د. أحمد يوسف
منذ القدم والخلاف مستعر حول مسألة الإيمان ولم تحسم هذه المسألة على وجه من الوجوه وأعتقد أنه لن تحسم مادامت حياة الإنسان على وجه الأرض. فالإيمان مسألة وجودية تتجاوز الإنسان وتتجاوز حياته القصيرة. والإنسان نفسه لم يكتف بحياته المادية والعاطفية وظل يشعر باحتياجه إلى ما هو أعلى منه وأكبر على هيئة هاجس خفي يفهمه مرة ويستبين له، ويشكل عليه مرة ويحيره. هذا الهاجس الخفي يلخصه سؤال وماذا بعد؟ ماذا بعد الوجود؟ وماذا بعد الزمن الذي نحياه، أو نحيا فيه، أو يحيا فينا؟ هل نحن وعاء الزمن أو الزمن هو وعاء الوجود ولولاه ما كان للوجود حركة ولا اتجاه ولا مسار ولا غاية ولا قيمة. وما مصدر هذا الزمن؟ ومن أين تنبع منابعه وتتجدد؟ هل تنبع من خارجنا أي هل لها وجودها المستقل عن وجود الإنسان؟ أو هل تنبع من داخلنا ومن ثم فليس للزمان وجود مستقل عن وجودنا؟ وما كينونة الزمن؟
أسئلة وجودية كثيرة ليس من أبسطها سؤال الإنسان عن الغاية من وجوده، ولا سؤاله عن الحياة والموت؟ ولا عن البعث والنشور ولا عن الثواب والعقاب، ولا عن العدالة الغائبة عن الأرض. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يصل الإنسان بسعيه العقلي على مر الزمن إلى المبدأ الأول الذي تنبثق منه كل المباديء، وتنشأ بإرادته كل الموجودات، ويتسع علمه الكلي لكل علم، ويهيمن سلطانه على كل شيء مهما يكن مقداره من الحقارة أو العظم. ومع ذلك لم يسترح الإنسان إلى سعيه ولا إلى ما توصل إليه وهو عظيم. ففي المقابل كان فريق من الناس لايرون لهذا الكون مبدأ أول يسيره أو يهيمن عليه كل الهيمنة، وأن هذا الكون تسيره قوانينه الذاتية، كما يسيره دفع الناس بعضهم لبعض وغلبة القوى على ما سواه من الناس أو الكائنات الأخرى.
وظلت مسألة السعي بلا شاطئ ترسو إليه السفينة وبلا قرار أخير يحدد اتجاهها ويجنبها بطش البحر وهوج الرياح. هي المسألة التي صعب حسمها. ومن غمار هذا التردد والتأرجح واللاتوازن، فتحت السماء أبوابها وأرسلت رسلها وما برحت حتى استبان الطريق وعلت رايات الهدى والحق المبين. ولكن النفس القلقة الحائرة تملكتها شجون الدنيا، وشجون العزة بالإثم، وظنون البعث بعد الموت، والحساب والثواب والعقاب. فالإنسان في تقديرها يفنى في التراب وتمحي معالمه وتندثر دياره ولايبقى منها أثر، بل إن الدهر يفجع بعد العين بالأثر، فكيف يعود مرة أخرى من التراب والفناء كائنا مكتمل القسمات والعقل والملامح ليسأل عما فعل؟ “أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد” ق/3.
ومع أن الرسل التي تواترت على البشرية حسمت كل ما سبق وأشارت إلى طريقين لا ثالث لهما ” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” فإن القضية الكبرى في القرآن الكريم هي قضية الإيمان لارتباطها بمبدأ التوحيد، وهي القضية التي أشار إليها القرآن في كل مشهد من مشاهده التي عرضها من تاريخ الأمم منذ القدم والصراع الوجودي المحتدم بين أهل الإيمان وأهل الكفر. وقد عرضها القرآن الكريم في صور عديدة منها قضية الخير والشر والعدل والظلم والاستكبار والاستضعاف والخوف والرجاء.
ومن عظيم رسالة السماء أنها لم تختر للإنسان ولم تخرجه من ميدان الوعي ولا من ميدان الحرية ولا من ميدان المسئولية على الإطلاق. فقد جعلت العقل أساس التكليف، والحرية أساس الفعل، والمعرفة قاعدة الاختيار، والعلم معيار الحساب ” لوكنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير” والسماع طريق من طرق العلم. لقد جعلت رسالة السماء وجود الإنسان سعيا وأن سعيه مرهون بإرادته ووعيه، كما أنه مرهون بنتائجه على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي، وأسست للعمل ويسرت له السبل، وجعلت المال عماد العمل مقرونا بالوعي والموهبة والعلم، وحرصت على إقرار حق المجتمع وحق الأفراد في هذا المال انطلاقا من أهمية الدور الاجتماعي للمال بعد دوره الاقتصادي. وعلى كل هذه الدعائم الاجتماعية والاقتصادية والشخصية، أسست الإيمان لمن يريد أن يؤمن، والكفران والنكران لمن اختار هذا الاختيار.
