الإنسان في متاهة عصره الرقمي.. قراءة تأويلية في المجموعة القصصية “أصغر من رجل بعوضة”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

معتصم الشاعر*

مدخل:

      في مجموعته القصصية المسماة ” أصغر من رجل بعوضة” والصادرة عن دار لوتس للطباعة والنشر والتوزيع في العام 2022، يسعى القاص السعودي حسن علي البطران للتعبير-بأسلوب مكثف-عن مأساة الإنسان في هذا العصر الرقمي، تضم المجموعة ثمانٍ وأربعين قصة تحمل كل ثلاث قصص رقما، وهي تنتمي إلى القصص القصيرة جدا أو قصص الومضة، والتي يعد البطران من أكثر المشتغلين بها في الوطن العربي، وقد لفتت مجموعاته القصصية عددا من النقاد وطلاب الدراسات العليا.

   في ” أصغر من رجل بعوضة”، تتنوع الموضوعات لتشمل الكثير من مجالات الحياة، الحياة التي تتسم بالضآلة كما يوحي بذلك العنوان، يمكننا أن نجملها في موضوعات بحسب الإفرازات النفسية للعصر الذي نعيش فيه، والذي غيّر تماما من نمط حياتنا وتعريفنا للأشياء وعلاقتنا بأنفسنا وبالآخرين، لقد خلقت مواقع التواصل الاجتماعي- كأبرز عنوان للعصر الرقمي- واقعا اجتماعيا وإنسانيا جديدا، وأثَّرت في صحتنا العقلية ووصل البعض إلى مرحلة الإدمان، وازداد شعورنا بالقلق والاكتئاب وشعورنا بالعزلة وظهرت مشكلات اجتماعية عديدة، وتصدر المشهد أناس تافهون شغلوا الناس وقلبوا موازين القيم، واضمحلت تلك النشوة التي تنتج من المعرفة الجادة والتأمل والاكتشاف، وصار الإنسان كالمجنون يطارد توافه الأمور من مكان إلى آخر، وهذه الصورة يرمز لها الكاتب بمطاردة البعوضة، فيقول ” ولن نتوقف عن ملاحقة البعوضة وإن انتقلت من مكان إلى آخر”، فلنقترب أكثر من ملامح عصرنا كما رسمه قلم البطران محاولين تأويل قصصه الموجزة في سياق الواقع، نحاول أن نجد خيوطا ربما تساعدنا على الخروج من متاهة عصرنا الرقمي.

 ومن الآثار التي تلقي المجموعة الضوء عليها:

الهشاشة النفسية:

       لقد صار إنسان العصر الرقمي هشاً من الناحية النفسية، يمكن أن يحطمه أي شيء، كل تعليق سلبي قد يحفر جرحا في الأعماق، عدم احتفاء الناس بما ننشر قد يجرحنا، عدم تعليقهم أيضا، لم يعد الإنسان واثقا في نفسه، ولا قيمته نابعة من ذاته، ولذلك يحتاج دوما إلى التوكيد الاجتماعي، ومن أمثلة الهشاشة قصة غفوة، حيث يؤدي عدم تحقيق حلم إلى حالة من الاكتئاب هي أشبه باحتجاج على القدر، تقول القصة:” تبخر حلمها، أقيمت صلاة المغرب، لم ترتدِ العباءة، ولم تتوضأ”، إنها الهشاشة التي تجعل الإنسان لا يتقبل ذاته ولا نتائج أعماله ولا نظرة الناس له، وتضطرب علاقته بخالقه لمجرد ظهور عقبة في الطريق.

جعلتنا الهشاشة أكثر خوفا من أي شيء قد يدمر صورتنا الذاتية، وهذا هو الوتر الذي تعزف عليه ثقافة الفضائح، نجد ذلك في قصة البيت الزجاج، والاسم يحيلنا إلى المثل المشهور الذي بيته من زجاج لا يقذف الناس بالحجارة، والذي يعني أن الآخرين أيضا يمتلكون معلومات كافية عن ما يعيبنا فعلينا بالحذر.

