عبد اللطيف النيلة
استلقى على الزربية، مستندا برأسه على وسادة مكتنزة، وراح يحدق في شاشة التلفزة. عادة ما يكتفي بمتعة الصور، منتقلا من قناة لأخرى. فهو يحتاج إلى رفع الصوت إلى أقصاه، إذا أحب الإنصات الجيد لبرنامج ما. ولم يكن ذلك متاحا له إلا لحظة يخلو البيت. لكنه الآن كان ينظر إلى الشاشة بعيون شاردة، بينما أخذت «فوقيته» تختلج بفعل الهواء الفاتر الذي تثيره المروحة الكهربائية.
في مثل هذا الوقت، كان يروق له أن يحث خطاه باتجاه المقبرة حيث مجلس أصحابه تحت التينة الوارفة. يمر من باب الخميس ذي القبة الظليلة، ملامسا بنظره زخارف بديعة كساها الغبار، ثم يسير بمحاذاة السور الطيني القصير حتى يبلغ الدرجات الحجرية، فيصعدها ملتقطا ما تحمله الريح من أصوات أصحابه. وتحت تلك التينة المعرشة في ناحية من المقبرة المهجورة، كان ينغمر في اللعب مع أصحابه، بروح قتالية تخفف من لهيبها – أو ربما تؤججه – دعابات ساخرة. إذ لم تكن لعبة «الروندة» مجرد حركات محسوبة تستعين بالحظ لإلحاق الهزيمة بالخصم، بل كانت أيضا تراشقا فكها بالتعليقات. ذلك ما كان يثيره: أن تتفادى ضربات الخصم، أن توقعه في شباكك، وأن تحاصره بين المخالب اللاذعة للسخرية. نشوته أن يجعل المتفرجين يستلقون على ظهورهم من الضحك. أحيانا، كان ينتشي حين يصفو مزاجه، وتجود ذاكرته بنتف مثيرة من حكايته في «لاندوشين». وإذ يرى الشك مخامرا أحدا ما، كان يكشف عن أثر رصاصة بين كتفيه أو في ساقه اليسرى، ويختم ذلك بفتح شكارته الجلدية حيث يغوص بيده في عمقها، ثم يخرجها قابضة على أوسمة خبا بريقها.
في بعض الصباحات، كان يقطع مسافة أطول باتجاه قلب المدينة، حيث توجد حانوت صديقه الأكثر قربا إلى نفسه. يدلف إلى سوق «السمارين» من الباب ذات الدفة الخشبية العتيقة، فيمر بالحوانيت المصطفة على الجانبين، ويخالجه إحساس مميز: يغتبط بالظل البارد الذي يوفره سقف السمارين وأرضيته المرشوشة بالماء، يرتاح إلى الروائح المنبعثة من قفاف الزهر، ومن الجلد والخشب، ويفتنه اكتشاف الوجوه الجميلة وسط الزحام. وإذ ينتهي به الخطو إلى عتبة الحانوت، يتطاول بعنقه إلى حيث يجلس صديقه عاكفا على صقل إحدى مصنوعاته الخشبية، فيلقي عليه التحية بصوته الأجش وقد تهللت أساريره، بينما يهب صديقه لاستقباله وقد وشى وجهه بفرح طفل تلقى مفاجأة سارة. يتناسل الحديث بينهما على رشفات الشاي، فيتبادلان السؤال والأخبار عن الصحة والأولاد والأصحاب والوقت، ويتذكران الأيـام التي أمضياها معا، في هذا الحانوت، لتمرين أصابعهما على تحويل الخشب إلى مزهريات وصُنيدقات ولوحات شطرنج و….
أحس مرارة الافتقاد، وتنهد: «أين تلك الأيام؟». أدرك مبلغ خسارته إذ فرط في مسكنه بالحي الشعبي القديم. حتى رؤية صديقه أصبحت متعذرة، اللهم إلا إذا تحامل على نفسه وانتظر حافلة بلا موعد وصبر على نصف ساعة من الازدحام والاهتزاز. مضى شهر على آخر مرة رآه فيها.. تحديدا عندما قدم صحبة زوجته لمباركة الدار الجديدة. لازال يتذكر وجهه الضاحك بطاقم الأسنان، وهو يقول مازحا : «ألم تجدوا مكانا تسكنوا فيه غير هذا الثلث الخالي؟». لحظتها قال في نفسه: «فعلا هو ثلث خال: لا ركوب ولا أصحاب، لا جامع الفنا ولا سمارين ولا باب الخميس….». لاشيء لاشيء. لكن صديقه بدا مع ذلك منبهرا وهو يتفقد الدار الجديدة. لم يكف عن تكرار «تبارك الله !.. تبارك الله!»، بل إنه كلما أجال عينيه في حجرة ما، أظهر استحسانا بالغا: «هذا هو الصالون وإلا فلا!… هكذا يكون المطبخ وإلا فلا… هذي…».
