يوسف الشاروني
هذا هو ثامن مؤلفات أ. سعد القرش وهي مجموعتان قصصيتان، وآخر في أدب الرحلات، وأربع روايات هذه خامسها، ويعد بمؤلف قيد النشر في موضوع معاصر عنوانه : الثورة الآن من يوميات ميدان التحرير، مما يبرهن على أنه مبدع نشط، لكن في غير عجلة، وكنت أعتقد أن له صلة بالأديب محمد القرش الذي كانت له محاولات إبداعية أنشأت علاقة مودة بيني وبينه قصيرة العمر بسبب وفاته المبكرة، لكن الأستاذ سعد أكد لي أنه لا علاقة بينهما غير تشابه الأسماء، وقد كان الأستاذ سعد أكثر حظا من محمد القرش بحصوله على مرحلة أعلى من التعلم، فضلا عن عمله الصحفي الذي قد يعوق الكثيرين ممن يعملون بالصحافة عن الإبداع الأدبي، بينما ينجح آخرون في المزاوجة بين المهمتين مثل سعد القرش.
وقد نشرت الرواية الدار المصرية اللبنانية التي يشرف عليها الناشر المثقف الدؤوب الأستاذ محمد رشاد، وذلك عام 2011 أي قبل البدء في حفر توأم قناة السويس بحوالي عامين (2014). وفي مستهلها نلتقي ببطلها وحيد الذي نعرف أن أباه يحيى مات أثناء مشاركته في حفر القناة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقرر ابنه وحيد الهرب من المصير نفسه، بل قرر أن ينتقم من “أفندينا” باعتباره قاتل أبيه، فضلا عن سبب عذابه. وهذا الهدف هو إحدى دعامتين يقوم عليهما البناء الروائي ويتردد من أول الرواية إلى آخرها دون أن يتحقق كأنه سراب. أما الدعامة السرابية الأخرى فكانت بحثه العبثي عن العم إدريس. خطان سرابيان يتماسك بهما البناء الروائي، ويترددان في الرواية من حين لآخر تردد اللحن الأساسي في السيمفونية.
وخلفية العمل الروائي هو مصر المحروسة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أما مسرحه فيتردد بين حفر قناة السويس والقاهرة الخديوية، وبطلها الرئيسي راويها وحيد ورفيقته هند، وهي رفقة انتهت بزواجهما وإنجابها هاشم، معلنة في ختام روايتنا أنه “باع نصيبنا في القهوة، غلّبني وتعب قلبي، ورحل عنا من يومين، قال إنه شافك في الحلم في أوزير” (ص 282).
أما أوزير فهي منشأ بطلنا وحلمه السرابي أيضا ليعود إليها، وروائيا هي رحلة بطلنا فيما بينها والقاهرة وقد تعددت مهامه: من حفار في قناة السويس بسخرة لا يتناول فيها إلا ما يكاد يقيم الأود، إلى هارب يترصد أفندينا يطيش تصويبه محاولا قتله، فيصبح مطاردا يدافع عن نفسه، والخوف والانتقام يتصارعان مما وهبه القدرة على أن يخنق مطارده، وينزع جلبابه وروحه ويحمل أباه ويتسلل إلى الصحراء. (ص 10).
ولعل الحمار والحمارة هما الشخصية الروائية الثالثة المشاركة في تماسك البناء الروائي، اشتري وحيد الحمار بما حصل عليه من أجر من الفلاح الشيخ الذي آواه (ص 50) لكنه ما لبث أن فقده عندما أنقد امرأة يحاول لصان اغتصابها في المقابر، ليستبدل به حمارة المرأة التي أنقذها، وتصبح بذلك ثالث أبطال روايتنا إذ ترافقنا حتى بعد بيعها انتظارا لجحش يحصلان عليه ـ وحيد وهند ـ عندما تلد.
