الأزمة والمنطق في سوريا العثمانيّة: قراءة في فكر ميخائيل مشّاقة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في محاضرته بعنوان “الأزمة والمنطق في سوريا العثمانيّة“، قدّم الدكتور بيتر هيل من جامعة نورثمبريا تحليلًا شيّقًا للمسار الفكريّ لـميخائيل مشّاقة (1800–1888)، العالِم الموسوعيّ، والطبيب، والدبلوماسيّ، وأحد أبرز شخصيّات القرن التاسع عشر في سوريا العثمانيّة، والذي تُشكّل كتاباته نافذةً استثنائيّة لفهم التحوّلات الدينيّة والسياسيّة والمعرفيّة التي شهدتها المنطقة خلال تلك الحقبة. ومن هذا المنطلق، اِعتمد هيل في عرضه على مقاربة سِيَريّة، حيث ربط حياة مشّاقة بالسياق الأوسع للإصلاحات العثمانيّة في القرن التاسع عشر، وما رافقها من تصاعد في التوتّرات والعنف الطائفيّ، إلى جانب التفاعلات الفكريّة والثقافيّة العابرة للحدود، لا سيّما بين المشرق العربيّ والمراكز الفكريّة في أوروبا. وقد أتاح هذا الإطار فهمًا متعدّد الأبعاد لشخصيّة مشّاقة، بوصفه شاهدًا على تحوّلات عصره ومساهمًا في إنتاج معانيها وفهمها.

أمّا في النقاش الذي أعقب المحاضرة، فقد سلّط الدكتور فاراك كيتسامانيان، من قسم التاريخ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، الضوء على التحدّيات المنهجيّة التي تواجه كتابة السيرة في مثل هذا السياق المعقّد، مُتناولًا بشكل خاصّ التوتّر القائم بين تجربة الفرد الشخصيّة والبنى التاريخيّة الجامدة، كما تطرّق إلى مسائل تتعلّق بكيفيّة موازنة الباحث بين هذين البُعدين في سعيه لفهم الماضي بعمق وتحليلٍ أكثر إنصافًا.

وُلد ميخائيل مشّاقة في قرية رشميّا لعائلة كاثوليكيّة يونانية، ونشأ في بيئة تشكّلت ملامحها من مزيج بين الامتياز واللااستقرار. كان والده مصرفيًّا ومستشارًا مقرّبًا من الأمير بشير الشهابيّ، ما وفّر للأسرة نوعًا من الرفاهيّة والاستقرار. غير أنّ هذه الامتيازات لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما تبدّدت مع تصاعد الاضطرابات السياسيّة في المنطقة. فقد اضطرّ إلى الفرار مع عائلته نحو مصر. وقد تركت هذه التحوّلات أثرًا عميقًا في نفس مشّاقة، وولّدت لديه وعيًا حادًّا تجاه هشاشة العالم من حوله، ما دفعه منذ سنٍّ مبكرة إلى السعي الحثيث نحو البحث عن منطقٍ يُفسّرُ فوضى الأحداث من خلال العقل والتأمّل. وفي هذا السياق، شكّلت ظواهر طبيعيّة مثل كسوف الشمس في عام 1813، والعاصفة الثلجيّة النادرة التي ضربت جبال لبنان، لحظات محوريّة في وعيه الناشئ؛ إذ كانت بمثابة نقاط انطلاق دفعته إلى الغوص في تساؤلات عميقة حول الكون، والدين، والعلم. وهكذا، لم تكن هذه الأحداث مجرّد مشاهد في ذاكرته، بل أصبحت علامات فارقة في رحلته الفكريّة التي امتدّت طيلة حياته.

