عبد الرحمن أقريش
الربيع، يوم جميل ودافئ.
الظهيرة، يهيمن الصمت، صمت مطبق ورهيب.
تخترق الشمس فضاءات الحي القديم، ترسم خيوطها أطيافا لظهيرة هادئة وملونة، خرج الآباء إلى العمل، بعدهم غادر الأطفال في اتجاه المدرسة، أما الأمهات فيستمتعن بقيلولتهن اليومية، قيلولة تمتد إلى حدود الأصيل، بعدها، في الجهات الأربع للمدينة يرتفع آذان صلاة العصر، يتعالى، يسافر، ثم يعود رجعا بعيدا.
تدريجيا تنبعث الحياة في التفاصيل، يستيقظ الحي، يستعيد جلبته المعهودة، يعود الباعة المتجولون، تخترق أصواتهم أزقة المدينة.
– القراعي للبيع…بيييع…البالي للبيع…بيييع…بيييع…
…
في الطريق، يمشي الولد الصغير إلى المدرسة.
يلبس بشكل أنيق وبسيط، أناقة مدرسية من زمن مضى، بدلة من النيلون الأخضر، قميص نص كم، سروال قصير، حذاء أسود وجوارب ملونة، في يده اليسرى محفظته البلاستيكية الجديدة، وبيده الأخرى يمسك برتقالة، بدا منتشيا وسعيدا، سعيدا بالبرتقالة وليس بالمحفظة، كان لونها جميلا ولامعا، ورائحتها طيبة، كفه الصغيرة تمسكها بقوة وبحرص شديد.
في الحقيقة هو سعيد أكثر بفكرة أكلها في ساحة المدرسة، أثناء حصة (الإستراح) أمام الأطفال الآخرين على سبيل (الفوحان)، انخرط في شريط من الإستيهامات القوية واللذيذة، يتخيل نفسه وهو يقضم أصابعها بلذة ونهم…
– أوووه…
جرى ريق دافئ في فمه، يبتلعه !!
يمشى مزهوا، يتهادى في خطوات راقصة، يقترب منه الفتى الأبكم، وبإشارات من يديه، يفهمه أنه يريد مساعدته في تقشيرها، أو هو يريد فقط رؤيتها، أو أن يشم أريجها.
ربما، هو لا يدري.
الولد الصغير لا يفهم لغة الحركات.
الولد الصغير لا يفهم لغة الفتى الأبكم.
– با…با…با…أبا…أبا…أبا…!!
في الحقيقة كانت تلك مشكلته، فهو (ولد دارهم)، وعديم التجربة بالناس والحياة، لم يكن أبدا ولدا (قافزا) مثل فتيان الحي، هؤلاء الأشقياء الذين يحبون اللعب العنيف، يملؤون الحي زعيقا، يسرقون، يكذبون، يدقون أجراس البيوت ويهربون، يصطادون الطيور، يقتلون الكلاب والقطط، ويستمتعون بالحياة على طريقتهم الخاصة…
الولد الصغير (ولد ماماه)، خجول ومؤدب، هذا النوع من الأدب المعجون بالخوف.
أصدقاؤه في المدرسة يقولون إنه (دمدومة) و(نية وحدة).
يبتسم الفتى الأبكم ابتسامة ماكرة.
يبتسم الولد الصغير أيضا، ابتسامة بلهاء، مغفلة، تليق ب(الدمادم)!!
مد الولد الصغير يده، بسطها قليلا.
ثم، بسرعة، وفي حركة خاطفة طارت البرتقالة، واختفى الفتى الأبكم في لمح البصر.
توقف الولد الصغير هناك للحظات طويلة، ينظر إلى نهاية الزقاق، في داخله تفاعلت مشاعر متناقضة، مشاعر هي مزيج من الغضب، والعجز، والغبن والخديعة.
بدا حزينا، جامدا ومشلولا.
تمالك دموعه بصعوبة، أكمل طريقه في اتجاه المدرسة، وبين الحين والآخر يرفع كفه اليمنى إلى وجهه، يتشممها، يتشمم أريج البرتقالة وهو يتلاشى تدريجيا !!
***
(الإستراح): حصة الاستراحة، بلغة أطفال الطور الابتدائي.
(الفوحان): التباهي والاستعراض، بلغة الشباب والمراهقين.
(الدمدومة، الدمادم): المغفل والغبي، بلغة الشباب المراهقين.
(قافز) ذكي وشاطر.