لازال ينظر إلى التلفزة بعيون شاردة. على صراخ حفيده صحا. وإذ هم بالسؤال، دخلت ابنته الكبرى إلى الصالة ساحبة خلفها ابنها وائل:
– العب معه يا أبي. لا يريد أن يتركنا نعد «المسمن».
– ولم؟
– يريد أن يعبث بالعجين.
كان وائل يبكي ويجاهد للتملص من يد أمه. نادى عليه: «تعال يا بني، اقترب من جدك، سنلعب لعبة الحمار». قال ذلك وانحنى بجذعه فوق الزربية وأخذ يتمشى على ركبتيه ويديه، وينظر إلى حفيده. كف وائل عن البكاء متابعا حركة جده الحمار، لكنه قال: «كلا، فنلعب بالسيارة!». وسرعان ما أحضرت أمه سلة ملأى باللعب، فأخرج منها سيارتين بلاستكيتين: واحدة للإسعاف والأخرى للسباق. أزاح الجد الزربية جانبا، فبدت أرضية الصالة ملساء يلتمع زليجها. جلسا متقابلين، هو فوق الزربية المطوية، ووائل بالقرب من الجدار الآخر، وشرع كل واحد منهما يدفع سيارته في الاتجاه المعاكس. كانت السيارتان تدرجان بسرعة فوق الأرضية، وهو يصدر صوتا شبيها بصوت سيارة حقيقية، ووائل يقلده ويصيح بانفعال طفولي ويضحك كلما تصادمت السيارتان أو انقلبت إحداهما. نسي نفسه، ولم يستطع أن يتمالكها، إلى حد أنه راح يصيح مثل حفيده. فجأة سمع صوت زوجته: «ما هذا يا رجل؟! لقد صدعتمونا». توقف ليلتقط أنفاسه، ونظر إلى زوجته الواقفة، مستنكرة، أمام باب الصالة. وعندئذ أحس بذلك الجوع الذي ينهش الأحشاء ويدوخ الرأس، فسألها عن الأكل، غير أنها انصرفت وهي تغمغم، رآها تقول شيئا ما، لكنه لم يسمع شيئا، وقدر أنها قالت: «لم تعد تجيد غير اللعب والأكل!».
لما تحلقوا حول المائدة، مد يده باتجاه طبق «المسمن». وقبل أن يستل منه رغيفا، اعترضت ابنته الأستاذة: «ممنوع، هل تريد أن يرتفع لك السكر ؟». وأشارت إلى طبق يشتمل على قطع بصل وخيار وطماطم: «كل من هذا!». فقال مغتما : «تعبت من السلاطة، أريد خبزا». وتحت وابل النصائح والأوامر التي انهالت عليه من كل جانب، لم يجد بدا من الاكتفاء ببسكويت السكري مع رشفات شاي بدون سكر.
لاذ بالصمت محتميا بصور من ذاكرته: وهو شاب كان يجازف، مع قلة من أبناء دواره، بالسباحة في وادي «زرابا» الرهيب. وبعد مغادرته لقريته، كان يهزم المدينيين في حلقة الملاكمة بساحة جامع الفنا. أما في جبهة الحرب، فكم تحمل من أهوال، أقلها ذلك الزحف الطويل المتعب الذي يتساقط له الرجال، في ذلك الجو الغريب: مطر وشمس حارة في آن !
تنهد عميقا، واتجه نحو الباب وقد داخ رأسه أكثر.
هبط الدرجات التي لم تبلط بعد، مستندا إلى الدرابزين الحديدي. ولما فتح الباب استدار إلى اليمين حيث يوجد باب الجراج مفتوحا على مصراعيه. تخطى كومة من السقالات الخشبية، وتقدم بين أدوات البناء وأكياس الإسمنت وقطع الزليج، حتى بلغ ركنا منزويا في عمق الجراج. هناك ركنوا صندوقه الحديدي بلونه الأخضر الباهت. في الدار القديمة كان يضعه تحت السرير الحديدي العالي. يحتفظ به مثل إرث نفيس، وعندما يحكي لأبنائه إحدى مغامراته في «لاندوشين» كان يطلعهم على صوره بالبذلة العسكرية، ثم يسحب الصندوق من تحت السرير، ويرفع غطاءه أمام أنظارهم المشبعة بالفضول. كانوا يقلبون بين أيديهم تذكاراته وأشياءه العسكرية، ويثيرون الأسئلة وقد تجسد انبهار الطفولة على ملامحهم وحركاتهم…
والآن.. آه ! الآن يرمون بصندوقه إلى عتمة الإهمال، صدئا فارغا إلا من ناعورة خشبية ومغزل وأحذية بالية، و.. حقيبة الجوخ العسكرية: التذكار الوحيد المتبقي من أشياء الصندوق.
مد يده إلى أحد جيوب الحقيبة، واستخرج علبة السجائر. تناول منها سيجارة واحدة ثم أعادها إلى الجيب وأغلق الصندوق. أوغل في السير بعيدا عن البيت، لكنه حين أشعل السيجارة وسحب منها بضعة أنفاس انفجر: «إلى متى هذا التكتم؟». أحس أنه مثل مراهق يخشى أن يضبطه أهله متلبسا بالتدخين.
في اللحظة التي اقترب فيها من الدار، رأى سيارة ابنه الدكتور أمام الباب. كانوا يتأهبون للذهاب – كعادتهم – إلى ذلك الرصيف المعشوشب، في قلب شارع فرنسا، حيث النسيم عليل والناس ساهرة إلى آخر الليل. ارتدوا ثيابهم الأنيقة وحملوا معهم بساطا وماءا مثلجا وأوراق لعب، وركبوا السيارة. لكنه اختار هذه المرة ألا يذهب. ألحوا عليه في الطلب، وقالوا إن عليه أن يغير الجو من أجل صحته، فالصهد يرفع الضغط والهواء المنعش يحسنه و…، ثم إن «الروندة» لا تكون ممتعة إلا بحضوره. انطلقوا.. ، فيما اكتفى هو بالتلويـح لهم بيده.
أغلق باب الجراج ممسكا علبة السجائر في يده، وصعد إلى الصالة.
رفـع صـوت التلفـزة إلى أقصـاه، وجلس يتفرج في برنامج خاص بأغانـي الحوزي، ويدخن بالتذاذ. كان النسيم قد بدأ يهب من النافذتين الكبيرتين المشرعتين على فراغ مساحات التجزئة السكنية، وكان هو يستمع إلى عزف الكمنجة وضربات الطعريجة موقعا على الأرض بقدميه. أشعل سيجارة أخرى، وتابع الشيخ المعطي يتكلم عن الحوزي، ولم يلبث أن انساق مع فكرة خطرت له من قبل، إلا أنها بدت هذه المرة شديدة الإغراء. هب إلى الهاتف بعد أن خفض صوت التلفزة، ركب رقم صديقه وانتظر.
… وعندما وضع السماعة، كان تعليق صديقه ما يزال يرن في رأسه: «أتراك اشتقت إلى أيامك ؟». فعلا حن إلى ما يمنحه الإحساس بالحياة: غدا يفاجئهم باستيقاظه المبكر، سيوصله ابنه بالسيارة، بل سيستقل الحافلة.. برغم… لا يهم، وسيقطع الساحة باتجاه السمارين وإذ يصل إلى الحانوت سيرتب المصنوعات الخشبية ويكنس الأرضية ويرشها، ثم…
أحضر سلة الفواكه من الثلاجة، وضعها فوق المائدة، وانتقى لنفسه تفاحة طازجة. قال بصوت مسموع: «ما ألذ الممنوع!»، وواصل رسم صورة للأشياء التي سينجزها في حانوت صديقه، لكنه توقف عن قضم التفاحة حين خطر بباله احتمال أن يعترض أبناؤه. «و لو!..و لو!..»، ردد في نفسه. وإذ عاد إلى قضم التفاحة سمع رنين جرس الباب: أحد أبنائه جاء؟ سارع إلى خفض صوت التلفزة، وأعاد سلة الفواكه إلى الثلاجة. وفيما كان رنين الجرس يتواصل، كان هو يبحث عن معطر الجو.