واختيار الإيمان أو الكفر – على المستوى الاجتماعي، وليس على المستوى العقدي – لايعطي لصاحبه سبقا ولا امتيازا ولا أفضلية على الطرف المقابل. فمن اختار الإيمان فقد اختار ما راق له ووافقه، ومن اختار الكفر فقد اختار ما راق له ووافقه. إن الاختيار هنا اختيار شخصي مصدره الاقتناع العقلي والعاطفي، وليس عقدا اجتماعيا بينه وبين مجتمعه الذي يعلم هذا الاختيار ويحافظ على حقوق صاحبه، وذلك نابع من مبدأ أن الدين واحد والتدين متعدد ومختلف حسب درجة الوعي والفهم والتقدير والعلم. ولذلك تتفاوت درجات الإيمان، كما تتفاوت طبقات المؤمنين. ومع هذا الاختلاف، يتسع المجتمع البشري للجميع على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم وشرائعهم وعلمهم ونصيبهم من الحرية. فهدف رسالات السماء التعايش على مبدأ او مبادئ يتفق عليها المجتمع البشري الذي يحتاج إلى المؤمن وغير المؤمن، وإلى التكافل بين الناس، وإقرار الأمن والسلم والسلام. واختيار الإيمان كاختيار الكفر، اختيار مرهون بتبعاته التي يتحملها الإنسان. وما على الإنسان إلا أن يعلن اختياره وأن ينحاز إليه وأن يحترم اختيارات الآخرين فلاينقص منها ولا يسفهها ولا يحرض عليها ولا يدعو إلى تخريبها. إذا كان كل ذلك مكفولا في دائرة الاقتناع وغير الاقتناع بالتدين داخل الدين الواحد، فمن باب أولى يكون أكثر قبولا واحتراما بين ذوي الأديان الكتابية وغير الكتابية.
ولذلك يندد القرآن الكريم في إحدى آيات سورة النساء بمن اختاروا طريق الكفر لأنهم لم يحترموا اختيار المؤمنين وهو الإيمان ولم يحترموا اختيارهم أيضا وهو الكفر. فهؤلاء قد اختاروا أن يكفروا بالله ورسله، لكنهم لم يكتفوا بما اختاروه وراحوا يفرقون بين الله من جانب ورسله من جانب آخر. وخطورة هذا المسعى أنه متردد فيما اختار وقرر. فالإيمان لا يكتمل بالإيمان بالله وحده ويظل منقوصا ومعيبا إذا آمن الناس بالرسل ولم يؤمنوا بالله الذي هيأ الرسل وكلفهم برسالته وأمرهم بالبلاغ والتبليغ. وينكسر الإيمان وينحط قدره إذا اخترنا أن نؤمن برسول من الرسل ونجحد رسولا آخر لأن في ذلك نكرانا للمصدر الأول الذي اختار هؤلاء الرسل وكلفهم برسالاته لهداية الناس. فبما أن كل الرسول مصدرهم واحد، فرسالاتهم على تعدد مراحلها واحدة. لذلك بدأت الآية بداية خبرية مباشرة في عدة جمل مترابطة كونت السياق اللغوي العام. فجملة “إن” جملة خبرية لها بداية ولها نهاية ليست قريبة امتدت حتى نهاية الآية واتصلت بالآية المجاورة. فالذين يكفرون ويريدون التفريق بين الله ورسله ويعلنون أنهم يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض ويريدون اتخاذ سبيل وسط بين الله من ناحية وبينه سبحانه وبين رسله من ناحية أخرى، ثم بين بعض رسله والبعض الآخر من ناحية ثالثة، هم الكفار الذين توعدهم الله بالعذاب المهين.
ولعلي ألحظ أن هؤلاء الذين أعلن الله كفرهم، لا يعتقدون أنهم كفار ولا يعتقدون أنهم تجاوزوا حد الاختيار وهو” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ولا يعتقدون أنهم أساءوا إلى أنفسهم ولا إلى غيرهم من الناس الذين يتعايشون معهم. فجرمهم الذي منحهم عند الله صفة الكفر أنهم شرعوا لأنفسهم شرعا جديدا غير مألوف ولا مرعي. إن الله ورسله وكتبه صيغة إيمانية غير مقبول أخذ بعضها وترك بعض منها، وغير مقبول إعمال مبدأ الاختيار والانتقاء فيها, فما راقنا من نبي، وما راقنا من شريعة نتبعه ونظن أننا نمارس حقا من حقوق الاختيار لأن هذا إن صح وهو غير صحيح يدل على أن هؤلاء الرسل متفرقون وأن مصدرهم ليس واحدا، وأن مبدأ التوحيد وهو جوهر الإيمان ليس صحيحا. لذلك حينما أعلن الله عقاب هؤلاء، كان ردا على عاقبة أمرهم وعلى ما أحدثوه من خرق لقاعدة الدين الواحد وما يترتب عليه من فوضى لاحدود لها. إن موقف هؤلاء ليس وبالا عليهم فقط ولكنه أيضا وبال على المجتمع البشري الذي احترمت الشريعة حقه في الاختلاف في التدين وحرصت كل الحرص على حقه في التعايش والأمن والسلام تحت مظلة لاضرر ولا ضرار.
إن أخطر ما يهدد المجتمعات اليوم هو الذي صورته الآيتان السابقتان أن تبتدع لنفسك ما تظن أنه اختيار صحيح ثم لاتكف عن إذاعته وفرضه على الناس بوصفه اختيارا ينفع لكل الناس وهو لاينفع إلا صاحبه. فكما اخترت واقتنعت لاتفرض اختيارك على أحد ودعه يختر لنفسه على شرط أن كلا منا يتحمل تبعات اختياره. ألا نرى ان الدين والفكر الصحيح والعلم والفن يدعمون الإنسان على الأرض أملا في إنجاز حياة أفضل قوامها الحرية والعلم والعدل والتدين البناء. ” إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا” النساء 150/151.