اعترافٌ أخيــر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

"الشائعات حوله كثيرة، ولكن الأمر المؤكد أنه إذا نجح في تصويب عينيه إلى عينيك، فلن تفلح في التخلص من إغوائه". هكذا حذرني صديقي حينما لمح "طائر الفضول ينقر داخل رأسي" وأنا أراقب هذا العجوز الساكن فوق مقعده ولا تتحرك منه سوى أصابعه.

 

“أتعلم أنه رغم طول معشره، لم يضبطه أحدٌ يمارس فعلًا بشريًّا عاديًا، كشراء الطعام، أو تنظيف مدخل كشكه، أو حتى التشاجر مع الصبية الذين يقذفونه بالحصى أثناء جلوسه الطويل، لم يره أهل الحي إلا متسمِّرًا ملقيًا نظره للفراغ، باحثًا عن ضحاياه. يقولون إنه لا يرسم سوى وجوه الموتى، يحضر كافة الجنائز، ويبقى طويلًا متفحصًا وجه الفقيد، وينتظر بعد دفنه ساعات، ثم يختفي لعدة أيام ولا يظهر إلا وقد توج شاهد المدفن بلوحة لساكنه.

وفي ليالِ عديدة نتشمم رائحة تشبه الخشب المحترق تنفذ من كشكه، حتى بتنا على يقين أن أقلامه الفحمية يصنعها من حرق أجساد زبائنه، ليعيد رسم ملامح لوحاته برمادهم، فتشعر وكأن وجوهه فيها مسٌّ من أرواحهم.

أكلني مزيج من الخوف وحب الاستطلاع، تلاعب بي الأمران، حاولت طوال أيامٍ أن أتجاهل وجوده، أن أغير اتجاه سيري لئلا أمر به، ثم أتعمد الانشغال بتمريرات لكرة مطاطية بين قدمي لأشغل نظري عنه، حتى ضبطتُ نفسي عدة مراتٍ أراقبه من خلف الجدار القريب وأستطيل على مقدمة قدمي لكي أتابع حركة أصابعه.

ضربات قلبي المتسارعة تنشغل بحركة أقلامه، الملامح التي يعاد خلقها بين يديه، الظلال التي يضيفها بجدارة، فتمنح الوجوه حياة ومشاعر. المعجزة تتجسد أمامي وأنا ألهث من شدة التأثر،أفتح عيني على آخرهما. وفي لمح البصر وبدون مقدمات يصوب نظره إلى عيني مباشرة، “أبغت” ثم ألمح شبح ابتسامة.

رأيتني أضرب بكل تحذيرات أصدقائي عرض الحائط، أسير ما بين الصحو والنوم، في خدر يشبه التنويم المغناطيسي، أو لربما وقعت أسيرًا لإغوائه الذي حذرني منه صديقي، أسير إليه بضربات قلب تشبه المطرقة.

العجوز يتلقف كفي، يده خشنة، أطرافها طويلة، بارزة العروق، وكأنها لا تحمل لحمًا، تليق بيد ساحر قديم، ثم يدخلني دكانه الزجاجي.

على الحوائط وبين المناضد وأسفلها تتربص الوجوه بالداخل بعيون يسكنها الحنين، وجوه مختلفة، بعضها أكلها الشيب وأخرى كأنها ابنة البارحة، ولكنها جميعًا بنظرة وحيدة كرداء المدرسة الموحد.

يجلسني على مقعد قريب، يشبه مقاعد الأطباء النفسيين، يعيد ترتيب ملامحي وتصفيف شعري، يعقد يدي أمام صدري، كميتٍ، ثم يبدأ في العمل.

يخبرني أن البشر كالسحرة، يقومون بكافة الألاعيب للاختباء خلف أقنعة مطاطية، سهلة الطي وتعديل ملامحها، ولكنه كوليّ كان بارعًا في كشفها، لذلك لم تعجبهم لوحاته وطردوه من جنتهم، فأتى إلى هنا واكتفى برسم الموتى، “فالصورة الأخيرة صادقة تمامًا كطقس اعتراف أخير”.

وددت لو سألته: لماذا لوحاته خالية من الألوان؟ ولكنه يأمرني بعدم التحرك، يثبت نظري إلى أعلى كطالب الغفران، لا أعلم لم تذكرت كافة أخطائي الصغيرة ووجه أمي ومعلميني حينما تفاجئهم أكاذيبي، فطلبت منهم “المغفرة”، أشعر وكأن روحي تخرج من جسدي، تصل إلى حافة رقبتي، حيث حدود لوحته، أترى تعلقت روحي برسمه كما أخبروني؟

لا، أنا لا أريد أن أموت، هكذا قطعت سريان تخديره داخلي، بنداء لم يسمعه غيري، وإن لمحت شبح ابتسامة ساخرة على وجه العجوز.

“ما زلت صغيرًا على الموت”. الموت لا يزور سوى العجائز، كقريب أمي الذي مات متجاوزًا السبعين من عمره، وحضرت مع والدي عزاءه كالرجال، وظلت أمي أيامًا ترتدي السواد حدادًا، حتى الليلة التي سمعتُ شجار والدي معها يطالبها بحقوقه الزوجية التي لم أعها، ولكنها كانت كفيلة بخلعها للسواد والإفراج عن التلفاز في الصباح التالي.

المرة الأخرى التي سمعت فيها عن الموت، تتعلق ببائعة الخضرة التي كانت تتعمد السخرية مني في كل مرة أذهب إليها لشراء طلبات أمي من حزم البقدونس والنعناع والشبت، فتسألني عن الفرق بين البقدونس والكزبرة، وحينما يختلط عليّ الأمر، تضحك حتى يظهر سنها المذهب، وتجبرني على أن أتشمم رائحتهما وألمس أوراقهما، مقربة وجهي من وجهها وكرتيها البارزتين بالقرب من فتحة ملبسها العلوية، ولكنني أكتم أنفاسي عن رائحة فمها بأسنانها المعطنة المختلطة بحشيش تدخنه على الملأ دون حرج.

ورغم كرهي الشديد لها إلا أن اختفاءها عدة أيام عن مصطبتها لفت انتباهي فسألت أمي عنها فأخبرتني في لا مبالاة بوفاتها، قائلة: “هتاخد زمانها وزمن غيرها”.

حسنًا،أنا ما زلت في زمني، نعم.. قائمة “الأحلام” التي طلبت منا “ميس سارة” معلمة الإنجليزية كتابتها ما زالت طويلة، ومليئة بالأعمال البريئة، كأن أكون أكثر هدوءًا لأتجنب توبيخات أمي ومدرسيني لعنادي ونشاطي الزائد عن الحد، ولأنال رضا والديّ وأتجنب لعنة عقوقهما، وأن أكون مشهورًا فيحبني الجميع وأوقّع لهم الصور الفوتوغرافية على غرار لاعب الكرة الشهير الذي أحمل صوره بين كتبي المدرسية.

هناك قائمة أخرى سرية، أريْتها فقط لمعلمتي، قائمة أمنيات تليق بالكبار، كتدخين السجائر وشرب فنجان القهوة في شرفة منزلنا كأمي، والكف على تلبية الأوامر التي يبرع الجميع في إلقائها على مسامعي، كأوامر أمي بسرعة إنهاء حمامي والكف عن الانشغال باللعب، وأوامر المعلمين بإنهاء قراءة الدرس دون أخطاء لغوية، وبصوت أضبط مؤشره لكي يسمعه كل طلاب الفصل، إضافة لتلبية صيحات أصدقائي الآمرة بتمرير الكرة بسرعة لإنهاء ماتش كرة القدم بعد انتهاء اليوم الدراسي قبل أن تلحظ أمهاتنا تأخرنا.

ما زلت أريد أن أنجب الأطفال لكي أخبرهم أن الله لا يتربص بهم، وأنه لا يسكن مخاوفهم، وأنه لن يخاصمنا إذا خاصمنا أحد أصدقائنا، وأنه لن يخرجنا من رحمته إن أخفينا حبيبات السكر في جيوبنا، أو هششنا القطط الصغيرة عن أمهاتها، وأنه لن يعاقبنا على أكاذيبنا الصغيرة بإلقائنا في جهنم. وأنه بالتأكيد أكثر رحابة في الاستماع إلى أسئلتنا عن مدرس التربية الدينية دون أن يكشر عن غضبه وهو يخبرنا أن “لا مجادلة في الدين”.

قائمة حينما كتبتها وأظهرتها لمعلمتي ضحكت وهي تضمني إلى حضنها، وتمرر يدها البضة على وجهي، أحب ميس سارة برائحتها المنعشة وكأنها خارجة للتو من حمام بارد، ومناديلها المعطرة التي تحرص على استعمالها عوضًا عن المناديل القماشية التي يستخدمها أبي وترهق أمي في دعكها وتنظيفها كل أسبوع.

أنا ما زلت صغيرًا على الموت، وأظنني لست في حالة “احتضار”، لا أرى ملائكة، ولا أجنحة ترفرف، ولا ضوءًا أبيض آتٍ مطمئنًّا من بعيد، ولا أسمع الموسيقى الجنائزية التي تصاحب مشاهد موت الأبطال في العديد من الأفلام العربية إذا كانوا أناس طيبين، ولا أظنني من الأشرار، فلا تخرج من جنحرتي حشرجة، ولا يسيل من فمي الزبد المثير للاشمئزاز الذي حدثنا عنه معلم التربية الدينية، ولا أرى روحي معلقة بين السماء والأرض.

كل ما أشعر به هو جسدي يزداد تيبسه، أحاول فك تسلط العجوز عليه كقيد، أشتم رائحة احتراق خشب، هل سيبدأ الآن حرقي على غرار الأفلام الهندية وحرقهم لأجساد موتاهم حسب عقائدهم، لكنني ما زلت حيًّا، أشعر بالأفكار تضرب رأسي، أقسم آلاف الأيْمان بأنني لن أخلف نصائح أمي، ولن أتردد في تجاهل إغراءات الغرباء سواء بالحلويات أواللوحات الفنية، سأصرخ وابتعد عنهم.

………….

ألتفت حولي الآن، أجدني في طريقي للمنزل، لا أعرف حقيقة كيف تم ذلك، وكيف أعتقني العجوز، لربما ما مررت به هو حالة نوْم مفاجئة، أو إغماءة، يمكنني البحث عن مسمى علمي لما مررتُ به، ساءلت نفسي طويلًا، هل بالفعل دخلت الكشك؟ وهل قيدني العجوز ثم أعادني حينما صرخت خشية على نفسه من الفضائح؟ لا أعلم، ولكنني ظللت طوال أسابيع أتجنب التلصص أو النظر للعجوز حتى لا يتكرر الحادث، واستمر تجاهلي أعوامًا.

وجاء يوم، مررت صدفة بنفس الشارع الذي تقع فيه مدرستي القديمة، مررت بجدارها الخارجي الذي يحفل الآن بالكثير من العبارات المكتوبة بخط فارسي جميل، وضحكت في صمتٍ حينما راقبتُ ثلة من الطلبة يحاولون الهرب بالقفز عليه، ثم قيام أحدهما بالتبول عليه وهو يلعن الدراسة والتعليم.

في عودتي فاجأني وجوده، كأنه لم يكن أبدًا موجودًا، كأنه كان حلمًا مر يومًا بي فلم يعد من المعقول عودته. لمحته. “الكشك الزجاجي”، وذات المقعد الخشبي من البوص المعقود، هل ازداد شيخوخة أم أنني أتوهَّم الأمر. دخلتُ بعد الطرق وعدم الإجابة، دخلته فإذا بالوجوه ما زالت منتظرة، والعيون يسكنها الحنين، نعم، امتلأ المكان بمزيد من اللوحات، ولكنها ما زالت بنظرتها الموحدة.

على الرفوف تسكن الدفاتر، الدفاتر تشيب أيضًا كالبشر، يأكلها الأنين والوحدة، كما يأكلها التراب، أمسكت بأحدها، فتحته بأطرافٍ مرتعشة، فهبت منه رائحة، رائحة لا يمكن وصفها، هي شئ ما بين رائحة الخشب ورائحة الجبن العطن، أزلت طبقة التراب على إحدى صوره، فإذا هي لصبي يستند على كرسي ممدود، عيناه لأعلى، ويداه معقدتان على صدره كميت، أتفرس في ملامحه، فإذا هي ملامحي، أسفل اللوحة توقيع: “الليلة الماضية شعرتُ أنني توفيتُ، والغريب أن ذلك حدث في وقت كنت أعيش فيه سعيدًا”*.

 

 



* بول جوجان.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال