لم يكن الأبنودي مجرّد قوّال، كان بالتأكيد تربى على تراث القوّالين، وبالتأكيد علقت على لسانه الملاحم الشعبية، وبالتأكيد تمرّس بمقامات الكلام كلها، وبالأوزان وطرائق القصيد وإيقاعات الفولكلور المصري الشاسع، بالتأكيد امتلأ الأبنودي من هذا التراث وبالتأكيد كانت لديه سليقة القوّال وموهبة الارتجال وفن الحكّائيين ورواة الملاحم، لكن الأبنودي الذي عاش في المدينة شرّق بلغته وغرّب. استغرق بلغته بقاع مصر كله. مزج التراث الفلاحي بايقاعات المدينة، حكى حيوات صعاليك المدن ومشرديها. متبطليها ورواد مقاهيها، عمالها وأهل حوانيتها وفعالتها وشغيلتها. لقد نقل الايقاعات الريفية ومقامات الشعر الشعبي وأوزانه إلى زواريب المدينة وميادينها وساحاتها وحشودها وضجيجها وباصاتها وقطاراتها.
في شعر الأبنودي تزدوج حكايا الشوارع بحكايا الحقول، وفي شعره حكاية الإنسان العادي في الريف وفي المدينة، وفي شعره يزدوج السرد المديني واليوميات المدينية والعاديات المدينية بملاحم الريف وتراثه وإيقاعاته وفولكلوره وأناشيده.
لكن الأهم من ذلك ان الابنودي جعل من هذه اللغة المزدوجة الشاسعة ومن هذا المزيج الريفي المديني ما يمكن ان نسميه ملحمة مصر. لقد استطاع ان يحول الكلام العادي ولغة اليوميات والتفاصيل البسيطة إلى شعر نابض. لم يبق الابنودي قوالاً ومرتجلا. لقد صاغ من هذا الخليط اللغوي، من هذه الذاكرة الشاسعة، من حكايته الشخصية، من يومياته الخاصة، استطاع أن ينسج من هذا المزيج المتفاوت المتفارق غناء نابضاً مترسلاً دافئاً مشعاً. لقد استطاع ان يحول السرد العادي إلى ايقاعات لاهفة وإلى حنين وإلى أشواق. لنقل ان الابنودي استطاع ان يحول الحياة العادية إلى شعر بل وإلى ملحمة، وإلى حكاية للتاريخ المصري الراهن.
وبالتأكيد فإن هذا الشعر انتقل بزخمه ودفقه إلى الناس الذين روى حكايتهم. شعر الابنودي الذي جمع بين الفن الرفيع والبساطة كان ملء اعين الناس الذين تلقفوه ووجدوا فيه أنفسهم، فتهافتوا عليه وسعوا إلى اقتنائه بأي وسيلة، وذاع بينهم وشاع ولا نبالغ إذا قلنا ان الابنودي، كان نجم الشعر المصري وأكثر أفراده شهرة وشعبية. سيكون مأتمه لذلك، مثلما كان مأتم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وداعاً حاشداً، وسينزل الشارع المصري، كما نزل دائماً، ليحيي الذين حفظوا في تراثهم تاريخ مصر وملحمتها.