“الأزبكية”.. سؤال الدولة المدنيّة المعلّق !

"الأزبكية".. سؤال الدولة المدنيّة المعلّق !
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لا تستدعى رواية "الأزبكية" لناصر عراق، والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، التاريخ من أجل الماضى، ولكنها تستحضره لتطرح سؤال الحاضر المعلق عن الدولة المدنية الحديثة،  إنها تذكرنا على نحو واضح بأننا ما زلنا ندور حول أنفسنا، لأنه ما زال هناك من يستحضر الخلافة والدولة التى تصنف الناس وفقا لأديانهم وعقائدهم. تسقط الرواية فكرتها على زمننا الراهن، وتنبهنا الى بذور الفكرة المصرية القومية، التى لم تتطور مع الأسف الى دولة مدنية عصرية تحقق الحرية والمساواة، رغم المحاولات المتعثرة، وكأن أسئلة القرن الحادى والعشرين، هى نفسها أسئلة القرنين التاسع عشر والعشرين، وكأننا نتقدم الى الأمام خطوة، لنتراجع خطوتين، وأحيانا ثلاث خطوات.

من حيث الشكل، فإن “الأزبكية” رواية تاريخية، تسير فيها الأحداث على مستويين من الزمن متداخلين ومتكاملين (1)  سبع سنوات حاسمة من عمر مصر (ثلاث منها احتلها فيها الفرنسيون، وأربع سنوات مضطربة تناوب على حكمها ولاة من العثمانيين والأرناؤؤط والمماليك)،  (2) وسبعة أشهر أشهر حاسمة من العام 1805 (من مايو الى نوفمبر) اختار فيه رجال الدين والتجار الأرناؤؤطى الألبانى محمد على واليا على مصر، لتبدأ صفحة جديدة لأسرة حاكمة لم تسقط إلا فى  العام 1952. أما أصوات السرد فتتراوح بين الراوى العليم، واثنين من أبطال الرواية يتحدثان بضمير المتكلم، بل إنهما بطلاها امتياز : النساخ المصرى الشاب أيوب السبع ، والرسام الفرنسى شارل فلوبير الذى عاش تسع سنوات فى مصر، قبل وبعد الحملة الفرنسية، وما الرواية فى جوهرها سوى قصة تأثر المصرى الوطنى أيوب بأفكار شارل عن الدولة العصرية الحديثة، إنطلاقا من مبادىء الحرية والإخاء والمساواة، ومن أفكار روسو وفولتير ومونتسكيو.

هذا هو العمود الفقرى للرواية الذى يحمل البناء كله، بل لعلنا نستطيع تلخيص فكرة الرواية بأنها محاولة إكساب الوطنية المصرية ممثلة فى أيوب بعدا إنسانيا وديمقراطيا عالميا ممثلا فى شارل، سيحدث ذلك على مستوى تغير رأى أيوب من مبدأ قتال الفرنسيين الغزاة من منطلق دينى، حيث يعتير الفرنسيين كفارا، ليتحول أيوب فى نهاية الرواية الى مقاومة كل الغزاة مهما كانت ديانتهم من منطلق قومى، لا فارق فى ذلك بين فرنسى وعثمانى وأرناؤوطى ومملوكى، ثم الحلم بدولة مصرية يحكمها مصرى عادل وشريف:” زلزلت أراء الخواجة الفرنساوى كل قناعات أيوب الفكرية، فمضى يقلب فى رأسه فكرة الوطن، وكيف يمكن لها أن تتوافق مع فكرة الأمة الإسلامية، وتساءل باطنه : هل يمكن أن يأتى يوم تصبح فيه مصر وطنا مستقلا غير تابع لأحد حتى الآستانة، ويحكمها رجل مصرى لا واحد من باشوات العثمانيين، أو بكوات المماليك؟ ومشايخ الأزهر أين سيذهبون وماذا سيفعلون؟” , ولكن أيوب ورفاقه لن يحققوا هذا الحلم أبدا على مستوى الواقع، كما أن شارل نفسه سيكون مجبرا على ترك مصر.

