تبدأ الرواية بخطاب يحطم النافذة ويستلقي بتجاعيده وحوافه المدببة بجانب ملك الأرملة التي طال حلمها ثلاث ليال لتتساءل: أي ميت أنت؟ تنتهي الرواية بذات الخطاب مصقولا لامعا خاليا من تجاعيده وحروفه الذائبة وحوافه المصفرة كأنه ورقة بيضاء لم تكتب. فيما بين البداية والنهاية يقع صراع شرس بين الموت والحياة. يبدو الصراع بين الموت والحياة صراعا تقليديا ملائما لفيلم سينمائي أبيض وأسود علي أفضل تقدير. الا أن فعل الحياة يتجلي عند طارق امام برمزية بعيدة مختفية عن الآنظار تماما، بل ومحجوبة عن ملك نفسها: كتابة الخطابات العاطفية. وهو فعل يحمل ثلاث أبعاد: فهناك بداية فعل الكتابة التي هي في حد ذاتها فعل اثبات وجود في الحياة، وثانيا هناك كتابة الخطابات وهو دال علي التواصل مع الآخر، ويتجلي البعد الأخير في نوعية هذه الخطابات، فهي خطابات عاطفية، أي خطاب حب، ذلك الحب- وبشكل مفارق- الذي يعرفه أوكتافيو باث في الاستهلال الذي اختاره الكاتب أنه “لا ينقذنا من الموت، بل يجعلنا نراه وجها لوجه”.
تكررت موتيفة الكتابة عن الكتابة كثيرا في الأعمال الابداعية الحديثة، لكن أن تعيد ملك- الأرملة التي تستدعي الموت (قسرا)- كتابة الخطابات المتبادلة بينها وبين الحبيب الأول فهذا ما يسمي إعادة تشكيل الحياة عبر إعادة الكتابة.
الفكرة تدل علي شطحة خيال الكاتب- أو بالأحري جنونه المغامرالذي يدفعه إلي الزج بالأرملة في هذه المغامرة المؤلمة، تدل الفكرة أيضا علي جنون ملك نفسها التي أعادت اخراج الخطابات من الدولاب بالرغم من التواجد الدائم لشبح زوجها الصائغ. تبدو الكتابة هنا- أو بالأحري إعادة الكتابة- وكأنها فعل مقاوم بامتياز لشبح الزوج ولانتهاء الخيارات في الحياة ولقبح المدينة ولكافة التوقعات المجتمعية التي كان مفروضا علي ملك تلبيتها.
يكتسب فعل الكتابة أهمية مضاعفة في ظل الموت الحاضر بوجهيه: الوجه السامي- حيث الارتقاء والنبل والخفة التي ظهرت في تعامل ملك مع رجاء معاونتها في التعامل مع الطالبات، وفي استقبالها للغط الذي يدور حولها، وهناك الوجه المفزع حيث البتر والعجز والنهاية وقبح المدينة وموت الراهبة والجنازات التي تمر من أمام الشرفة فيكون وقعها علي الطالبات مختلف عن وقعها علي ملك. بذلك تتحول الكتابة في السرد إلي أداة لادارة الصراع بين الموت والحياة- وإن كان ذلك بدون وعي من ملك، سواء كتابتها الخطابات العاطفية للطالبات أو إعادة كتابة الخطابات الخاصة بها. تزداد محورية فعل الكتابة عندما يقاوم قبح المدينة وتداعيها وانهيارها علي كافة المستويات. المدينة التي تغيرت كثيرا كما تؤكد كل الشخصيات، المدينة التي تبدو فيها ملك نغمة نشاز بشعرها الحر الطليق، المدينة التي تنزع منها لافتة “السبع بنات..” ليحل محلها اسم شيخ ما، المدينة التي تشهد مرور الجنازات ليلا نهارا، المدينة التي تموج بقصص حب مكبوتة مبتورة لأن الرجل الذي امتلأ جلبابه بثقوب صغيرة بفعل السجائر كان ينتظر شابة صغيرة في الشارع ليصفعها ويجرجرها إلي سيارة أجرة.
تقاوم الكتابة انهيار المدينة وغرقها في القبح عبر استعادة الحب الأول، وعبر إعادة الكتابة التي تعني إعادة الاختيار. إذا كانت السلطة الأبوية- أيا كان شكلها- قد نزعت لافتة شارع السبع بنات (زملاء الراهبة اللواتي أنشأن مستوصف المدينة) عنوة وبدون مبرر منطقي، ورفضت أن تعطي الراهبة اللافتة، فملك تعلن عن عزمها إعادة امتلاك لافتة حياتها المهدرة في ظل كلاب حراسة تناوبت عليها، وكأنها ترد بذلك علي رحيل الراهبة في صمت. الكتابة تبني والمدينة تهدم (بفتح التاء وضمها).
المشهد الأخير: تشتد حمي الكتابة وتنتهي ملك من إعادة كتابة كل خطاباتها العاطفية الأولي، وتتأهب لاستقبال الموت. فالغفير الذي تولي اعداد المقبرة كان قد أخبرها أن المكان معد لاستقبالها ولا ينقص سوي تاريخ الرحيل الذي سيحفر علي شاهد القبر، أي لا ينقص سوي موتها الفعلي.
تتوجه ملك ليلا إلي المقابر ليتجلي التضفير السردي بين الموت والحياة في مشهد الذروة. فملك التي تتجه للمقابر ليلا في محاولة للبحث عن مكان موتها تجد الحياة في انتظارها سراً. فالمعروف في التحليل النفسي أن الجنس له وجهين: الموت والحياة، في اللحظة التي يسيطر فيها الموت- علي الأقل بفعل سطوة المكان- تنبثق الحياة بكل عنفوانها. حتي أن “مع استسلامها للحمي، لم تعد تميز حتي حدود اللذة والألم” (78).
وعندما التقطت القلم لتكتب علي ورقة الخطاب المصقولة “توقفت فجأة، قبل أن تخط حرفا..لأنها تأكدت- مرتعدة- أن اليد التي همت بالكتابة، ليست يدها” (79). يكتسب مشهد المقابر واللقطة الأخيرة في السرد رمزية متشابكة تفضي إلي معني وحيد كائن في الرواية: كانت الكتابة بمثابة إعادة إحياء وبعث لملك، من قلب الموت (بكل أشكاله) ومن وسط المقابر تبدأ ملك- الأرملة- حياة جديدة أعادت تشكيلها بيدها، حياة لا تشبه سابقتها حتي أن اليد التي همت بالكتابة ليست يدها. إنها الكتابة الجميلة في مدن قبيحة.