لم أبكِ وأحزن كما يتصور البعض، بل اجتاحني شعور غريب بالراحة والطمأنينة لاقتراب ميعاد خروجي المسبب من الحياة، وبدلا من الاجتهاد واستغلال ما تصور لي من وقت قصير تبقي لأكتب عن ما أحب بشغف، أربكني تأجيلي لكل ما خططت له من مشروعات كتابية جادة، وانشغالي بالبحث حول الأخبار الخفيفة الركيكة التي أعيد صياغتها ونشرها في صفحة المنوعات بالجريدة التي أعمل بها، لكسب بعض المال.
فتكشف لي ببساطة أنني لا أقل سطحية في اختياراتي المصيرية الحياتية عن سطحية اختيارات لجنة تحكيم جائزة “البوكر” العربية التي يؤخذ عليها انتصارها الغريب لقيم الهشاشة والضحالة والفناء على حساب قيم العمق والارتقاء والبقاء.
في البداية اختارت لجنة تحكيم “البوكر” ضمن قائمتها الطويلة ثلاث روايات مصرية شكلت مثلث عجيب لحصاد الكتابة الروائية المصرية في عام 2013، يتكون ضلعيه من روايتين ضعيفتين لا تتميزا إلا لكونيهما من إصدارات دار “الشروق” المصرية، لصاحبها الناشر المعروف المهندس إبراهيم المعلم، وهما روايتي: “الإسكندرية في غيمة” للروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد، و”الفيل الأزرق” للروائي والمصور الشاب أحمد مراد، وشكلت قاعدة المثلث رواية “منافي الرب” للروائي أشرف الخمايسى، والصادرة عن دار “الحضارة للنشر”، وفاجأتنا لجنة تحكيم الجائزة باختيارها لرواية “الفيل الأزرق” لتمثل الرواية المصرية في قائمتها القصيرة.
وتعد رواية “منافي الرب” رحلة بديعة أهداها أشرف الخمايسى إلى الإنسان، عن الإنسانية التي مثلها “حجيزي” الذي تخطى عمره المائة عام، قضاها في بحث دائِب عن وسيلة حقيقية تجعله باقياً في عالم الأحياء الذي صنعه بتعبه وجهده .. ، فبما أنه لا يستطيع منع الموت الأكيد، فأنه يمكنه اختراع طريقة ليترك جسده بعد الموت دون دفن بين أحبته الأحياء!!
“حجيزي” الذي يقبع عالمه في صحراء مصر البكر بالقرب من محافظة أسوان، هداه تفكيره إلي أن مشكلته تكمن في رائحة العفن التي تخرج من الأجساد بعد الموت، فقرر البحث عن طريقة تجعل جسده يفوح منه رائحة البرتقال بعد موته ليتحول إلى فواحة عطر تضمن بقاء جسده ليأنس بصحبة الأهل والأحباء، فعزف الخمايسى بلغة رائعة فريدة تعكس جو متفرد لسيمفونية قبوله وتسليمه لفكرة الدفن بعد الموت بعدما أقنعنا وأقنعه “المُعزِّي” قائلا: (عندما تتحول الأجساد الميتة إلى فواحات عطور، ولا يكون من حولها إلا الأحفاد، سيتبادلون الجثث الفواحة فيما بينهم، سيتعاملون معها كما يتعاملون مع أي فواحة عطور جامدة، وعندما تمتلئ البيوت بهذه الفواحات، سيحطمونها بأيديهم ليتخلصوا منها وهم يشربون الشاي، لا مكان للموتى بين الأحياء وإن صاروا فواحات عطور…، يا “حجيزي” القبر منبع الذكري، والدفن حياة، يبقي الإنسان حيا في ذاكرة الأحياء بكامل هيئته وصورته طالما هو مدفون في قبر…، فالدنيا التي عمرتها بحياتك لا تخربها بموتك، ولن يستطيع النسيان أن يقترب من رجل ظل عمره يحاربه…، حتى وأن دفن جسدك، فلن تدفن ذكراك، فأنا أعلم اليوم الذي سيوحى فيه بقصتك إلى قلب كاتب ملهم، سيكتبها سفرا مفصلا، تضرب الروعة في أطنابه، فيذيع خبر هذا السفر في كل الأرض ليعلم الناس في كل أزمان العالم القادمة قصة “حجيزي بن شديد الواعري”…).
أما رواية “الإسكندرية في غيمة” فجاءت مكملة لثنائية روايتي “لا أحد ينام في الإسكندرية”، و”طيور العنبر”، ليصنعا معا ثلاثية سكندرية، عكس من خلالها عبد المجيد التغيرات الفكرية والثقافية التي طرأت على الحياة الاجتماعية في مصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، من خلال رصد تصادم مجموعة من الشباب الجامعي في ذلك الوقت مع التوجهات الفكرية والسياسية للنظام الأمني الذي بناه الرئيس المصري الراحل “أنور السادات”، والذي فتح الباب على مصراعيه للجماعات الدينية المتشددة للتوغل داخل النسيج الاجتماعي المصري، ولكن لم تختلف طريقة طرح عبد المجيد لأفكاره عن ما تروج له وسائل الإعلام المصرية ليل نهار، فنجد أنفسنا أمام نشرة إخبارية تنقل لنا وجهة نظر أحادية تضع المجتمع المصري بين نقيضين، إما أنه متدين بسطحية وتشدد بعيدا عن روح ديننا الإسلامي، أو أنه متحرر يحيا بداخل خمارات لا علاقة لها بالدين من الأساس!.
وهنا أذكر بشكل شخصي أن والدتي كانت تحكي لنا عن أنه بالرغم من أنها لم تكن تلبس غطاء للرأس في ذلك الوقت، إلا أن جدي رحمه الله كان رجلا محافظا لا يترك بناته يخرجن وحدهن، وأنهم جميعا لم يكونوا يتركون فرضا من فروض الصلاة. وهنا تكمن خطورة انفصال الرواية عن روح المجتمع المصري ونقله من النقيض إلى النقيض مع تجسيد نفس “الحداويت” التي جسدتها أفلام تلك المرحلة، وكأننا نتفرج على فيلم مصري باهت لبطل أحب بطلة تزوجت غيره مجبره أثناء فترة اعتقاله، بنماذج مكرره أدهشتنا السينما المصرية من قدرتها الفذة على أعادة أنتاجها لدرجة الملل.
كما أن عبد المجيد الذي عمل طيلة حياته في وظائف حكومية مختلفة بوزارة الثقافة المصرية لم يُحدِث بتلك الوزارة أي تغيير يذكر، يعكس مساهمته الجادة كمثقف واع أتت له الفرصة والكلمة لإحداث ثورة ثقافية لمكان طالما انتقده وانتقد أدائه ودوره على مدار مسيرته كروائي فذ.
وأخيرا رواية “الفيل الأزرق” التي لعبت على فكرة مزج المرض النفسي، وعوالم الميتافيزيقا من الجان والعفاريت، مع المخدرات والجنس، وهي عوالم استطاع مراد رسم شخصياته داخلها بعناية، وبلُغة مناسبة لوصف تلك العوالم التي تذكرك على الفور بأفلام هوليوود الساحرة بتشويق لا شائبة فيه، عن قصة “يحيى” الطبيب النفسي الشاب، الذي أحب “لبني” أخت صديقه المقرب “شريف” الذي قاطعه بعدما عرف بقصة حبهما –تلك القطيعة غير منطقية لأن مراد اختار لأبطاله طبقة اجتماعية وثقافية من المفترض استيعابها لتلك المشاعر الإنسانية- فيتزوج “يحيى” بعد فترة من زميلة له في العمل وينجب منها طفلة، لتموت الأم والابنة في حادث انقلاب سيارة كان يقودها “يحيى”، الذي يدخل بعدها في دائرة المقامرة والمخدرات والجنس.
اعتقد أنني رأيت هذا البناء الدرامي من قبل في عشرات الأفلام الأجنبية، ولم يشفع لمراد تشويق الميتافيزيقا والتداخل الجيد ما بين عصرنا الحالي، وعصر المماليك، للمحصلة التي ساوت في النهاية صفر.
تلك المحصلة الصفرية تدعو للتساؤل حول معايير اختيار لجنة تحكيم جائزة “البوكر” للروايات المشاركة في قائمتيها الطويلة والقصيرة على حد السواء، كيف يتم تجاهل ملحمة إنسانية مليئة بالحياة والخصوصية والاختلاف كـ”منافي الرب” التي عكست أصالة ورقي وتفرد لا تسعنا الأوراق والكلمات لدراسته، فضلا عن تدوينه، واختيار رواية ضعيفة مثل “الفيل الأزرق” التي تمثل ثقافة استهلاكية لا ترقى للدخول في قائمة لأفضل الروايات العربية، فضلا عن ترشحها للقائمة القصيرة ضمن 6 روايات من المفترض أنها تمثل أفضل ما أنتجته قريحة الأدب الروائي العربي خلال عام.
ننتظر بهدوء وملل خلال أيام قليلة إعلان نتيجة جائزة “البوكر” لعام 2013 ، ولا نستطيع التكهن باسم الرواية الفائزة بالرغم من ضعف خمسة روايات من أصل الستة روايات المرشحة بالقائمة، حيث يتجلي تفوق رواية “طشاري” للروائية العراقية إنعام كجه جي، ولكن مع غرابة اختيارات لجنة تحكيم الجائزة، وانحيازها الواضح لدور نشر معينة، لا يسعنا سوى قول إنا لله وإنا إليه راجعون.
خاص الكتابة