في مرحلة شبابه، سافر ميخائيل مشّاقة إلى دمياط، المدينة الساحليّة النشطة التي كانت آنذاك مركزًا تجاريًّا نابضًا بالحياة ومنفتحًا على ثقافات وأفكار من مختلف أنحاء العالم. هناك، وللمرة الأولى، وجد نفسه في بيئة مختلفة تمامًا عن قريته، حيث انفتح وعيه على طرق جديدة في فهم العالم، وتعرّف على أنماط معرفيّة لم تكن مألوفة في بيئته الأولى. لكن سرعان ما تفشّى الطاعون في دمياط، فكشف أمام مشّاقة مشهدًا متنوّعًا من ردود الأفعال، وأثار في نفسه الكثير من الأسئلة. فقد واجه الناس الكارثة بطرق شتى: بعضهم لجأ إلى الصلوات والطقوس الدينيّة، وآخرون استخدموا التعاويذ والممارسات السحريّة، في حين بدأت أصوات جديدة تتحدّث عن المرض بلغة الطبّ والعلم. هذا التباين في ردود الأفعال أثار في نفسه تساؤلات عميقة حول جدوى المعتقدات التقليديّة، وفتح له بابًا للتشكيك. وتدريجيًّا، بدأ يشكّ في الكثير ممّا كان يعتبره مسلّمًا. ابتعد عن التصوّرات الدينيّة الجامدة، وراح يقرأ ترجمات عربيّة لكتب أوروبيّة كانت تدور حول العقل والعلم، خصوصًا تلك المتأثّرة بفكر التنوير. وكان لكتاب أطلال الإمبراطوريّة أثرٌ خاصّ عليه، إذ ساعده على تكوين فهم جديد للعالم: عالم تسيّره قوانين الطبيعة، لا المعجزات، وتُبنى فيه العقائد ضمن سياقات اجتماعيّة أكثر من كونها حقائق ثابتة. وبهذه الرحلة الفكريّة، بدأ مشّاقة يتحوّل من شاب مؤمن بالتقاليد إلى مفكّر يسعى إلى فهمٍ أعمق للعالم من حوله، بعينٍ ناقدة وعقلٍ منفتح.

رغم أنَّ آراء ميخائيل مشّاقة الدينيّة تغيّرت أكثر من مرّة على مدار حياته، فإنَّ تمسّكه بالعقل ظلّ ثابتًا لا يتزعزع. بالنسبة له، كان العقل الوسيلة الأهمّ لفهم ما يدور حوله، خاصّة في أوقات الأزمات والاضطراب. وبعد عودته إلى جبل لبنان في عشرينيات القرن التاسع عشر، عاد إلى موقعه داخل النخبة الماليّة، لكنّه لم يتوقّف عند ذلك. فقد انكبّ على دراسة الطبّ والرياضيّات واللاهوت، مدفوعًا برغبة صادقة في فهم أعمق للحياة والإنسان. ومع مرور الوقت، ازدادت شكوكه في التقاليد الدينيّة الصارمة. وكان يشارك في نقاشات حادّة مع رجال الدين، وغالبًا ما كان يسخر من تعصّبهم وانغلاقهم. لم يكن يرى في الإيمان تكرارًا لما قيل من قبل، بل حوارًا دائمًا بين العقل والقلب، بين الشكّ والبحث عن المعنى.

في تلك المرحلة المفصليّة من ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، وجد ميخائيل مشّاقة نفسه منخرطًا في ديناميكيّات سياسيّة متشابكة، وسط التحوّلات العميقة التي كانت تعصف بسوريا العثمانيّة. فقد جاء الاحتلال المصريّ بقيادة محمّد علي باشا وابنه إبراهيم باشا بإصلاحات مركزيّة صارمة شملت نزع سلاح القوى المحليّة، وفرض ضرائب مباشرة، وإعادة تنظيم السلطة بشكل لم تعهده المنطقة من قبل. هذه الإجراءات، على الرغم من طابعها الإصلاحيّ، أشعلت توتّرًا جديدًا وأدّت إلى انقسامات اجتماعيّة وسياسيّة متزايدة. وسط هذا الواقع المتقلّب، انتقل مشّاقة إلى دمشق، المدينة التي كانت آنذاك قلبًا نابضًا بالحراك التجاريّ والفكريّ. هناك، تزوّج من عائلة تجاريّة بارزة، ودخل عبرها إلى شبكات النفوذ المحليّ. شيئًا فشيئًا، أصبح صوته حاضرًا في الحوارات الكبرى التي كانت تدور بين الأعيان المحليّين، والمبشّرين الأوروبّيين، والسلطات العثمانيّة. وقد لعب دور الوسيط، أو ربّما المترجم، بين عوالم متباينة: بين الداخل والخارج، بين التقليد والتغيّير، بين السياسة والدين.

وقد كانت إحدى المحطّات الحاسمة في تطوّر مشّاقة الروحيّ تَفاعُله المتزايد مع المبشّرين البروتستانت، وعلى رأسهم إيلي سميث. ورغم انتقاداته المتكرّرة لأساليب التبشير التي رآها استعمارًا فكريًّا، إلّا أنه وجد في بعض جوانب البروتستانتية –لا سيّما تركيزها على القناعة الداخليّة وقراءة النصوص الدينيّة ضمن سياقها التاريخيّ– ما يتجاوب مع عقله القلق وتساؤلاته التي لا تهدأ. فبدأ يقرأ نصوصًا دينية بروتستانتيّة ذات طابع عقلانيّ، من بينها كتاب أدلّة النبوءات لألكسندر كيث، الذي حاول إثبات صدق المسيحيّة من خلال الحُجج التاريخيّة والمنطقيّة، وهو ما وجده مشّاقة أكثر إقناعًا من الطرح الكاثوليكيّ التقليديّ. وفي عام 1848، أعلن تحوّله العلنيّ إلى البروتستانتيّة، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة في أوساط الطائفة اليونانيّة الكاثوليكيّة، وأحدث شرخًا بينه وبين مجتمعه القديم. لكن تحوّله لم يكن مجرّد موقف عقائديّ، بل كان انعكاسًا لحاجة أعمق: سعي حقيقيّ للتوفيق بين الإيمان والعقل في وقت كانت فيه نفسه، كما مجتمعه، تبحث عن استقرار روحيّ وسط تحوّلات لا تهدأ.

كما سلّط الدكتور فاراك كيتسامانيان الضوء على الطبيعة المعقّدة لتحوّل ميخائيل مشّاقة إلى البروتستانتيّة، معتبرًا أنَّ ما حدث لا يمكن اختزاله بمجرد “تغيير في العقيدة”. وطرح سؤالًا عميقًا: ماذا يعني أن يتحوّل الإنسان دينيًّا في زمن كانت فيه المفاهيم الدينيّة والعقليّة في حالة تفكّك، والمشهد السياسيّ في اضطراب دائم؟ إنَّ تحوّل مشّاقة لم يكن استجابة عاطفيّة أو خضوعًا لضغوط خارجيّة، بل جاء في سياق رحلة فكريّة طويلة، تشكّلت من قراءات، وترجمات، وتفاعلات مع أفكار جديدة، إلى جانب خيبات شخصيّة وتجارب عايشها عن قرب. لقد كان يبحث عن لغة جديدة للإيمان، لغة تستوعب شكّه ولا تنفيه، وتفتح له بابًا لفهم ذاته والعالم من حوله بطريقة أكثر صدقًا. تجربته تقف على طرف النقيض من السرديّات التقليديّة التي تقدّم التحديث الدينيّ كمسار واضح وخطّي. على العكس، ما نراه في مسيرة مشّاقة هو حالة حيّة من التجارب، والانفتاح، وإعادة تعريف الذات في وقت كان فيه العالم يتغيّر، والمعنى يُعاد اكتشافه من جديد.

تناولت المحاضرة أيضًا أثر الحرب الأهليّة والمجازر الطائفيّة التي اندلعت عام 1860 في جبل لبنان ودمشق، والتي شكّلت واحدة من أكثر المواقف قسوة في حياة ميخائيل مشّاقة، وطبعت كتاباته اللاحقة بطابع من التأمّل العميق والحزن المكبوت. عندما اندلعت الحروب وظهر العنف، وجد مشّاقة نفسه وسط مشهد دمويّ لا يشبه شيئًا ممّا عاشه من قبل، فاضطر إلى الفرار إلى دمشق. وهناك، رغم الفوضى، أعاد بناء حياته بهدوء وصبر، وواصل الكتابة كأنّها وسيلته الوحيدة لفهم ما حدث، ولملمة ما تبقّى من المعنى في عالم متصدّع. كانت التجربة قاسية، بل مزلزلة. لكنّها لم تُطفئ في داخله إيمانه بالعقل، وإن هزّته في العمق. لم يرَ في تلك المذابح غضبًا إلهيًّا، كما رآها كثيرون من حوله، بل رأى فيها نتيجة مباشرة لانهيار المنظومة القديمة التي كانت تحفظ توازن العيش المشترك، واستغلالًا سياسيًّا للطائفيّة من أجل مصالح ضيّقة. وعلى عكس من فسّروا الأحداث بالقدر الدينيّ أو خيانة القوى الأوروبيّة، تمسّك مشّاقة بمحاولته العقلانيّة لفهم ما جرى، وسعى إلى تحليل ما حدث من منظور عقلانيّ وتاريخيّ، مؤمنًا أن فهم المأساة لا يكون بالاستسلام لها، بل بالغوص في جذورها السياسيّة والاجتماعيّة. لم يواجه الكارثة بالخضوع وإنّما واجهها بالأسئلة.

على مدار حياته، تمسّك ميخائيل مشّاقة باستقلاليّة فكريّة نادرة في زمن كانت فيه المواقف غالبًا تُصاغ تحت ضغط المؤسّسة أو الجماعة. لم يرتبط يومًا بمؤسّسة دينيّة، ولا عمل رسميًّا ضمن جهاز الدولة، وفضّل أن يبقى على مسافة من الخطابات الجاهزة والمواقف المتوقّعة، حتّى من أقرب أقرانه، مثل بطرس البستاني، الذي رأى فيه ميلًا إلى المشي مع التيّار. ورغم أنّه كان جزءًا من مجموعات النخبة الثقافيّة والاجتماعيّة، فإنّ كتاباته لم تكن امتدادًا لصوت تلك النخبة، بل عبّرت عن قلق داخليّ، وتردّد تجاه الحداثة التي كانت تطرق أبواب المشرق. فهو لم يكن معاديًا للتقدّم، لكنّه لم يؤمن به كحلّ سحريّ، ورأى فيه مشروعًا معقّدًا يستحقّ التوقّف والتساؤل. في مذكّراته الأخيرة، التي كُتبت بنبرة هادئة وناضجة، نلمس هذا المزيج بين التجربة الشخصيّة والرؤية التاريخيّة الأوسع. عبّر فيها عن حنينه إلى زمن الأمير بشير الشهابيّ، حين كان يشعر أنَّ السياسة، رغم استبدادها، تحمل قدرًا من التماسك والانضباط، بخلاف التفكّك الطائفيّ الذي ساد أواخر العهد العثمانيّ. لكن الأهمّ من ذلك، وربما الأصدق، هو إصراره على الإيمان بقيمة الإنسان الفرد، رافعًا مبدأ الاستقامة الشخصيّة فوق كلّ أشكال الانتماء الجماعيّ. إذ لم يكن يعنيه الانتماء الطائفيّ بقدر ما كان يؤمن بأنّ ما يصنع الفرق في النهاية هو صدق الإنسان مع نفسه، ونزاهته في القول والفعل. تلك كانت طريقته في مقاومة زمنٍ مضطرب: أن يبقى حرًّا في فكره، صادقًا مع روحه.

في ختام المحاضرة، لفت كلٌّ من بيتر هيل وفاراك كيتسامانيان إلى مدى صلة فكر ميخائيل مشّاقة بتجاربنا المعاصرة. فقد عاش مشّاقة في مرحلة تاريخيّة مضطربة، مليئة بالأزمات والانقسامات، لكنّه لم يسمح لهذا الواقع بأنّ يسلبه قدرته على التفكير. لم يستسلم للقدر، ولم يغلق الباب أمام الأسئلة. كان يلجأ إلى العقل لا بوصفه وسيلة للهروب من الفوضى، بل كأداة للبحث عن المعنى وسط العتمة. لم يكن ينتظر أجوبة نهائيّة، بل كان يفتّش عن خيط رفيع يربط بين الأحداث، عن طريقة يفهم بها العالم دون أن يفقد إنسانيّته. وتُظهر لنا كتاباته كيف يمكن للفرد أن يواجه الانقسام وعدم اليقين، لا فقط بالبقاء أو النجاة، بل بالتأمّل، والشكّ، والانحياز المستمر للحقيقة، حتّى وإن كانت هشّة. إنّ إرث مشّاقة ليس في ما قاله فقط، بل في طريقته في العيش: في اختياره أن يواجه الاضطراب بالتساؤل لا بالاستسلام، وبالبحث عن الانسجام الداخليّ وسط عالمٍ متفكّك من حوله.

……………………….

* قدّم المحاضرة: الدكتور بيتر هيل من جامعة نورثمبريا | شارك في النقاش: الدكتور فاراك كيتسامانيان من الجامعة الأميركيّة في بيروت

 

 

 

مقالات من نفس القسم