الظمأ إلى التوكيد الاجتماعي:

   صرنا مكشوفين للجميع، نقوم بتوثيق حياتنا العادية، من لحظة الاستيقاظ وحتى المنام، وصرنا نحتاج إلى الآخرين لنتأكد من أننا سعداء، نحتاج إلى قلوب يضعها الآخرون على صورنا في مواقع التواصل لنحب أنفسنا، نحتاج علامات الإعجاب لنعجب بأنفسنا، نحتاج إلى تعليق الآخرين على الأماكن التي زرناها، لنقرر إذا كنا سنشعر بالسعادة بأثر رجعي أم لا؟، ولحاجة الآخرين أيضا إلى التوكيد لاحقا، فهم قد يصفقون للشخص مجاملة ليحصل على شعور طيب، فأول قصة في المجموعة بعنوان تبرير تقول:” سترت جسدها خوفا من البعوضة، صُفق لها في حفل مصغر”، فكل صورة لنا في مواقع التواصل وكل منشور هو في الحقيقة دعوة إلى حفل مصغر، نحصل منه على الإندروفين لنشعر بالسعادة، مما يؤدي بنا إلى الإدمان، ولذلك نمضي وقتا أطول لإدارة حساباتنا أكثر من الوقت الذي نقضيه لإدارة حياتنا.

السطحية:

هنالك طوفان من الخيارات، ملايين الفيديوهات تغرقنا كل يوم، ملايين المعلومات، آلاف الكتب تصدر كل يوم، ملايين المنشورات تتجول في الفضاء الرقمي، تبحث عنا، هذه الخيارات العديدة تصيبنا بما يسمى بشلل التحليل analysis paralysis   وهذا الشلل يجعلنا لا نختار، ننتقل من موضوع إلى آخر، نبدأ قراءة شيء ونقفز إلي آخر دون أن نكمله، نستهلك معلومات دون أن نعطي أنفسنا وقتا للتأمل ومعالجة المعلومات، والوصول إلى معرفة حقيقية تقود إلى حكمة نعيش بها ونورثها للآخرين، ففي قصة فلتر- وهذه التسمية تشير إلى عملية التزييف التي تحدث في مواقع التواصل- يقول:” أراد أن يقفز من السطح، فقفز إلى سطح”، كأننا نعيش في متاهة السطحية، كل طرقاتنا تؤدي إليها.

وفي قصة بدون عمق، يقول:” فتح دفتره، كتب فيه كل من رآه”، وهذا العنوان يحيلنا إلى قصة هوس العمق للكاتب باتريك زوسكيند، والتي تُقدم فيها فنانة تشكيلية على الانتحار، لأنها لم تجد العمق الذي تحدث عنه الناقد، قصة ساخرة أيضا تُجسد الضياع الذي يعانيه الإنسان حين يرهن قيمة أعماله لنظرة الآخرين، وفي قصة البطران، بلاغة استخدام مِن بدل ما، فكأن بطل القصة يفتح دفتره ليكتب فيه انطباعات الآخرين.

الزيف: 

      في قصة يصعد السلم نازلا يقول:” حرص على الصوم، تذكر برودة الماء، قال: السنة القادمة أكمل سنوات المراهقة”، تتناول المجموعة بعض أوجه الزيف الذي بات منتشرا في عصر الفلاتر، والقداسة التي تتلون، ففي نقاب ممزق يقول:” ابتسم، وابتسم الجميع من حوله، لم يزدد غرورا، انحنى وتكاثرت حوله صاحبات الكواعب المرتفعة”.

الاغتراب والعزلة:

       في قصة غربة يقول:” يسأل عن البعيد، والقريب أكثر احتياجا، يظل في حالة غربة، وهو يهيش داحل أسوارهم”، إننا في حالة عطش دائم لشيء مجهول، نفترض أنه ليس في أيدينا، وليس في أعماقنا أيضا، ولذلك صرنا غرباء حتى عن أنفسنا، منعزلين عن كل شيء تقريبا. 

