البحث عن خوان غويتيسولو

مصطفى النفيسي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى النفيسي

مقطع طولي لمساء فاسي

      لا تذهب إلى هناك إن كنت محموما. لا تذهب خاصة إن كنت متخما أو فاترا كأمسية رديئة مع القراصنة. اذهب حينما تصاب بوعكة في الذهن، أو حينما يقف أمامك جدار الخذلان، حيث تصبح كخزانة مدرسية تحتاج إلى التوضيب، أو فقط حينما يدفعك تيار الحياة إلى أراض مجهولة و صحار مقفرة! اذهب  مساء حينما تشتد حيرتك، ويغالبك سيف الوقت دون أن تستطيع مجاراته، لأن روحك مهشمة بحيث تحتاج بشكل مستعجل إلى حداد تقليدي ليرمم جنباتها على سندانه البارز فوق أرضية متربة كلسان كلب تعرض لضربة شمس ما بعد الظهر، واستكان لقيلولة في العراء. حينئذ لا تتردد في الذهاب! لا تحزم أية حقيبة حتى لا تبدو مثل سائح أجنبي يسهل استغفاله! اذهب متخففا من كل شيء كالرعاة القدامى الذين لم يكن يهمهم سوى تجنب استعجال المطر وأحزان المساء تجنبا لشرور الأشباح التي تتجول بدون انقطاع، دون أن تفكر في أخذ قيلولة ما بعد الظهر! (هل تأخذ الاشباح قيلولة ما بعد الظهر؟).

       اذهب كمتطوع في الحرب يعود منتشيا من معركته الأولى التي خلت من القتلى! لذلك لا تحمل معك أي شيء تقريبا. يمكن لك أن تستصحب فقط أطياف جدتك، وهي تحدثك عن شروط الصحبة في الطريق جاعلة من كل أمثولة مطية لتربت على كتفك تربيتتها الأثيرة لديك.

      اذهب إذن إلى ذلك الهناك حيث يمكنك أن تشرب قهوتك السوداء الصغيرة بمقهى “الناعورة” ، أو تمارس لعبة التيه اللذيذ ب”الملاح “*، لكن لا تدع أرجلك تصل بك إلى “جنان السبيل”*، لأنك ببساطة لن تجد الوادي الذي قرأت عنه! لن تجد المراكب الخشبية والأجواق الأندلسية، بل إنك لن تجد حتى الإوز. لن تجد أي شيء تقريبا. ستجد حديقة قروسطية ذات تصميم يشبه تصميم وجه أميرة من بلاد الغال تمتلك جمالا مدججا بملامح “لاجوكندا”. ستجد أيضا أناسا يمارسون وحدتهم كما يليق بأناس ضيعوا إيقاع الوقت في أزقة النهار.

       قلت:لا تذهب الى “باب بوجلود”* بحثا عن خوان غويتسولو وأنت محموم. ستعييك المناكب. ستدغدغ ذائقتك – وليس ضائقتك – أصوات الباعة: “زيد آمولاي”! كم سيصبح وزنك حينما ستسمع جملة كهاته ؟ ستحس كأنك أصبحت معاوية بن أبي سفيان، وهو يعود منتشيا من إحدى رحلاته التجارية.

       إذا كنت قريبا من “باب بوجلود” فلا تنسى :”باب الشمس”* التي اجتزتها لتوك. أنت لم ترها، لأنك تنسى دوما أنك أنت الذي هو أنت. تنسى أنك هو الشخص الذي يمر الآن مطأطيء الرأس كأنه سيجتاز بابا صغيرا في رياض فاسي، ولكنك فقط تهوي إلى قاع المدينة القديمة حيث “مولاي ادريس” و”سبع لويات” وباعة “ماء الزهر” المعتق.

      إذا كنت قريبا من “باب بوجلود” فسيكون مناسبا لك أن تلوي على “البطحاء”*، لتطل من نوافذ صغيرة على متاهات عمرانية وتشم رائحة البارود التي مرت من هناك أيام الضيق. لا تدع غبش المساء يخدعك. مر مسرعا مثلما آمرك به.

