ممدوح فرّاج النّابي
المعروف أن الأمومةَ فطرةٌ إنسانيّةٌ، عطاءٌ وتماهٍ بين ذاتين، حبٌّ لا محدود وغير مشروط. في الأصل الأمومة محميّةٌ من الصراعات والتوتر، لكن أن تتحوّل الأمومة إلى خطاب محاكمة ومساجلة يصل إلى حدّ التوتر والارتياب في فعل الأمومة، هو ما أقدمت عليه الكاتبات عبر آلية الكتابة، في اختبار لمِحَنِ الأمومة ومَشَقَّتِها .
ومن ثمّ تتوالد أسئلة من قبيل هل تتصالحُ المرأة الكاتبة مع أمومتها سريعا مثل باقي النساء؟ أم هل نستسلم للنزعات الثقافية التي ذرعت بداخلنا والقائلة إن دور المرأة الأبدي والوحيد هو الإنجاب: الأمومة، أم ننتصر لمواهبنا المتفردة؟ هل نغيّر أنفسنا كي يتغيّر قدرُ النساء ونغيّر العالم معنا؟
الأم المخفيّة
الأمومة وظيفة لها متطلبات خاصّة جدًّا، حتى من أجلها في بعض العصور ضحّتِ الأم بصورتها لحساب الطفل، وهو ما عُرِف بـ “الأم المخفيّة”. أيضًا الكتابة هواية هي الأخرى لها متطلباتها، وآلياتها، التي تقتضي في أحيان التضحيات، ومن ثمّ تتوارد أسئلة من قبيل: هل تكون الأمومة، هي كبش الفداء من أجل الاستجابة لإغواء وشطط الكتابة؟
فكرة الصّراع بين الأمومة والكتابة والابداع، أو التنكُّر للرحم مقابل العقل والمنطق، هي محور الكتابيْن، على اختلاف التناول. وإن كان ثمة صراع من زواية أخرى، بارز في سؤال: لمن تكتبُ المرأة؟ هل تكتب لطفلها أم تكتب لذاتها؟ فحسب الشاعرة أدريان ريتش التي تستدعيها مرسال: الشعر يوجد حيث لا أكون أمًّا لأحد، حيث أوجد كنفسي”
قدّمت التركيّة أليف شفق تجربة الأمومة في كتابها الأشبه بسيرة ذاتية “حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم” دار الآداب (ترجمة، محمد درويش)، فقدمت صورة لحالة الاكتئاب، التي تعتري المرأة بعد الولادة، وهو ما انعكس على الكتابة، فغدا الحليب الأبيض الناصع البياض أسودَ، وبالمثل قدمت إيمان مرسال تجربة مماثلة في كتابها “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها” (سلسلة كيت.ت، بدعم من معهد جوته بالقاهرة) 2017. وقد استهلته بمقطع شعري للشاعرة البولندية أنّا سوير (1909- 1984) تظهر فيه حالة الصّراع بين الأمّ وابنتها، وإن كان ليس صراعَ ملكية ولا جندر، ولا أجيال بل صراع مرتبط بالولادة كعملية بيولوجيّة يشترك فيها كائن عاش وتكون وقام باختيارات ما تخص وجوده قبل لحظة الولادة.
السّرد في الكتابيْن أقرب إلى سردِ الأمومة، حيث تسرد كلّ كاتبة تجربتها مع الأمومة، بدءًا من مخاوفها التي تبلوّرت في صورة رفض، وصولاً إلى المُعايشة التامة مع هذه التجربة الجديدة. تهتدي شفق بعد رحلة طويلة في عالم الأمومة أو بمعنى أدق المرأة وعلاقته بإبداعها، تصل إلى ذات النتيجة التي أقرّها الروائي التركي الشهير«بيامي صفا» عندما قال لها عندما ذهبت إليه إن «الطريقة الصّحيحة للخلق بالنسبة للمرأة، أيّة امرأة هي رَحمها، لا عقلها». ومرسال تنتهي إلى هذا حيث تقول “أن تكوني أُمًّا وكاتبة هو أمرٌ لا ينطوي في حدّ ذاته على أي تعارض ظاهر”. وإن كان هناك مَن يرى ثمة تعارضًا على نحو ما عبرت ريتش، فقد عبرت عن إحباطها لأنها لا تستطيع أن تجد وقتًا لنفسها، حتى خالت مرسال وهي تستعرض حالتها الصّراعيّة بين واجباتها ككتابة وأمومتها، أنها تمنت أحيانًا من طفلها الذي هو جزء منها أن ينفصل عنها بعض الوقت.
