ترجمة: وليد الخشاب
مهما قدم المرء من أبعد المسافات، فهو لا ينطلق إلا من نفسه. أحياناً ما تكون اليوميات ضرورية لِنَصِفَ الشخص الذى كففنا عن أن نكونه.
لأمد طويل، تفضل الكثيرون باعتبارى رجلاً تقدمياً، وشخصاً يتحمس للقضايا العادلة. تلك الفكرة فى حد ذاتها تجبرنى على القيام بعملية بدخيلتى لنزح مياه الأفكار. شهدت يوماً بعد يوم كافة الكلمات التى كانت تضخ شيئاً من الشرف فى الحياة وقد غطاها رويداً رويداً ريم من الوساخات. رأيت ضباعاً تتبوأ منصة القضاء وخزياً متجسداً فى بشر يبشرون بفجر جديد. لا يفاجئنى هذا التدهور المتسارع للإصلاح العظيم الذى وُعِدَت به البشرية. فقد سبق وتجمعت أمام أعيننا أسباب وجيهة لتوقع ذلك التدهور. لكن-فى المقابل- يعجب المرء من كثرة من يرون التدهور أمراً بطولياً.
يفيض فمى بالرماد. حولى ينشط القبح حثيثاً. القبح الأسطورى الذى يختلط على الأفهام فيصبح الظالم والمظلوم فى قلبه كياناً واحداً.
منذ أمد بعيد، أتوق إلى إحداث قطيعة كما يتوق المرء إلى نفحة من الهواء النظيف. أتوق إلى صحبة البنات فى الحانة، لا إلى المتاجرة الدنيئة بالروح حيث يشهد المرء تفاقماً فى بَرَصِه وجذامه، جلوساً بين بضعة أساتذة للرقص واللياقة.
قطيعة مع إنشاد التعاويذ البدائية الذى تحول إلى مارشات عسكرية، قطيعة مع منطق التمرد الذى لم يعد سوى بلاغة السجان. يغمرنى الغبار، لكنى بدأت أشعر بالأحمال وقد صارت أقل وطأة على كاهلي.
تمنح خرافة الثورة شعارات النبالة لحملات التفتيش على البشر، وللمداهمات الشرطية ليلاً، وللأشكال الجديدة من تطعيم البشر بأمصال العبودية. لا بد للمرء أن يعزل نفسه عما تم انتحاله وتزويره كذا. لابد للمرء أن ينفصل عن اللغة التى تحدث بها الرجال الأحرار فيما مضى، لأنها تُتَخَذ اليوم ذريعة لتبرير أبشع عمليات دبغ الكائن البشرى وصبغه بالسواد.
القاهرة، 1958
***
كلمة البطولة الفيصل: أن يتبنى المرء طريقة لا سبيل إلى تقليدها ليكون عادياً.
*
لا ننسى أن للجبن ميزة، وهى أنه يجنب أتباعه إطالة التساؤل حول مصيرهم البديل، ذلك الذى لن يتطور، ولن يبرح الغرفة المظلمة أبداً. كنا جبناء. ثم ماذا بعد…؟ أعرف أن المرء يحتاج شجاعة ليواجه ما يسمى بالانتقاد المجتمعى. لكن هذا يعنى فى المقابل أنه يحتاج شجاعة مماثلة لقياس مدى جبنه ذاته، تلك الهاوية التى ما تلبث أن تتسع بمجرد أن يكتمل تراجع المرء لأول مرة. فى محصلة الأمر، لا أظن أن المرء يواجه انتقاداً ولا أنه يتعرض لدوامة من أفكاره. ثمة لحظات فى حياتنا العامة نسعى إلى تحمل مسئوليتها على أقل ما يكون، ثم هنالك البقية التى هى وحدة محضة.
*
يهرول الناس إلى النوافذ، لكن وجوههم لا تحمل قسمة واحدة من الفضول.
*
أمر عجيب: أظننا نتجه نحو حريات أعظم عبر أصوات الغثيان الشامل التى تجردنا من كل مقاومة. ربما يتعجب الواحد منا فى النصف الثانى من ذلك القرن الحافل بالداعرين عندما يدرك أن الحرية لم تعد مسألة قتال من أعلى المتاريس فى الشوارع، بل أمراً يتعلق بالمراحيض. وبالأحرى، ما معنى أن تُفْرَضَ قيود المحرمات على بشر فقدوا المطلق؟ الأجدر أن توضع فى متناول أيديهم أشياء لا يسعهم أن يرغبوها إلا من حيث هى استهلاك، لا مخاطرة. غداً يصبح الفن العظيم هو اكتساب مظهر اشتهاء شيء ما بشوق ملتاع.
*
قانون انعكاس اتجاه البخار. بين النداء الداعى إلى تحطيم القيود والسعى نحو الحرية الذى يتضمنه أى تجاوز لوضع مجتمع بعينه، وبين بتر الإيماءات الإنسانية الجديدة بيد المجتمع المتولد عن تحطيم تلك القيود، توجد علاقة تلازم.
*
فى نظر بروتون، كل شيء يُعَوَل على معجزة الوجود، والحب الفريد، واندلاع لحظة عصية على القول. مثلما كان شارل فورييه ينتظر كل يوم، على دكة بميدان كليشى، أن يأتى من لا يعرفه ليتولى إقامة مدنه الطوباوية، فحياة بروتون كان يظللها انتظار يخفى حرارته القصوى بتعفف. لم يكن يلقى بأحلامه أدراج الرياح، بل كان يواعدها بأمل اللقاء فى حديقة استوائية، حيث تتقاطر الطيور وتبتسم النباتات كسلى، أو على قارعة واحدة من تلك الطرق خارج الزمان التى كان المصور شيريكو يرسم خطوطها، ويزينها بالمحلات الجذابة واحداً تلو الآخر.
من وجهة نظر بروتون، لا يمكن للثورة أن تكون سوى انقشاع مفاجئ يبزغ منه الجمال. كان حارساً على مدينة لا تحتاج أن يدافع عن أى شىء بها، لطال ما ترقب عند مفترق الطرق، هَبَة عظمى ينتفض بها للإنسان الجديد.
*
فى ساعتنا هذه، لا تتنازع الأشياءُ سطوتَها على الإنسان فيما بينها، ولا هى مدموغة برغبته. اليوم، إن استعاد المسيح سر المناولة، ليُضطَرَنَ أن يقول: ليس هذا الخبز بجسد أحد، وليس هذا النبيذ بدم أحد. كلوا واشربوا فأنتم لا تخاطرون بشىء.
*
على عكس ما قد يظن البعض، لم أتحول إلى مذهب التشكك. ما زلت أؤمن بأشياء عديدة، لكنى اعتقد فيها بوصفها طُعْماً يغويني… أما عن معجزة استحالة المبادئ وتجسدها فى واقع متعين، فهى تبدو لى واقعة فى مناطق ما وراء الطبيعة لا سبيل لخيالى إليها، على كون خيالى ناقداً، حتى حيال الأحلام، وصارماً حتى فى التعشم والآمال.
*
ليس للمقدس من بديل اصطناعى .
*
ما نسميه انشقاقا فى تاريخ العقائد والمذاهب هو إدخال مبدأ للطاقة والحيوية داخل قشرة صلبة طبيعية لا سبيل إلى أن تبلى. يولد التشاؤم مع تلك الفكرة البذيئة التى مفادها أن المعرفة والفرحة موكلتان إلى الإنسان ليس إلا، وأنه قد يُحْرَم منهما إن فقد استحقاقهما. هكذا تتشكل الأخلاقيات التى توزع القيم والتى تستلب الحياة ثم توزع بعدها ما لم يكن موضوعا للقسمة. تلك المخلوقات الوحشية تسيطر على عصرنا حتى إنها تجثم على أنفاسه وتفسح المجال لتعاويذ جماعية هائلة مبدأها « الكل ضد واحد». يسود رجمُ الضحية علناً كلَ الأرجاء. لكن فى كل مكان أيضاً، ثمة ماسة خافية عن الأبصار تمعن فى الدلالة على التفرد أعلى جبل العزة.
*
فرسان عبثاً ما يبلوهم الضباب، أحجار نُحِرَتْ سَلَفَاً، عَلَمٌ على المسافة التى يطيب أن يبقى عندها الإنسان.
*
كان الإسكندر الأكبر محطم المرايا، وربما كان حالماً طوباوياً كبيراً لم يكن يتمنى إلا أن يذل الخلود، أو أن يبلغ منظرا طبيعياً متهدجاً، قد لمحه عند منطف فى أحلامه.
*
تخلب اللب: قوة الإيحاء فى الماء المتخفى تحت السطح، لا الماء الساكن، بل الماء الساهر، الماء الذى يستخفى لكى يخرب مشروعات الإنسان.
*
كما أن الإنسان حيوان ملتبس، وحتى لو لم يكن كذلك البتة، فإنه يطيب لى أن أداعب قليلاً تلك الصبية «الجدلية»، ولذا أعمل بالتوازى على مشروعين: تعبئة كافة المعارف الموجودة فى زجاجات، لِتُساقَ عبر طرق ماكرة حتى اللبان الختامى للروح الأوحد الشامل، العبثى مثل الملك أوبو واليوجا، الذى يدرك كينونة نفسه، ويعرف عن نفسه أنها عارفة نفسها، ترد سلامها الذى تلقيه على نفسها، و -لِأُجْمِلَ القولَ الفصلَ- التى تضرط حرفياً فى وجهها نفسه. إذاً على هامش تلك الجهود الإنسانية، أعمل على تحضير لوالب مانعة للحمل الأيديولوجى، تهدف إلى منع انتشار عدوى الأفكار بمجرد أن تُرَكَبَ عند الأعصاب أسفل الحبل الشوكى. وفى متناول العباقرة والحمقى على حد سواء، بحيث نمنح غياب الحياة -أخيراً- تفسيراً وجيهاً.
*
حرف ال (Y ) ليس حرفاً وادعاً. إنه الرمز الذى يشار به إلى المكان الذى تتحقق فيه الوصية الحادية عشر: تلك التى تنسخ الوصايا العشر السابقة.
ما كان لنا أن نذهب إلى هناك، لكن ال ( Y) حل هناك، ويجرنا إلى هناك، إلى مستقر حرية شريرة، بستان الرؤى وحارسه يهز أمام أعيننا العصا البيضاء التى يمتلكها ثاقبُ المآقى العظيم.
*
ثمة حروب عادلة. لكن جوهر الحروب العادلة أنها لا تستمر عادلة لفترة طويلة. تتمايز الحرب العادلة عن حملات السلب والنهب العادية فى فرضها على من يتولونها إيقاعاً ومتطلبات يصعب عليهم تحملها. من أجل الإبقاء على عملية مبنية على الدعم الشعبى الحار فى حالة توهج، لابد للفرق المسئولة عن إدارة الحرب أن تتحلى بالإقدام الصريح، وأن تتجرأ فتترك لقوى الحراك التى ترتكز عليها، سماتِ الجماهيرِ المشتعلة، الجماهيرِ فى عنفوان الصيرورة، والواعيةِ بانطلاقتها. لكن القاعدة المتواترة لدى من يسوقون الشعوب هى اللجوء إلى ثقلهم التراتبى، من أجل إعادة القوى المتحركة التى استُوْدِعوا إياها، داخل الأطر التقليدية لبلاد فى حالة حرب. وإذ أقول «أطراً تقليدية»، فإننى أعنى التقتير فى نشر الحقيقة، وترشيد توزيع الحماس، وترشيد توزيع المثال الأعلى، وإعادة كبح جماح قوى الأمة المتحركة، بصورة متسلطة، بيد من يخشون أن تتحول حركة اليوم إلى انقلاب الغد رأساً على عقب. إذاً فهذه الأطر التقليدية ما هى إلا أقنعة توضع على هذه الحرب أو تلك، لمحو قسماتها الأصلية وجعلها أشبه بكافة الحروب الأخرى.
