرب الفاضل الناضج الذكّى (لكنه لم يفسّر لنا إبادة هنود أميركا اللاتينية، وسكان أستراليا الأصليين، ومجازر بلجيكا وفرنسا فى الدول الإفريقية، ومذابح سكان المكسيك الأصليين، وأسباب الحربين العالمتين الأولى والثانية، إلخ)، والشرق اللئيم الجاهل الغبى (الذى لم يُقدِم على أى من الحروب ولم يرتكب أيًا من المذابح السابقة، ولم يرِد إلا العيش بسلام).
مشكلة الغرب الجوهرية والغرض المخفيّ هو فى الأصل هو تقويض الدول/المؤسسات الوطنية. يقول سعيد إن كرومر (كممثل صريح للرؤية الغربية) لا يريد مؤسسات وطنية أو قومية، لا يريد إنهاء الاحتلال الأجنبي، ولا يريد سيادة قومية، فالمواطنون المحكومون فى مصر لا يستطيعون بطبيعتهم [كذا؟] أن يعرفوا خيرهم، فمعظمهم أجناس شرقية خبرهم فى الهند (ص93، المصدر نفسه). ما الذى يقف فى وجه الغرب إذن؟ المؤسسات الوطنية هى العدو الأول للغرب بشهادة شاهد من أهلها. وأية دولة قوية واجهته سعى إلى هدمها إما بإثارة الحروب الأهلية وإما عبر الصبية المستأجرين بالقطعة على السوشيال الميديا وإما عبر تحريض الغلمان النابتة، وهى كلها أدوات مطيعة طيّعة وتكلفتها اقتصادية لا تُذكر وفى متناول اليد.
فى سياق تحليله لمسألة الإبادة الجماعية للأرمن يقول د. لويس فى مذكراته ألا وجه للمقارنة بينها وبين المحرقة، فالأخيرة مات فيها – بحسب كلامه- ستة مليون إنسان [لم يُوضّح لنا هل عثروا على 6 مليون جثة؟]، فإبادة الأرمن مأساة إنسانية بشعة حقًا، لكن لم يُقتل فيها سوى مليون أو مليون ونصف فقط، بينما أبيد الملايين فى المحرقة. ولم يعطنا د. لويس للأسف بيانات تاريخية دقيقة كم يجب أن يُقتل من البشر كى تتحول مأساتهم إلى ذكرى خالدة من وجهة نظره. عنده لا شيء يعلو فوق المحرقة. يذكرنى كلامه بكتاب حنا أرندت تفاهـة الشر، عندما قالت إن مارتن بوبر (البقرة المقدسة عندهم) كان يعارض إعدام الضابط الألمانى أدولف أيشمان وحَرْق جثمانه ونثر رماده فوق المحيط كما فعلوا، لأن ذلك يعنى القصاص، والقصاص يعنى انتهاء الحدوتة، وهو مكروه عندهم. يريدون استمرار الحكاية، والحسّابة بتحسب.
سجالات قوية نشبت وخلافات قويّة استحكمت بين الرجلين (سعيد ولويس)، من بينها المناظرة التى عُقدت سنة 1987 (مترجمة على يوتيوب)، وزاد عليها سعيد فى كتابه تعقيبات على الاستشراق (ت: صبحى حديدي، 1996) لمن أراد الاستزادة.
تحليلات إدوارد سعيد أكثر رصانة وعمقًا، تتوسل بطبقات مختلفة من التاريخ والآداب والشعر والصحف للحفر فى طبقات الظاهرة الاستشراقية وما ورائها وهو الأهم (تأسيًا بمنهج ميشيل فوكو كما ذَكَر هو صراحةً)، فتعرِضُ لوجهات النظر كافة، وتربِطُ المقدمات بالنتائج، ولا تتحيّز فى الأمثلة المضروبة، ولا تجتزأ الوقائع التاريخية ولا توظفّها بحسب الغاية الموضوعة مسبقًا، وإنما يسير مع الوثائق والنصوص والأحداث خطوة بخطوة، طريقة سعيد تُمسك بيد القاريء حتى يكاد يقول: نعم فهمتُ الآن.. إذن الأمر كذا.
أما المنهج التأريخى عن لويس – فى رؤيتي- فمُكبَّل فى قيود صنعها بنفسه، يعرف مسبقًا ما سيصل إليه، لا يرى أبعد من الخطة المرسومة له (لا للبحث). لا أعرف لِمَ أربط الآن بين برنارد لويس وبين زيجموند فرويد وهو يكتب “موسى والتوحيد”، وهو كتاب فى غاية الضعف العلمى والركاكة المنهجية، تخرصات وظنون أوهام. رجل يحاول إثبات حقيقة تاريخية عبر قرائن منها ختان الذكور فى مصر القديمة!! بين كل صفحة والثانية يحاول فرويد دفع تهمة “الأوهام” عن كتابه، يكاد المريب أن يقول خذوني.
هل أتحيّز لإدوارد سعيد؟ مؤكد أنى كذلك (بالطبع ليس فقط لأنه مواليد 1 نوفمبر)، بل لنزاهة الرجل العلمية أولًا وأخيرًا. لم يهاجم لويس أحدًا مثلما هاجمَ سعيد صراحة فى مذكراته. لماذا؟ لأن سعيد كان يعرف كيف يضرب ضربته بحق، كان يعرف من أين يؤكل الكتف علميًا ومنهجيًا، استطاع تكوين دوائر أكاديمية وأنصار مؤهلين واعين يعلمون ماذا يقولون. هذا هو إنجاز سعيد الحقيقي. صُنع تلاميذ مؤمنين بدور العلم والبحث فى تسليط الضوء على الحق، لا بالجعجعة والسباب على الميديا. رُبَّ متحذلق نزيه يسأل: ولكن هل ثمة طرف محايد؟ (وأى شيء بعد الحقّ إلا الضلال)، فيقول لِمَ لا نسأل أطرافًا محايدة عن حقيقة منهج لويس؟ أقول: ما رأيكَ فى نعوم تشومسكى مثلًا؟
فى مقابلة أجريت مع تشومسكى فى 16 إبريل 2002 بمعرفة كاتب المقالات الكندى إيفان سولومون (هذا رابط المقابلة https://chomsky.info/20020416 يقول تشومسكى نصًا:” إننا نعلم أنه [أى برنارد لويس]، مجرد مروّج دعاية مبتذل، وليس عالمًا”.
أما خلفيات الكلمة السابقة فهى حديث ذو شجون، أتمنّى أن أرزق الوقت يومًا لنقلها أو نقل فقرات مطولة منها إلى العربية. أيًا ما كان الأمر، أظنّ أن كلمة تشومسكى كافية لأختم كلامي، أو مثلما قال القديس أوغطسين:“Rome has spoken; the cause is finished”.
مات الرجلان. اختار إدوارد سعيد أن يُدفن رماده فى مقبرة بروتستانتية بالقرب من بيروت، واختار برنارد لويس (البريطاني/الأميركي) أن يدفن فى مقبرة ترومبلدور التاريخية فى عاصمة الأرض المحتلة. ماديًا تفصل بينها كيلومترات قليلة، ومعنويًا خطّ رفيع واضح يفصل بين الحق والضلال.
……………….
*عن “أخبار الأدب”