وعندما يضع المبدع سعد القرش بطليه الشابين ـ وحيد وهند ـ في مسكن واحد فلا بد أن يشتعل الجنس، وقد بثّه في روايتنا كالبهارات في الطعام بطريقة كان يتحاشاها معظم روائيينا في القرن العشرين، لكن التطور الحضاري والإبداعي في القرن الواحد والعشرين أصبح أكثر تحررا وأصبح هناك خيط رفيع بين التعبير الموظَّف في خدمة البناء الروائي والآخر الصادم. وعلى سبيل المثال نرى مبدعنا يوظفه توظيفا فانتازيا حين نقرأ أن وحيد أثناء هروبه من متتبعيه بعد محاولته الفاشلة الانتقام من الباشا “خديوي مصر” أثناء حفل افتتاح قناة السويس أنهكته محاولة الهروب فسقط كالميت ليعثر عليه صبي وأبوه من الرعاة، بعدها أهداه الرجل هدية تمشي على أربع (ص 55)، وفي طريقه عند المقابر أنقذ امرأة من لصين يحاولان اغتصابها، فقد أثناءها حماره، لكن المرأة التي أنقذها كانت تمتلك حمارة، فركب وراءها “لكنها لم تلبث أن نطت، وهو فهم أن ركوبه وراءها لا يصح” (ص 59)، وإذا المرأة التي قاومت اغتصابها من لصين تزادد به التصاقا حتى استيقظ جسده (ص 62)، وتتكرر هذه الإشارات الجنسية الموظَّفة على نحو ما نقرأ في صفحة 62، وهي تتراوح ما بين مداعبات والتحامات.
أما العم إدريس فهو البطل الغائب الحاضر والهدف السرابي، وأحد أعمدة البناء الروائي، بطيفه الذي يلوح ولا يتجسد، شخصية هلامية، لا نتعرف عليها وجها لوجه، بل من خلال بطلنا وحيد، فهي شخصية تطل علينا من خلاله، دون أن تسفر عن وجهها، وكان وحيد قد رفض نصيحة أبيه بالنجاة مع إدريس الذي آمن بأن أرض الله واسعة، غادر القرية ليلة الحريق “حريق أوزير”. وأحيانا يبدو إدريس كأنه نداء داخلي، يتساءل وحيد “كيف أعثر على عمي إدريس”؟ فيكون الجواب “قف عند الجامع الأزهر أو اقرأ الفاتحة في حضرة سيدنا الحسين، واسمع نداء بصيرتك” (ص 54) وهو مرة أخرى “ما كان دمار أوزير وهلاك أهلها إلا ثمرة جنونه” (ص 56)، وفي الوقت ذاته فإن إدريس شخصية أسطورية حين نقرأ أنه “الذي رفع أوزير بيده إلى السماء، فقد نزع الله من قلبه الرحمة ورفض أن يتلقى القرية بيده الأخرى، ويمنع الارتطام”. (ص 57) وهو كذلك هدف سرابي حتى أن أباه يسأله: ألقيت عمك إدريس أم شغلتك عنه زوجتك (ص 63). وهكذا ظل إدريس هدفا سرابيا يطفو وقت الأزمات من حين لآخر. فحين كان وحيد يتشاجر مع هند كانت تخشى “أن يخرج بحجة الذهاب إلى عمه إدريس ولا يعود” (صفحات 74، 77) وفي ختام روايتنا “لعن وحيد عمه.. وأقسم ألا يبحث عنه، وألا يبالي به بعد أن أمضى شهرين ينتقل بين المساجد في صلاة الجمعة يطلب من الإمام بعد الصلاة أن يسأل عن الحاج إدريس بن عامر من قرية أوزير، لم يجاوبه أحد يقول إنه إدريس، أو يتطوع بالكذب ليرحم الشاب الغريب” (صفحات 157، 158) فيقرر أن يريح نفسه وينسى عمه تماما. (ص 158).