شرخ الأمومة
صراع أليف شفق وتساولاتها حول إمكانية الكتابة في ظل الأجواء الجديدة، يتوازى مع صراع وتساؤلات إيمان مرسال، ليس فقط وهي تبحث عن الملامح المحدّدة للأمومة التي استقرت داخل المتن العام، ولكن كيف ننصت إلى ما يخرج عليه ويعارضه، كيف يمكن أن تُدرك أن الأمومة الموسومة بالإيثار والتضحية تنطوي أيضًا على الأنانية وعلى شعور عميق بالذنب. وكيف تراها في بعض أوجهها صراع وجود، توترًا بين ذات وأخرى، وخبرة اتصال وانفصال، تتمّ في أكثر من عتبة مثل الولادة والفطام والموت.
في تجربة شفق تسرد عن خوفها السَّابق للولادة، وهو الخوف من الزواج نفسه، ثم حالة الخوف من الحمل ذاته فيوم أن عرفت أنها حامل كما تقول: “ارتعبت المرأة الكاتبة بداخلي” ومن شدة الدخول في نفق ما بعد الولادة، لا تشعرُ كيف كتبتْ هذا الكتاب، لكن الشيء الوحيد المؤكّد كما تعترف: “أنني كتبت هذا الكتاب بحليب أسود وحبر أبيض، مزيج من القص والأمومة والتوهان والاكتئاب، مريج قطّرته لعدة أشهر في درجة حرارة الغرفة”
خايل إحساس الرّعب إيمان مرسال عندما تأكّدت من حملها، وإن كان الفارق أنها أرادته بكامل إرادتها. ومع هذا “فلم تشعر بالفرح”، وإنما سيطر عليه “طوفان من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالح للقيام بهذه المهمة”. الخوف مصدرها لتاريخها الشخصي قبل الحمل، والمخاطر الممكنة التي قد يسببها هذا التاريخ الشخصي للجنين، هنا نحن مع نوع من الشعور بالذنب سابق لمشاعر الأمومة. ما ضاعف الإحساس بالرعب أن الجسد بلا تاريخ طبيّ.
تتجاوز أليف شفق التجربة الذاتيّة الشخصيّة، التي مرَّت بها قليلاً، إلى تقديم رحلتيْن متوازيتيْن الأولى إلى وادي الأطفال، والأخرى إلى غابة الكتب؛ في وادي الأطفال تُلقي نظرة على الأدوار الصانعة لحيواتنا، بدءًا بالنّسوية ثمّ الأمومة ثمّ التأليف، وفي رحلة غابة الكتب؛ ستطوف بنا في أعمال العديد من الكاتبات الماضيات والحاضرات شرقيات وغربيّات.
وبالمثل تأتي تجربة مرسال شاملة، وإن كانت انغلقت في البداية على الذّات، لاظهار مخاوف هذه الذات من الطارئ الجديد، فتستدعي إيمان تجارب في الكتابة عن الأمومة، كما في تجربة الشاعرة سنية صالح، وعلاقتها بابنتها التي كانت تراها تماهيًّا، وليست انفصالاً على نحو ما كانت تجربة الشّاعرة البولندية أنّا سوير. أيضًا تستدعي تجربة الكاتب ج.م.كوتزي، خاصّة روايته “إليزابيث كوستلّو” حيث يرفض جان ابن الكاتبة الشهيرة إليزابيث كوستِلّو أن يقرأ ما تكتبه أمه، وهذا الرفض كان بسبب تجاهلها وانتقامًا من بابها الموصود في وجهه.
لا يتوقف الاستدعاء عند نماذج الأمومة وفقط، بل تتخذ من الصُّورة الفوتوغرافيا دليلاً ملموسًا لكشف خفايا هذه العلاقة، وأيضًا تتحايل بهذه الصُّورة على الفَقد الذي شعرتْ به من غياب الأم، ومن ثمّ تقدّم تنويعات مختلفة على هذا الغياب للأمومة منها؛ صورة الأمومة (غير المرئية) التي تكشف عن دلالات متعدِّدة منها التضحيّة التي تجعل الأم مخفيّةً في الصّورة، أيضًا عن الطبقيّة المتفشيّة؛ فالصُّورة التي تظهر بها المرأة من الهند، تختلف بالضرورة في دلالتها عن تلك التي تقدمها المرأة الآتية من الصحراء. وهناك صورة الأم الأداة، التي تصبح مجرد رمز للحظة تاريخية بكاملها، لصراع اجتماعي، لكارثة، للأمة كلها. ولا تختلف الأم الأداة عن كونها أمًّا ضحية هي الأخرى.
