د. ياسر ثابت
هذه الرواية البديعة مكتوبة بأيادٍ هلامية لا تُرى، مغلولة إلى عروةِ الحنين. إنها نظرة إلى الوراء، حيث الجنة الوحيدة الممكنة، ونظرة أخرى إلى الأمام، حيث الحياة الشبيهة بالجحيم.
بعنوان مراوغ “أيام الشمس المشرقة” (دار العين، 2022)، تشير الروائية ميرال الطحاوي إلى قوس قزحِ الأملِ والخلاص وهو يغيب في تيارات الماء مع الغرقى، وتسرق لقارئها تلك الومضة من برقِ الحنين إلى الجنّة المفقودة.
في الرواية كثير من أصداء الهديل وزئير الوحوش وعذابات الأنفس التي عقدت العزم على الرحيل أو الغياب. ومن “سُّرة الأرض” التي استحالت “مركزًا للبيع والشراء والتفاوض والتلصص والتخفي” (ص 112) إلى “الكوارتر” وتلة “سنام الجمل” ومركب “عين الحياة” تتخلق أمامك جغرافيا كاملة وهائلة تعج ببشرٍ ذاهلين، يحلمون بنهرٍ شاردٍ بريء يغسل غرورهم وارتباكهم ويداوي خيباتهم، ويحقن أجسادهم بدماء الأرض الجديدة.
وفي كل ذلك، تطرز الروائية لقارئها وشاحًا ناعمًا، عن الخارطة النفسية لأبطالها القادمين من عالم متعدد الأعراق، وأبعادهم الاجتماعية السابقة حتى على الوصول لأرض المهجر، توظف تفاصيلهم اليومية التي تنتقيها بعناية، لتسلط الضوء على حياة لم نكن نعرفها، وعن فئة مهمّشة يظن الجميع، على عكس الواقع، أنها الفئة الناجية. تمنح الكاتبة لهؤلاء المهمّشين صوتًا، وتحفر عميقًا في أسئلة تخصهم وعالمًا روائيًا هو واقعهم ذاته، قبل أن يتحوّل السرد إلى رواية متماسكة تسرد قصصهم.
مع الصفحة الأولى من “أيام الشمس المشرقة” تضع ميرال الطحاوي قارئها في صلب الحكاية، وتصدمه بحادث إطلاق نار مميت.
“حين دخلت البيت، وجدت “نِعَم الخبَّاز” بِكرها الذي جاوز التاسعة عشرة بقليل ممددًا على الأرض وجهه إلى الأسفل والطلقة التي اخترقت دماغه خرجت من الخلف واستقرت في الحائط، رأت جسده الضخم ممددًا في بركة من الدم الطازج الذي لم يتجمد بعد” (ص 9).
سرعان ما نكتشف أن هذه الحادثة جزء من حوادث مأساوية مماثلة وقعت في الجوار خلال الأشهر القليلة الماضية. تدرك كقارئ أنه “ليس مهمًا الوقوف حول التفاصيل، يسقط البشر برصاص طائش طوال الوقت في تلك التلال، يحدث ذلك داخل البيوت الخشبية الفقيرة؛ وبالتالي يُرجح أن يكون انتحارًا أو مشاجرة عائلية من تلك المشاجرات التي تحدث في “الشمس المشرقة”، وتؤدي إلى نتائج ينساها الناس بعد وقتٍ قصير لينشغلوا بغيرها” (ص 11).
لا تسرف الروائية في التمهيد للشخصيات والأحداث، فتدخل في صلب الحكاية “تشتعل حوادث إطلاق النار في كل مرة في أماكن غير متوقعة” (ص 11).
في كل بيت من البيوت الخشبية في حي المهاجرين فاجعة تعلن عن نفسها، ولا تختلف سوى في تفاصيلها المروعة.
“بعد تلك الحوادث العارضة تحوّل إطلاق النار في الوادي إلى تراجيديا متسلسلة ذات طبيعة موسمية كالحرائق، لا يعرف أحد كيف تبدأ أو أين تنتهي” (ص 11)، لكن “نِعَم الخبّاز وحدها كانت تعتقد أن إطلاق الرصاص يحدث للآخرين، يحدث لـ”يولاندا” و”أوسكار” و”سوزانا”، ولا يمكن بالطبع أن يصل إلى بيتها، لكنه وصل” (ص 12).
نحن، إذن، أمام حالة من التوتر والقلق، ومشاهد الموت المجاني، في حوادث القتل والانتحار والرصاص الطائش، في حين يتناسى الناجون من الفواجع آلامهم وأحزانهم، بعد أن أصبحت تلك الحوادث من فرط تكرارها مجرد خبر.
ومع الوقت انشغلت نِعَم الخبَّاز بأوجاعها، وانشغلت “الشمس المشرقة” بعدة كوارث أخرى، مثل غرق “ميمي دونج”، وفقدان “لوسي” قطة “إيمي”، وهروب “عمر” ابن “نِعَم الخبَّاز”، وجروح “سليم النجار” ومحاولة انتشال أطفال المركبة المنكوبة “عين الحياة”” (ص 13).
في روايةٍ المأساة فيها غالبةٌ على تاريخ الجميع، تتمتع شخصيات الرواية بقدرٍ من التفرد الأدبي؛ إذ نرى في كل شخصية نموذجًا مطروق من قبل، على غرار عاملات النظافة اللاتي تنبعث منهن دومًا رائحة هي خليط من مساحيق وسوائل التنظيف، وتترك آثارها على راحات أيديهن، ويمتلكن ذوقًا خاصًا في الأزياء يعكس ارتباكًا واضحًا في الهوية لديهن، تمامًا كما هي الحال مع “نِعَم”: “ما تبقى من هيئتها كان مثيرًا للشفقة والرخص، تعكس ملابسها خليطًا من أذواق المهمشين، وذلك لأنها تعتمد بشكل أساسي على ما يمكن أن نسميه فضلات الآخرين” (ص 34).
ترصد الرواية عالم الطبقة المهمشة والمنسحقة من خلال عدد من الشخصيات: “نِعَم الخبّاز” عاملة النظافة التي شوّه وجهها إثر حادثة في طفولتها. “في الرابعة من عمرها انكفأت “نِعَم” على راكية النار وترك ذلك ندوبًا عميقة في الشق الأيمن من وجهها الأسمر البالي، وزادت الخدوش من لمعان عينيها الصغيرتين اللتين تشبهان عيون الثعالب الغاضبة” (ص 17).
تُجسِّد “نِعَم الخبّاز” التناقضات التي يصعب فهمها، فهي امرأة ليست جميلة لأسباب خارجة عن إرادتها، لكنها تفني عمرها بحثًا عن التقبل والمحبة، وأميّة، لكنها قادرة على خلق لغتها، ومجابهة المجتمع بلا خجل، وطموحة حد الشره، ومفعمة بالحياة والأسى والقبح والتناقض.
امرأة “تشتهي دور العاشقة والمحبوبة وهو دور لم تفلح في تجسيده في الحقيقة” (ص 37) و”تقفز من عينيها تلك النظرة المفعمة بالتشهي وهي تنحني بأدوات التنظيف على تلك البيوت الباذخة التي تقدِّم لها خدماتها” (ص 37).
“تعشق “نِعم الخبّاز” برامج التليفزيون المحلي وبرامج الواقع” (ص 39)، و”ظل إخلاصها لمتابعة تلك العروض التليفزيونية يرافقها، حتى بعد أن كبرت، وتحطمت فقرات ظهرها، وفقدت الرجال الثلاثة الذين وهبت حياتها لهم، ووهبوا حياتهم للفرار منها. رحل الزوج والولدان واحدًا بعد آخر وبقيت “نِعَم” على ذلك الخليج، تحاول تجاوز تلك الحقيقة باجترار الأسى، واقتناء فضلات الآخرين” (ص 40).
المفارقة أننا في نهاية المطاف نشعر بالتعاطف إزاء “نِعَم” الصاخبة والبذيئة، والفقيرة حد الفاقة، والمتعثرة في الحب وخائبة الأمل في العلاقات، وحتى في الأمومة.
إلى جانب “نِعَم” هناك أيضًا المزيد من المهمشين: “سوزانا” التي “تأكل كبقرة وتنتف حواجبها الرقيقة وتضع الكثير من المساحيق على تجاعيدها، بل وتنام مع كل عابر” (ص 41)، و”ميمي دونج” الشابة الإفريقية التي تم استقدامها مع غيرها من الأطفال عبر الكنيسة، والصومالية “فاطيما” وهي “الصديقة الوحيدة التي تخصها “نِعَم” باعترافاتها التي تتعلق بالرجال” (ص 41)، والمكسيكية “كريستال” التي “دائمًا ما تكون مشغولة في حصر غنائمها من حملات إخلاء البيوت المنكوبة” (ص 44) وغيرهن من الشخصيات، ضحايا الحروب والمجاعات، المتسللين، الخادمات والمربيات، الرجال أيضًا الصعاليك والطامحين والهاربين من جحيم الماضي.
وفي الرواية يتعرف القارئ أيضًا إلى فقيه المهاجرين “الإمام أبو عبد القادر”، الذي تتركز مهمته على تكريم الموتى وإقامة الشعائر ودفنهم في “مقابر “الشمس المشرقة” والتي يطلقون عليها “حديقة الأرواح”” (ص 50)؛ وكذا “أحمد الوكيل” غريب الأطوار، الذي “يملك هذا الوجه الجنائزي الذي يؤهله إلى التوسل والبكاء وإثارة الشجن” (ص 76)، وهو “يرافق شيخه في المقبرة حينًا، أو يجلس على رصيف العمال اليوميين، أو يقصد نقطة التجمع العمالي أمام بيت “كريستال” وزوجها المقاول الصغير؛ طمعًا في الحصول على عملٍ ما من الأعمال اليومية” (ص 61). وحين كسر حاجز الصمت وبدأ في البوح عن مشقة أيامه” أيقنت “نِعَم” أن قلبه قد سقط في تلك الهوة التي تُسمى البوح والفضفضة، وأنه قادم لا محالة إلى حيث أعدت العدة لاستقباله” (ص 63).
“حين دخل بيتها للمرة الأولى كان قد استسلم تمامًا لقدَره، مثلما يستسلم الجُحر لتقلُّص العقرب الصغيرة التي تختبئ في شقوقه” (ص 101)، و”استسلم لالتصاق “نِعَم” بجسده، وافتراسها بمهارة عقرب ما تبقَّى من أحلامه” (102).
يمكنك أن تستمتع بتذوق وصف الروائية لهذا العلاقة التي أصبحت زيجة أثمرت ولدين: “العلاقة بين أحمد الوكيل” و”نِعَم الخبّاز” كانت تشبه تصادم جبلين من الجليد، يتقاربان فقط ليسحق بعضهما بعضًا، ثم ينسحبان بعد خسارة حتمية بفعل التنافر العميق بين روحيهما” (ص 104).
“صارت “نِعم” تدرك بالتدريج أن “أحمد الوكيل” مجرد رجل خائب في الحياة والفراش معًا، وصارت تتعمد إهانته” (ص 107)، ليختفي الرجل من بيتها بعد ثلاث سنوات، وتتفرغ “نِعم” للاشتباك مع طفليها والحسرة على الأبناء الخائبين!
تزخر الرواية بالنوستالجيا أو الحنين إلى الماضي لدى أبطال الرواية من المهاجرين؛ إذ نجدهم غارقين في استدعاء الماضي، ويتبدى هذا الحنين الجارف كماء هزم السد، في كثير من المواقف والمواضع في الرواية. تأخذ النوستالجيا أبطالها وتقذف بهم إلى التفاصيل السحيقة، وإلى الصغير والبسيط من الأشياء التي شكّلت إدراكهم وأحاسيسهم في زمن مضى، لكن الحنين يبدو في النهاية استحضارًا مشوشًا، ومتخيلًا أيضًا، لأن الحقيقة غائبة، وربما لأن الشتات والتغرب عن مسقط الرأس يسمح لأبطاله أن يتصوروا أنفسهم بشكل حر وربما مختلق.
“كل الغرباء يخترعون تاريخهم الشخصي بطرق متخيلة ولا داعي للتدقيق فيها أو التوقف عندها” (ص 42)، “ربما لأن كل سكان “الشمس المشرقة” يكذبون بشأن ماضيهم الذي هربوا منه” (ص 51).
“أيام الشمس المشرقة” رواية ملحمية عن فكرة النجاة والبحث عن الضفة الأخرى، وسؤال الهوية، والتكيف مع قسوة الحياة.