أما سمات البناء الروائي فيتميز بتشابك الواقعية بالفانتازيا، وأول ما تفاجئنا الفانتازيا حين قرر وحيد أن يسمى الشيخ الذي أنقذه باسم الشيخ إبراهيم، فاعترض الرجل محتجا “تسمّيني من جديد بعد المشيب… متى رأيت إبراهيم الخليل” أجابه أنه في الإغفاء حين كان الفرس يدكه بقوائمه رأى النبي إبراهيم الخليل، وملاك الرحمة يضع سياجا حوله يقي جسده النار الموقدة (ص 22) عندئذ أذعن لوحيد باسمه الجديد.
وهذا نموذج لأحلام وحيد، فلئن كانت الفترة الأولى من حياته كوابيس، فإن أحلامه كانت إنقاذا له وتطلعا للخلاص منها، على نحوما نقرأ عن حلمه الثاني الذي كان الشيخ إبراهيم شاهدا عليه حين طمأنه أنه غفا ولم يضطجع، لكن زمن الحلم ـ المختلف عن زمن الحقيقة ـ كان يحكي فيه عن أيامه في أرض فسيحة خضراء رأى فيها أباه والرجال الذين ماتوا جوعا وتعبا. كانوا هناك كسالى بين المراعي والحدائق والأنهار تجري من تحتهم……” (ص 33) حين قابله أبوه يحيى على فرس ليفاجئه قائلا: “أرح نفسك يا وحيد.. هناك لا خوف، ولا حفر ولا جوع، ولا أموات يدفنهم أصحابهم تحت الردم بأمر مقدم أو خواجة. الجنة هنا حيث لا يعطش العمال، ويتمنون الماء فيجدون النيل تحت أقدامهم” (ص 34). فالحلم هنا تحقيق رغبة يحلم بها الحالم محروم منها في واقعه.
وحين وصل وحيد على مشارف مصر “القاهرة” المحروسة أسند رأسه إلى جدار وما لبث أن سرى خدر الإرهاق، مدّد جسده وطوى ذراعه وسادة لرأسه المثقل ليأتيه من الغيطان القريبة طنين النحل متناغما، ينتشي من رائحة ورد يتفتح في حدائق متناثرة أي تنتشي حواسه الثلاث: السمع، والشم، والبصر. (ص 51).
وتظل فكرة الثأر من الباشا ـ وهي فكرة محورية في روايتنا ـ تطارد وحيد حتى نهايتها، ولم يكن انتقاله إلى الفانتازيا هذه المرة عن طريق الحلم، بل “غشى عليه فسقط من فوق صخرة وغمرت الدماء رأسه ورقبته، شملته المسرة، وغاب عن الذين يضربون يديه ـ قدموه إلى ملائكة حملوه على أجنحتهم….”. (صفحات 178، 179).
وفي ختام روايتنا نقرأ أن هند تقول إن هاشم ابنهما “باع نصيبنا في القهوة، غلّبني وتعب قلبي، ورحل عنا من يومين، قال إنه شافك في الحلم في أوزير” (ص 182).
وهنا نلاحظ ما يتميز به الحوار الروائي من تطعيمه من حين لآخر بألفاظ أقرب إلى اللغة المستخدمة في الحديث المتداول، بعضه له صلة بالفصحى وبعضه له صلة بالعامية التي تدل على الزمن الروائي، مثال ذلك ما قاله له منقذه: اهرب يومين، أسبوعين، سنتين. بكرة ينتهي الشغل، ونشوف «أفندينا» عند القناة. لا تظهر نفسك لأي مخلوق هنا، ولا ترجع لبلدك. خليك في البراح”. (ص 14)
* * *
أنا لم أقدم إلا لقطات من هذه الرواية المزدحمة بثروة إبداعية تستحق أكثر من دراسة وأكثر من تقديم في مسيرة إبداعنا الروائي المزدحم بكنوزه والقليل الحظ في التعرف على جواهره بسبب ما نعانيه من أميه أبجدية وأخرى ثقافية.
ــــــــــــــــــــــ
(“القاهرة” / 17 مارس 2015، فصل في كتاب «في محبة الإبداع» 2016)