توحّد مشاعر الخوف من فكرة الحمل ذاتها بين التجربتيْن؛ فأليف شفق عندما اكتشفت أنها حامل صُعقت فكما تقول “لم أشعر قط بأنني أريد أن أصير أمًّا“، نفس الشيء يتكرر عند مرسال، وإن كان خوفها يتحوّل إلى رفض خشية “أن تكون بيضة يشرخها المولود في طريقه لحياته” وفي لحظة استثنائية عندما يصبح أمرًا واقعًا تتكاتف مشاعر الخوف بسبب التاريخ الطّبي المجهول لها، وكأن لحظة ولادة شخص جديد تتطلب موت كائن آخر، وهو الأمر الذي رآه جورج باتاي بمثابة الجانب السّاحر في مأساة الحياة، فمع أكثر لحظات الحياة سحرًا يبدأ شرخ الأمومة من الداخل.
مرجعية الأمومة
فكرة استدعاء التجارب السّابقة للأمومة غالبة على النصيْن، فأليف شفق وهي تبدأ أولى خطواتها مع طفلها تلوُذ بالجدة ونصائحها. فتدخل إلى عالم الأمومة بميراث الجدّة المغاير لثقافة شفق الحديثة والغربيّة في آنٍ واحدٍ، لكن من أجل الأمومة تتصل الثقافتان على ما بينهما من نقاط اختلاف. ثم تتخذ من تجارب كاتبات غربيات نموذجًا لها، في عملية التكييف بين الأمومة والكتابة، ومن ثمّ تستحضر الكثير من التجارب الشّخصيّة لنساء في المشرق والمغرب، مررّن بمثل هذه التجارب، كنوع من الدعم المعنوي لذاتها لتخطّي هذه المحنة تارة، وتارة ثانية لتؤكّد أن هذه النماذج ليست حكرًا على كاتبات من الشرق وفقط، وإنما هو اتجاه عام.
أما مرسال فتنقاد إلى التجربة الجديدة، وهي محمَّلة بميراث أمومي، حيث كانت في الماضي ابنة لأم، وهذا الماضي يقودها إلى التفكير في اتجاه المستقبل. المراوحة بين كونها بنتًا لأم، وكونها الأن أمًّا، يصيبها بالتوتر، خشية تكرار تجربة الماضي، فالحاضر يستدعي مرجعية لتخيّل الأمومة، مهما كانت صورة الأمومة فيها؛ مُسالمة أم عنيفة، دافئة أو باردة، عاقلة أو مجنونة. لكن المأساة إنك لو اكتشفت أن أمك قد ماتت قبل أن تكوني ذاكرة أو مرجعية تلجأ إلى تجاربها؟ هذا الشعور بفقد المرجعية الأمومية نظرًا لغياب الأب يجعلها تستدعي مثيلات للفقد كفقد الوطن، فتجربة الأمومة في الغربة تضعها أمام محك وجودي؛ هل تجعل الإنسان أكثر حرية أم أكثر ضياعًا في ممارسة دوره كأم؟
الاحتكام إلى النّسوية واضح في النصيْن، فأليف شفق تعود لكافة الدراسات النسوية لتاريخ الكاتبات في أمريكا وفرنسا والصين واليابان، كما أنها قارنت بين تجارب هذه الكاتبات على اختلاف جنسياتها: سيلفيا بلاث، أداليت أغا أوغلو، فيرجينيا وولف، مورييل سبارك، أناييس نين وغيرهن، قبل مرحلة الحمل وبعدها، وأيضًا تطرقت إلى حياة بعض زوجات الكتاب مثل صوفيا زوجة ليو تولوستوي وفرقت بين وجهة نظرهن بين فكرة “الأمومة” و”الرؤية النسوية feminist لخلق شيء من التوازن العقلاني؛ أو فيروز أخت الشاعر الفضولي البغدادي، لتخلص في نهاية الأمر إلى أن الأنثى (تحديدًا) يتساوى لديها العقل والرحم في الحمل والإنجاب، وهي المقولة التي أدركتها مؤخرًا شفق بعد أن تجاوزت الثلاثين على نحو ما أكّد من قبل الرّوائي التركيّ الشهير«بيامي صفا».
في كتاب أليف شفق، التصقت أليف بالأم عن طريق النسب إليها، وسردت تفاصيل هذا التخلي عن ذكورية الأب، والانسياق إلى تضحيات الأم، وهو في حد ذاته اعتراف بمدى التضحية والمعاناة التي تكبلتها الأم، بعكس ما رأى بعض الكتاب أنّ الأمومة أنانية، نفس الشيء فعلته إيمان في كونها راحت تلصق بالأم عبر الصورة التي أخذت تستدعيها من الذاكّرة عن أمها، عن طريق الفوتوغرافيا بما أن التصوير الفوتوغرافي فن رثائي، كما قالت سوزان سونتاج، فالتصقت بالصورة الوحيدة التي شاركت فيها الأم.
الكاتبتان قدمتا تجارب سخيّة عن الأمومة والعطاء، والتضحيات التي قدمتها الأم، لتنال هذا الشرف الذي اسمه أمومة بعيدًا عن أيّة تحيزات جندرية!