*
فى بداية الدهشة العالمية، انحنى الإنسان قداحة معطوبة، وفرك عينيه لينظر إلى الشمس. هكذا وُلِدَ حرف ال (Y ). منذ ذلك الحين، والوحى ينسخ الوحى التالى مثلما يسد الإبهام ثقباً.
*
أمثولة من أجل طفولة طويلة
اللغة عكس الكلمة
أعنى أن اللغةَ تُسْتَخدم، منذ عشرات القرون، فى إصلاح ما أفسدته الكلمة. للكلمة قاسم مشترك مع الظفر، فكلاهما إذا ما تجسد، صار لا يطاق. التجسد أبواب مؤصدة فى وجه الفرح، مدن تحت الحجر الصحى، خطم دابة ثقيلة الوطأة ونظرة ملهمة معاً، وهو يمثل أعلى قمة السلوك الشرير المعتمد على إهمال الأرض وهجرها.
حيثما سادت الكلمة المتجسدة، يكتنف الخزيُ لحمَ الرجال. هم مستعدون لبيع الحياة بثمن بخس، ولصلب المسيح بحماس كالمجانين، من أجل تسمين الكلمة. والحق أن هذه حقبة تتساءل فيها السباع تساؤلاً جدياً حول لغز النوع البشرى. ما إن يَعِنَ لها أن تتجسد، حتى ترفرف الكلمة خفاقة. الوحى هو الشكل الخطابى لرياضة تسلق الجبال. نعرف أسماء تلك المحطات التى يلجأ إليها متسلقو الجبال: طور سينا وبيرشتسجادن وجبل الزيتون. تتفاوت الارتفاعات لكن شيئاً واحداً يظل مؤكداً: لا مناص من أن تليَ «البشارةَ» مذابحٌ باذخةٌ.
يكفى أن تتنازل الكلمة وتنزل من الأعالى، يكفى أن يتحقق التاريخ فى السهل، حتى يتخلى البشر عن جزء من إيماءاتهم. بكل بساطة، إذا بهم يعيدون اكتشاف اللغة. اللغة التى هى كلام الناس فى العطلات البشرية. اللغة التى هى فن التعبير عن أشياء واضحة قابلة للاستهلاك. مثال: خبز القربان من قبيل الكلمة. البيفتيك من قبيل اللغة. وإن فتشنا عن علامات تؤكد أن القدر يبتسم ابتسامة خفية، أقترح تلك: لم يحدث على الإطلاق أن طرأ لأحد أن يقول يوماً: «أشتهى خبز قربان طيب».
*
يا عاملات العالم كن جميلات. كن جميلات… لأن ثمة أغنيات تائهة تتوسل إلى طريق شُقَت لتوها، ومراهقين قدرهم أن يُسْتَوظفوا حتى تسيل دماؤهم، ومصابيح تمتقع إذا ما داهمتها الفراشات، لكن شحوبها ليس الفجر، شحوبها هو ذلك الشارع الذى يقطعه تنفس منتظم لامرأة فى سباتها، ولا أحد يأتى بحركة، فى ساحة خاوية ينعقد حوار شديد البطء بين عاشقين لم يحضرا، لكن سوف يلتقيان يوماً ويتجاذبان أطراف الحديث عن ماضيهما المشترك، يتمدد الرجال بجوار نوافير لا مرئية، ليس هناك ولو ظل شاهد إثبات واحد.
…………………………….
*مقتطفات غير متتالية من الشذرات التى نشرت عام ١٩٨٠ بعد وفاة حنين فى كتاب بعنوان «الروح الطارق»