    إذا كنت قريبا من باب “بوجلود”، ف”باب محروق”* هو على جانبك الأيسر، حيث المزاد العلني الذي يقام مساء، بعد أن يكون قد مر من “رحبة الزبيب” صباحا. لا تفكر بشراء أي شيء. ستجد خطابات “البراحة أمتع من أي شيء. أصخ السمع فقط. أصخ السمع كأنك حكيم هندي. امتحن قدراتك في التصدي لشهوة”الإنصات”. لا تذهب إلى هناك إذن متأخرا، فإنك ستصبح تائها وسط جموع المولعين بالشاي المنكه بالنعناع. اجلس في أقرب مقهى شعبي وانس كل شيء. انس أنك تنتمي الى هذا العالم. تذكر فقط أنك تجلس على كتف “بوجلود” تشرب الشاي المنكه بالنعناع في مدينة اسمها ” فاس. لكن لا تنسى أبدا أنك تبحث عن خوان خويتيسولو. تفرس في العابرين كلهم. تفرس في سحناتهم وملابسهم. تفرس في محافظهم التي لم تعد جلدية، بل تحولت إلى أكياس من البوليستر تحتوي على سراويل وأقمصة اشتروها من متاجر راقية . ستلاحظ أن لا أحد يتأبط جريدة أو كتاب. لكم تغيرت العادات. قد تجد أحدهم يمشي كأعمى عرضة لأن تدوسه سيارة أو  لأن يدهس لافتة أو علامة طرقية، بينما هو يتشبث كغريق بكيبورد هاتفه النقال. سترى أن الحمالين والسقائين قد تناقص عددهم، و عوضهم المرشدون السياحيون والباعة المتجولون الوقحون. انتظر أن يعبر خوان غويتيسولو. فجأة سيمر رجل فارع الطول بعينين زرقاوين، بادره بالسلام، إن رد السلام بالعربية، فاعلم أنه خوان غويتيسولو يمشي متهادي الخطوات نحو فندق “البطحاء”.

 

خوان غويتيسولو يعبر أمام “سور المعكازين”

كانوا يمرون غير مهتمين بعبور الوقت، وأنت تجلس في مقهى place de france قبالة مقهى grand café de paris. مروا كلهم تقريبا. مر محمد شكري متأبطا كتبا كثيرة بقميص مقلم الأكمام، ومنتعلا حذاء خفيفا دون علامة تجارية. مر بول بولز يتكيء على عصا من الأبنوس، وهو يحادث مواطنا إفريقيا بصوت عال، كأنه يحذره من شيء ما. ربما كان يحثه على العودة إلى وطنه الأم. مر خوان غويتيسولو  وهو يعتمر كاسكيطا صيفيا من نوع.poloكان يمر هادئا من دون عجرفة يمكن أن تصدر عن كاتب محنك رفض نشر رواية لغارسيا ماركيز، حينما كان عضوا ضمن لجنة القراءة لدى دار النشر غاليمار. هذا ما اعترف به ماركيز نفسه. مر جان جنيه وقد أصبح أكثر قصرا ونزقا . لكنه لم يكن يحمل أية علامات تدل على أنه نشر “يوميات لص”.  مر أيضا بعض إخواننا العرب بمشية متثاقلة تدل على أن لاشيء ينتظرهم، ولا شيء تركوه خلفهم ما داموا الآن في طنجة، التي انتظروا كثيرا السفر إليها. مر الكثير من باعة السجائر بالتقسيط، وألقوا عليك نظرة خاطفة، ثم عبروا جافلين دون أية نية في العودة إليك إن أنت فكرت بالنداء عليهم. مر باعة أحذية صينية رخيصة، وأعلنوا أثمانها بشكل سريع، كأنهم يعلنون أن يومهم كان سيئا بشكل لا يمكن احتماله. وهو ماجعلك تدرك في لحظة ما بأن أحدهم كان سيضع حذاء بنيا فوق طاولتك، وسيطالبك بدفع ثمنه قسرا. مرت امرأة سليطة اللسان رفقة زوجها. كانت ستنقض على زبون كان يجلس بقربك، مؤنبة إياه، لأنه أعلن بأن الكرسي الذي بجانبه سيشغله صديق له، لم يأت بعد. مر ألبرت أينشتاين ولم يكن يبدو عليه أنه فكر بشكل جدي في عدم جدوى التجريب أو أنه انتصر للمنهج الأكسيومي . مر أناس بسحنات قلقة، كأن ثقبا ما قد حدث في السماء أكبر من ذاك الذي يسمونه ثقب الأوزون. مر مستكشفون جدد بحقائب على ظهورهم يتجهون لاستكمال الحفر بمغارة هرقل. مر بعض المتأنقين فرحين بأقمصتهم الضيقة، والتي تظهر عضلاتهم المفتولة و سواعدهم الشبيهة بسواعد الجنود في الجيش الإنكشاري. مرت سيارات كثيرة. كلها كانت مسرعة، لكنها تتوقف بشكل مفاجيء، كأن عطلا ما قد أصابها حين سماع صفارة الشرطي الذي كان يحتفظ بسحنة محايدة، كأنه غير معني بما يحدث أمامه من ازدحام. مر أطفال مخيمات في مواكب طويلة، وهم يتلون أناشيدهم التي يحفظونها عن ظهر قلب. مرت سيارات إسعاف كثيرة، كأن معركة ما تحدث في الطرف الجنوبي من المدينة. مرت أمهات يدفعن عربات أطفالهن ببطء شديد يكاد يكون مبالغا فيه، وهن يحملقن في واجهات المحلات التجارية القريبة. كل هذا كان يحدث أمام ناظريك، وأنت تفكر بمحمد شكري وكيف كان يقضي أمسيته في طنجة؟.

    لقد فاتك أن تستوقف خوان غويتسولو لتثنيه  عن النزول إلى “البلايا”داعيا إياه إلى التوقف قليلا ب” سور المعكازين”. ستدعوه إلى أن يجرب النظر بالمنظار المنصوب هناك قرب المدافع القديمة لإلقاء نظرة على وطنه الأم. ستقول له:”ألم تحن إلى وطنك الأم؟ ألم تحن إلى إسبانيا؟”. لكنه سيقول لك:”وطني هو الأرض. أنا مواطن أرضي. كل المدن أوطاني.”. تتذكر أن هذا ما قاله مواطن أوروبي آخر هو إدغار موران.

 

خوان غويتيسولو يظهر بفضاء المنارة بمراكش

       في مراكش لا يمكن لك أن تنجو من غواية “جامع الفنا”. لابد أن تقودك خطواتك إلى الإشرئباب بعنقك للإطلال على”المسياح” و “عيساوة”. قد يكون خوان غويتيسولو سبقك إلى هناك. لكنك لن تجد محمد شكري أبدا. لم تقرأ أي شيء  عن زياراته إلى المدينة الحمراء. كان دائم التوحد ب”البوليفار”. هناك كان يتخذ من علية مقهى سكنا له. حتى حينما غير سكنه، بقيت تصله رسائله إلى هناك. هذا على الأقل ما حكاه النادل ذات استجواب تليفزيوني. بقي دائما وفيا لطنجة. ربما لم تغره أسفار بول بولز إلى “إيساكن” أو إلى ورزازات. قال يوما ما:”اللهم البيصارة والهنا، ولا اللحم والهم”. هذا كان يعني أنه يفضل البساطة والعيش الهنيء على الوظيفة وترفها، بعد أن تركها دون رجعة. كان يقصد أن الوظيفة مجرد مسنقع مثلما قال حيدر حيدر في  روايته”الزمن الموحش”. الوظيفة سجن تشيخ فيه قبل الأوان. تفقد فيه الرغبة في الحياة، وتتخلى فيه عن كل طموحاتك.

      كان  خوان غويتيسولو قد اختار التخفي قريبا من “الملاح”، ليس بعيدا عن “دار بلارج”. قد تسأل عنه” الفرناتشي”، فيجيبك:” إمض قدما دون أن تلوي على شيء”. سيضيف بعد أن تخطو خطوتين مبتعدا:” لا أنصحك بالذهاب إلى قصر الباهية. فهو عادة لا يذهب إلى هناك. لقد خاصم الفخامة منذ مدة طويلة”. كان يقول كلاما آخر لم تتبين معظمه، وأنت تثبت سيور حذائك، والعرق الثخين يغزو جبهتك كجنود متحفزين. تكشط جنباتها بمنديل ورقي، وتنظر إلى قبعته الشتوية التي لم يتخلص منها رغم قدوم الصيف. لا تجد أي أثر لخوان غويتيسولو، لذلك تفضل العودة إلى “جامع الفنا”. تصعد الدرج إلى مقهى “أركانة”، وبنانك تعوي في حذائك شاكية الضيق والضنك، كأنها في زنزانة. هناك ستشرب كأس شاي بالنعناع. لا تسأل النادل عنه، لأنك لا تثق في الندل. سيقول لك النادل دوما إن سألته:” سيأتي الآن” أو” انتظره إنه يأتي في المساء”. لن يقول لك أبدا:” لم يأت إلى هنا أبدا”، لأنه لا يريد أن يفقد زبونا، أو على الأقل، لا يريد أن يحزن زبونا له. لكنه قد لا يأتي أبدا. هذه حيل الندل لاستبقائك لأطول وقت والتنعم بعطاياك. تفضل أن تخرج مسرعا. تمر قرب” الكتبية”، وتحس أنك ضئيل الحجم وتافه. أنت تشبه نبتة صغيرة تنبت في ظل نخلة باسقة. كان صوت “الحلايقية” يصلك ضعيفا، ولكنه غير مفهوم. لا تستطيع تبين تنمراتهم  المضحكة مثلما يحدث حينما تكون قريبا منهم.

     تفضل ركوب ال”كوتشي”، والتلصص يمنة ويسرة. يقول لك الحوذي:” المنارة إن شاء الله”. في المنارة تترجل من ” الكوتشي” رفقة سائحين آخرين. تضرب بقدميك على الإسفلت الذي أدهشك، لأنه حديث، ولم يكن هناك في آخر زيارة لك ل”المنارة”. تدلف إلى الفضاءات الداخلية التي أصبحت غريبة بعد أن تم تجديد المكان. رغم كل شيء، لا زالت الأسماك تسبح هناك. غير بعيد في الناصية ترمق رجلا بعينين زرقاوين يتكلم بصوت ضعيف يكاد يكون غير مسموع. شعره أشيب وهندامه أنيق. كان يتحدث محركا يديه بدارجة مغربية لا تحمل في طياتها أية لكنة. حينما تصل إليه، تكتشف أنه الكاتب الشهير خوان غويتيسولو. بقي  يتحدث دون أن ينتبه إليك. لم يكن يدري أنك قرأت له” حصار الحصارات” و”الأربعينية” و منتخبات سردية أخرى كثيرة.

……………..

*كاتب من المغرب

مقالات من نفس القسم