نسّاخ الكتب والفنان الفرنسى لم يستطيعا تحقيق إجابة سؤال الدولة على أرض الواقع ، فألقياه إلينا من جديد فى القرن الحادى والعشرين، يمكننا مع ذلك أن نفهم لقاء أيوب وشارل على أنه لقاء افتراضى وحلم نريده بين أفضل ما فى مصر ( شباب وحيوية وحماس ووطنية) ، وأفضل ما  جاء به الغرب ( فن وأدب وفكر سياسى وتسامح دينى) ، ولكن الرواية تقول أيضا إن المهمة ليست سهلة، وأن إجهاض محاولات هذا التلاقى مستمرة. جاء وأد الحلم فى نهاية الرواية على يد محمد على، الذى نعتبره ( للمفارقة) مؤسس الدولة المدنية الحديثة، ولكنه تأسيس ناقص وغير مكتمل، أخذ مظاهر أساسية من النهضة، ولكنه انقلب على زعماء الشعب الذين أتوا به، وجعل ديكتاتوريته بديلا عن ديكتاتورية السلطان العثمانى، الحلم سيلاقى تعثرات أقوى وأكبر فيما بعد، بل لعل صدمة محمد على تبدو هينة مقارنة بالخطر الداعشى الذى يهدد اليوم الدولة المدنية العربية (غير المكتملة أصلا)، والتى نراها أثرا بعد عين الآن  فى دول كثيرة .

ولكن رواية “الأزبكية” ليست فكرتها اللامعة فحسب، ولكنها  فى هذا النسيج الفنى المتماسك، الذى يأخذ من  تاريخ فترة السنوات السبع الحاسمة ما يحتاجه  الكاتب فقط لدعم فكرته، والذى يضفّر شهور تقرير مصير حاكم مصر، مع سنوات التحرر من الإحتلال الأجنبى فى جديلة واحدة تشكل قوام السرد، فكأن للحرية بذلك  وجهين  متكاملين: تحرير المكان، وتحرير الإنسان. ورغم أن أحداث الرواية الأهم تدور فى مناطق الحسين  والأزهر والدرب الأصفر وصحراء الدراسة وحارة برجوان وبين القصرين وبيت القاضى والسكرية، إلا أن عنوان الرواية يحمل اسم “الأزبكية” ، ربما لأنها المنطقة التى كان يوجد فيها القصر الذى حكم منه نابليون بونابرت مصر، ويوجد فيها قصر محمد على الذى حكم أيضا مصر، كما أن الأزبكية قديما كانت مكان سكنى الطبقة الثرية من الأمراء والتجار، فكأن محور السرد هو فكرة ” الإمساك السلطة”، التى تلعب دورا حاسما، سواء فى نهضة الوطن أو فى انهياره.

يلاحظ أيضا أن ناصر عراق لا يحسن الظن أبدا بفئتى رجال الدين والتجار، لقد حافظوا على مصالحهم مع نابليون، وكانوا أعضاء فى ديوانه، كما أنهم اختاروا محمد على، ثم استسلموا لديكتاتوريته، ثم أصبحوا جزاء من نظامه، الطبقة صاحبة المصلحة فى التغيير  عنده هى فئة الغلابة والبسطاء: هذه صورة دالة على ترتيب الطبقات وجلسوها فى الجامع الأزهر فى اجتماع حاشد بعد خروج الفرنسيين: ” فى الصفوف الأولى جلس كبار العلماء والتجار وشيوخ الجامع العتيق بوجوهم المورّدة وملابسهم الفاخرة يتوسطهم نقيب الأشراف السيد عمر مكرم الذى عاد للتو من بلاد الشام بعد أن ابتعد عن مطاردة الجنود الفرنساوية ، وفى الصفوف الأخيرة تكوّم الحرفيون والصنايعية والباعة والعاطلون  بأسمالهم البالية ووجوههم المنهكة، أما فى الصفوف الوسطى فقد جلس صغار التجار وطلاب الأزهر يتوسطهم أيوب السبع وعن يمينه على أبو حمص وبجانبه شلضم السقا ودياب ضاضو بائع البطاطا” . الجماعة التى كونها أيوب لقتل الفرنسيين، ثم المطالبة بحاكم مصرى عادل وشريف، تشكلت كما نرى من طلاب الأزهر المتحررين، وبعضهم لم يكمل تعليمه لظروف اقتصادية، فأصبح واحد منهم فرانا، وصار الثانى بائعا للبطاطا،إنها فئة تجمع بين بعض الثقافة التى تتيح  لها مزيدا من الوعى ، والإنتماء للفقراء والغلابة. أيوب يتثقف ويعى لأنه يقرأ ما ينسخه من الكتب، ولأنه يعرف رجلا عظيما مثل الجبرتى، ولأنه يحتك بأفضل ما فى أوربا وهو شارل الذى يرفض الإحتلال الفرنسى، ويسخر من أحلام نابليون فى فرض الحضارة بقوة السلاح، ويدين فكرة الإستعمار والقهر، ويدافع دوما عن الحرية والمساواة، وينجب طفلا من امرأة مسلمة اسمها مسعدة حجاب.

