محمد عبد الدايم هندام
ثمانية عشر قصة قصيرة احتوتها المجموعة القصصية الأخيرة للقاص محمد خير، منها خمس قصص تطل فيها كل من شخصية الأب مع ابنه أو ابنته، “مفقود” و”مزحة” و”رسائل” و”قاموس” و”تمشية قصيرة مع لولو”، وفي هذه القصص الخمسة تغيب شخصية الأم، غيابًا اضطراريا بموتها، أو اعتباريًا، بوجودها في خلفية الأحداث لكن دون تموضع في بؤرة القصة.
يقول جان جاك روسو في كتابه “إميل أو التربية” إن: “المعلم الحقيقي هو الأب، وأفضل تنشئة على يد أب عاقل محدود مما على يد أمهر معلمي العالم”، ولكن الأب البطل في قصص محمد خير لا يدعي أنه حقيقي، لا يُلزم المتلقي بالاعتراف بأنه عاقل، كما لا يأتي مجنونًا، وإنما هو ببساطة أب مرتبك، يبدو وكأنه فوجئ بتصديره إلى رأس المنظومة المنزلية، بموت الأم، أو غيابها، أو وجودها المتواري عن الأحداث السريعة في القصص.
في القصة الأولى “مفقود”، يستقي خير من جملة الأمهات للأطفال “العصفورة قالت لي” قصة عن فقد الزوجة/ الأم، وما يعانيه الزوج/ الأب بعد رحيلها، سواء على الجانب الشخصي له، أو على مستوى تربية الطفل وحمايته، وبدا الأب هو المفقود، وليس الطفل الذي ظل يتتبع خط سير العصفور الذي يراقبه ويبلغ أمه بتحركاته وأفعاله.
في قصة “مزحة” أيضًا غيّب الموت شخصية الأم، وظهرت شخصية الابنة التي تواجه عالم المراهقة للمرة الأولى وحدها، دون معين لها، فالأب منغمس في ليالي السهر مع رفاقه، والأم في السماء، والطفلة تفتح عيونها على “عالم الرجال السري”، بينما لا تزال جاهلة بدلالة الدم اللزج الذي يخرج منها.
أما في قصة “رسائل” فإن الأب هو الغائب الحاضر، غائب بموته، حاضر بروحه وإرشاده للابن، الذي أصبح كبيرا عاقلا راشدا، لكنه في الوقت نفسه يتلمس صوت أبيه بين أصوات الرفاق والأصدقاء، وفي قصة “قاموس” يستعرض خير صورة واضحة من ارتباك الأبوة في التعامل في القاموس اللغوي الخاص بالأطفال، ويبدو الأب هنا أكثر ثقة والتزامًا بخطه “التعليمي” ليكون أبًا ملائمًا في موضعه، أما صديق الأب فيشعر بالارتباك والجهل اللذين يؤديا للخوف من خوض التجربة، والخوف من الفقد.
القصة التي وضعها خير كعنوان للمجموعة “تمشية قصيرة مع لولو” يتبدى فيها القدر الأكبر من الارتباك الأبوي، فلولو خائفة حائرة، والأب ليس ارتباكه بدرجة أقل، لا يستطيع أن يزيح خوف لولو من القطة، لأنه هو نفسه قد فوجئ بها مثلما فوجئ بصديق قديم، وليس ثمة ما يخيف في لقاء عابر بصديق، ولكن البطل على طول الخط مرتبك، يتحرك في الظل، يبحث عمن يحتويه، يعاني الفقد، ويعاني الاهتداء.
يعمل محمد خير بجهد في مجموعته على البحث عن مسار آمن للحياة الاجتماعية، داخل المنزل وخارجه، لكن أبطاله يرزحون تحت طاقة ارتباك وجودية، فبطل قصة “متبرعة” ينسل هاربًا من الفتاة التي أُعجِب بها، وبطل قصة “انتباه” اتضح أنه غير منتبه لارتباكه، خصوصا حين يكتشف أن صورته النمطية في عيون المحيطين به ليست كما اعتقد، وفي “بقعة عمياء” لا يكاد يجد نفسه بين الوجوه المألوفة وغير المألوفة، في العالمين الواقعي والافتراضي، ربما يبدو الأبطال في “ضوء العيون” و”طواف” قادرين على أن يشعروا بوجودهم في العالم، رغم العمى والشلل.
في “إصلاح الماضي” يسعى البطلان لتكذيب الأحداث، وخلق ذكريات جديدة، يصنعان من مواقف الحياة اليومية آلة للزمن، ربما يسلكان عبرها مدارك مختلفة لتغيير الواقع، لكن الواقع مربوط بالذكرى، والحاضر هائم في شوارع المدينة، يبحث عن موطئ قدم، لا تخطئها الحوادث المفاجئة، مثلما جاء في “طواف” و”دموع واسعة”.
يبحث خير مع أبطال قصصه عن معنى للحياة، ومرادف للموت، ويستند إلى إرهاصات الوجود المتلاشي، مثلما في قصص “تذكار” و”المرة الثانية” و”الساعة”، ويستخدم عامل الوقت لتدشين استراتيجيات مناوئة للتلاشي والفقد والرحيل.
لا يُلزم خير نفسه وأبطاله بتحديات كبيرة يهزمون بها الغياب، لأنهم أعلنوا من البداية وقوعهم في ارتباك وجودي، يتصاعد برتابة حتى ينزل السلالم، ويختفي عوده النحيل مع اختفاء بطلة قصته الأخيرة، واستعاض الكاتب عن المساعي المرتبكة باستعارات جمالية، بسيطة في لغتها، عميقة في معانيها، تبرز المعاناة الإنسانية في الوجود اليومي العابر، في المنزل والعمل والطريق والشارع، في ليالي السهر، وأمام المقابر، في أيام الأعياد، ورحلات البحث عن ظلال الأصدقاء والراحلين.
…………………
* المجموعة صادرة عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع، 2023
*قاص، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة