بروح شابة
تنظرين الى يدك المسنة بدهشة
كأنها ليست لك
وان هذه التجاعيد
تخص امرأة اخرى،
أفنت نور يديها في غسيل الملابس والصحون
يد عمياء تتحسس طريقها الى التراب
قبل العملية بقليل
نزعت خاتمك وابتسمت
كموظف يستريح
بعد ان يسلم آخر عهدة له
هل يتعلق الأمر باليد المسنة، والتجاعيد، والملابس، والصحون، والخاتم؟ .. هل يتوقف التأويل عند التخوم المتوقعة لما يمكن أن تشير إليه، وتستدعيه تلك الكائنات خالقة العالم الذي على وشك الزوال؟ .. ليست الورطة محتجزة عند الهاجس الذي سيظل يلح على أذهاننا بأن حضور الكيانات الصغيرة يفرض تلقائياً، وعلى الفور استرجاع كافة الكيانات الأخرى المحتملة التي غابت عن المشهد .. تُحفز البصر الدلالي على توسيع نطاق الرؤية، واستفزاز طاقة لا تسمح باستيعاب طموحها للإلهام بما هو متواري، ولكنه ينتمي إلى السياق .. على الأشياء ـ حين نلمسها بتلك الطريقة ـ أن تتحول إلى حماية للوجود .. أن تحافظ على حياة قاربت على الاختفاء .. عليها أن تصير بنوداً واضحة، ونقاط إرشاد مضمونة، لا تضمر أي خيانة حينما تمنح الوعود بأن ما يحدث الآن شأن مستقل تماماً عن موضوع الفناء.
في غرفة العناية المركزة
خلعت حذائي واستبدلت آخر به من القماش
وانسللت الى المعبد من دون صوت
تسمرت قدماي امام قداسة الغيبوبة
كانت صورتك معروضة على الشاشة
في بث مباشر عن الموت
وجهك من دون طقم الاسنان
اصبح كالمومياء
عظام مضيئة تحت طبقة شفافة من الجلد
وانابيب ما زالت تحمل بعضا من هواء صدرك
تركت الشاشة واقتربت من سريرك
كان الموت مضاعفا
وبحركة سريعة دسست يدي من تحت الغطاء
اقشر اللفائف،
حتى اصل الى جزء من جسدك
لا يزال دافئا
ولم يصبح خالدا بعد
تلك هي التسمية الموازية التي أراد (علاء خالد) أن يمررها إلينا لحماية الوجود، والحفاظ على الحياة .. الجزء الذي لا يزال دافئاً من الجسد .. تثبيت دائرة مستعصية لحصار التفاصيل الحسية .. إبقاء الموت في حيز العماء .. لكن الجزء الذي لا يزال دافئاً من الجسد في طريقه للنهاية .. سيصبح (خالداً) .. إذن الخلود ـ العون الذي أراده (علاء خالد) من خبث اللغة في تلك اللحظة ـ هو الشكل المثالي للوعد ـ الذي لا يجب أن يكون خائناً ـ بأن الجزء الذي لا يزال دافئاً من الجسد سيظل بكيفية مبهمة متمسكاً بدفئه .. الممر الآمن لمزيد من التوغل داخل الظلام المحايد للغفلة .. رغم المصير الحتمي الذي على بعد خطوة .. حينئذ تتحول الغيبوبة إلى شأن مستقل عن موضوع الفناء.
بعد أن انجزنا المهمة،
ووارينا جسدك في التراب
كان سائق عربة الموتى التي اقلتنا،
ينتظرني وسط الجموع،
ملوحا بالملاءة البيضاء التي كانت
تغطي جثمانك
عندما مات أبي،
تسلمت ايضا تلك الملاءة من احد الاقارب
كعصا عداء في ماراثون طويل
وسرت بها مسافة
ووضعتها امامي على منضدة البار
ورحت اتحدث اليها حديثا عاطفيا.
هذه المرة عدت بملاءتك،
وصنعت منها خيمة
نصبتها في حديقة البيت
الملاءة البيضاء التي تغطي الجثمان هي آخر كائنات العالم .. أول كائنات الموت .. التي من المهام الضرورية لوظيفتها أن يلّوح بها سائق عربة الموتى لمن سيتسلّمها من الأحياء .. ليس لأنها تمتلك تاريخاً من الوداع، ينتسب إليه ذلك الذي ستذهب إليه الملاءة، بل لأنه سيصير جزءاً من هذا التاريخ في موعد قادم، وربما عليه أن يتخيل إذن إلى من سيلوّح سائق عربة الموتى بنفس الملاءة بعد أن يتوارى جسده تحت التراب .. من الضروري أن نفكر الآن في أن حماية الوجود، والحفاظ على الحياة بواسطة الكيانات الصغيرة التي ينبغي تعقبها بدقة، واحتواءها بإصرار من أجل عدم التوقف كثيرا أمام الموت ربما يكون كل هذا في حقيقته سبيل للانقاذ الشخصي .. التحرر من الرعب الذاتي تجاه الفناء .. السعي للتصالح مع المصير الأكيد، ذلك لأن الموت لا تُجدي مع جبروته كافة المحاولات الممكنة لعدم التوقف كثيراً أمامه .. هل هذا ما يدفعنا لصنع خيمة من ملاءة تحمل موت الأب، والأم في حديقة البيت؟ .. تشييد ملاذ .. مخبأ .. عزلة ضئيلة من الأمان المنكمش، المتوهم، لا تدعمه رائحة الحياة بل عتمة الفناء بأمل انتهاكها .. اختراق حصانتها المتبلدة، والقسوة المجهولة لفجاجتها .. بأمل فهمها، واستيعابها حيث لا توجد فرصة للهروب .. إذا كانت الحديقة هي نتاج العيش، وتحتفي بكل ما تشتمل عليه رمزية الدنيا من إيمان، ومقاومة .. بمشيئة الأحلام التي عاشت وسط غرابتها .. هي تكشف في هذه اللحظة عن أنها لا تمانع من وجود ما يشبه قبراً استباقياً داخلها .. الدنيا التي تمثلها الحديقة لا تسمح فحسب بذلك بل يبدو أن ذلك هو الجوهر الذي ينتج أحلامها .. الملاءة البيضاء حينما تتحول إلى خيمة أليست قبراً استباقياً يرجو اكتشاف مبكر للموت، أكثر من كونه استرداداً لحياة أبوين ميتين؟.
لماذا لا نجرّب الآن الوصول إلى الإجابة على السؤال الضمني الذي حلّق في فضاء عبارتي السابقة: (كأن “علاء خالد” يحاول طوال الوقت تثبيت دائرة مستعصية بكفيه لحصار شلال من التفاصيل الحسية، نعومتها في الذاكرة أكثر وحشية من الاستجابة للترويض) .. التفاصيل الحسية، حينما تكون نعومتها في الذاكرة أكثر وحشية من الاستجابة للترويض ألن تتحول ـ مع شراستها العاطفية ـ إلى سلطة غير منقذة؟ .. إلى غموض مخصي، لا يتحكم في النهايات، ولا يغير المصائر، ويلزمنا بالاستمرار في العمل بيأس على تثبيت دائرة مستعصية لحصاره توسلاً لفهمها، واستيعابها؟ .. التفاصيل الحسية ستتحول بصراحة أكبر إلى عتمة حصينة، ومتبلدة، ذات فجاجة مجهولة القسوة .. ألن تتحول إلى ملاءة نُصبت كخيمة في حديقة بيت؟!.