فى مقابل  تلك النظرة المتوجسة تجاه المشايخ والأثرياء، فإن الرواية تنحاز بدون قيد أو شرط للمرأة، إنها دوما مقهورة أو مسلوبة الحق،  ولكنها قادرة على التمرد، وبأقصى درجات الجرأة، يحدث ذلك بصرف النظر عن المستوى الإقتصادى: مسعدة حجاب مثلا ثرية، ولكنها عانت من زوج فظ، الجارية ياقوتة مهانة طوال الوقت، حسنات بائعة الشاى فقيرة وتتعرض للتحرش من زوج أمها، زيلمة الجورجية كانت مجرد متاع لزوجها المملوكى الراحل، حتى أشرف هانم عاشت مع زوج عاجز جنسيا، ويمتد هذا التعاطف الى النماذج الفرنسية، وإن كانت أفضل حالا نسبيا، أتحدث مثلا عن بولين العشيقة التى اختطفها نابليون من زوجها ثم تركها، فى كل الأحوال، فإن شرط الدولة الحديثة كما تقدمه الرواية، هو مكانة أفضل وحقوق كاملة للمرأة، لا بديل عن ذلك، وقد تطورت نظرة أيوب للمرأة  بالفعل من جسد حسنات الى حب سعدية زوجته، ربما أدى هذا التعاطف المطلق مع المرأة، والإنتصار لفكرة تمردها، الى تكريس صورة امرأة ألف ليلة ، فبدت النساء  مجرد كائنات شهوانية تبحثن  بالأساس عن متع الجسد، وتسعين وراء الرجال، وهو أمر غير مقصود بالطبع .

 فى رواية “الأزبكية”  لا توجد نهايات سعيدة، لا فى قصص الحب، ولا فى قصة الحرب من أجل وطن أفضل: شارل سيفقد حبيبته أمام الباستيل، وسيفقد مسعدة بعد مغادرة البلد، وسيفقد أخته، وأيوب سيفقد حسنات وحبيبته الفرنسية شقيقة شارل ( اسمها فى الرواية فرانسوا وهو اسم علم مذكر، ولعل المقصود فرانسواز  وهو الاسم المؤنث مثل فرانسواز ساجان) ، وسيفتقد رؤية زوجته وابنه القادم، وسيفقد حلمه لبلده ووطنه، ولكن الرواية تنتهى بكلمات شارل بأنه حتما سيعود الى مصر، شارل ليس شخصية من لحم ودم فحسب، ولكنه فكرة الحرية والحب والتسامح التى تسير على قدمين، دعونا نأمل أن يعود ذات يوم الى الشرق، حاملا النور والتقدم، وليس السلاح والعنف والغطرسة والغرور مثل جنود بونابرت، ودعونا نأمل أن يكون فى انتظاره ابن أيوب، الذى يرث قلمه وحماسه ورغبته فى المعرفة، هنا فقط يمكن أن تكون هناك فرصة لوطن لا يفرز الناس على أساس الدين، وطن للسياسة وللفكر وللفن وللحضارة، وليس وطنا للمشايخ والتجار ورجال البيزنس.

“الأزبكية” رواية ترتدى ثوب الماضى لأنه ما زال يلقى بظلاله على الحاضر والمستقبل، ولأنها تريد لنا أن نتأمل وأن نعى،  حتما لم نستوعب الدرس، وحتما سيستمر الصراع: عشاق الحرية والخير والجمال (مصريون وأجانب) فى ناحية، وأنصار القهر والإستعمار والتعصب الدينى ( مصريون وأجانب) فى الناحية الأخرى، والفوز لمن يستمر فى الصمود، ولمن يقرأ فيتعلم .

مقالات من نفس القسم