ضعف الروابط الأسرية:

        لقد جعلتنا وسائل التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو معزولين عن بعضنا حتى لو كنا نعيش في مكان واحد، حتى الزوجين صار كل منهما يعيش في عالمه الافتراضي، قد تجمع رأسيهما مخدة واحدة، لكن رأس كل منهما في واد مختلف، قصة ثقوب متباعدة تقول:” يجمعهما سرير واحد، لكنه مثقوب، تحاول تقترب منه، يتظاهر بالمرض”، وفي صبغ من جنون يقول:” قلت لها:” جننوني”، صمتت قليلا ثم قالت:” هما لك “، حتى الأبناء الذين هم زينة الحياة الدنيا صاروا مصدر إزعاج لنا بمحاولتهم سحبنا من عالمنا الافتراضي والقلاع التي نريد احتلالها ببطولتنا الخارقة في ألعاب الفيديو، إنهم يُثيرون غضبنا فننفعل كالمجانين، وقد ندرك بعد فوات الأوان أننا قد فرطنا في شيء عظيم، ففي قصة برزخ يقول” قبل أن يغمض عينيه للأبد، نطق: جننت بهما”، وضمير التثنية يوحي لنا بأن بطل القصتين واحد، في المرة الأولى كان جنونه السلبي ناتج من الانزعاج، والآن  يصير للجنون معنى إيجابي، أي  العشق، ولكن فات الأوان.

غياب المرجعية :

    في هذا  العصر نعيش في سيولة القيمية، ناتجة عن غياب أو تغييب للمرجعية، فصارت الأهواء بديلا للمعايير، ولذلك تتمزق كل أوراقنا القديمة عن القبح والجمال، الخير والشر، الخطأ والصواب، فصارت ساحتنا ملعبا للعابثين،  ولا يمكننا أن نتنبأ بما سيحدث لنا، باب الاحتمالات مفتوح على مصراعيه، ففي قصة باب يقول:” غفل عنه الملك، مزقت الذئاب بطون الغنم”.

الاستسلام للتحكم:   

      من ملامح إنسان هذا العصر، القابلية لتحكم الآخرين-خاصة إذا كانوا في الخفاء- في مصيره وحياته، إنه قد يسمع عن مؤامرة تحاك ضد البشرية ومحاولات لترسيخ نظام التفاهة لتسهيل قياد البشر، وقد يقرأ بيانات معلنة عن مشروعات لهدم القيم أو الأسرة، أو غير ذلك، لكنه لا يستطيع أن يقاوم، كأنه يتعامل مع القدر، ربما لأن من يتحكمون في البشرية يعرفون كيف يطوِّعون المتمردين، في قصة قناع يقول:” ارتدى ثوبه ليستر عورته، أُغلق عليه الباب”، وهذا ما حدث لمشاهير كثر سُدّت الأبواب في وجوههم فقط لأنهم فضحوا ما يجري، ولتعميق الاحساس بالتحكم عن بعد يستخدم القاص صيغة المبني للمجهول، فنجده يقول:” فُتح كتابه..”، أُُبعد  عنها..”، ” لم يُصفق له..”، ” أُغلق عليه الباب”، هذه الصيغة توحي بضعف المفعول به، أما الذين يتحكمون فيه فهم ماضون في طريقهم، ” يتنافسون في النمو”، وبإمكانهم توجيه الحياة والانتباه إلى حيث يريدون، فقط عليهم بتسليط الأضواء، ففي قصة بقعة ضوء يقول:” يعمل على إزالة  أدران يعتقد أنها تستقر في داخله، يصطدم بكثير من الضعفاء، يستمر في غسيل الأوساخ عن ثيابه”، إنهم يعرفون كيف يزيلون التهم عنهم، فهم ماهرون في صناعة الشعارات وهم سحرة يجيدون فن التزييف.

…………………………

*روائي وكاتب من السودان  

مقالات من نفس القسم