لكن الهجوم على الفيلم قد بدأ مبكًرا جدا من وقت عرضه في مهرجان “كان” حيث خرجت الإعلامية أماني الخياط في مايو الماضي من خلال التليفزيون المصري الرسمي مخصصة حلقة من برنامجها لمهاجمة الفيلم وتشويه صورة مخرجه واصفة إياه بمخرج التمويل و”السبوبة”، مضيفة أن الفيلم غرضه تشويه ثورة 30 يونيو، لكن هجومها راح أدراج الرياح حيث قامت جبهة بشكل عفوي من نشطاء الفيس بوك ضد المذيعة المحسوبة في صف الفلول المعادي لثورة 25 يناير، لكن هذا الموقف من القطاع العريض على فيس بوك قد تبدل خاصًة بعد استباق المخرج محمد دياب لعرض الفيلم برسالة نشرها على حسابه موجهة له من الممثل الأمريكي ” توم هانكس” يشيد فيها بالفيلم ، لكن الخطاب الذي كتبه دياب مصاحبا لنسخة من رسالة هانكس اعتبره الكثيرون نوع من المصادرة على حق الجميع في انتقاد الفيلم أو تصدير نوع من السُلطة أو الحجر على الأراء المضادة للفيلم، لكن دياب رأى أن من حقه أن ينشر رأيه لأن هناك مؤامرة تحاك ضد الفيلم كما يعتقد هو ، ويقول أن الفيلم يتعرض لحملات تشويه قبل عرضه الى جانب اصرار الرقابة على وضع جملة في بداية الفيلم عن مظاهرات الاخوان بعد 30 يونيو الى جانب انسحاب موزع الفيلم قبل عرضه في السنيمات بأيام مما يعني تقليل فرصته في العرض أو سحبه بعد أيام قليلة من دور العرض وخسارة المنتج رغم أن دياب نفسه قال أن الفيلم سيتم عرضه في 20 دولة أوروبية الى جانب عرضه في 200 دار عرض فرنسي مناقضًا فكرة الخسارة نفسها .
الى هذه النقطة يبدو الخطاب مدافعًا عن الفيلم من هوس الرقابة أو السلطة التي تحاول منعه، لكن استطراد دياب بوصف الفيلم بالفن المختلف والفكر الذي يكسر القواعد الجامدة، معللًا بذلك أن الفيلم قد تم اختياره ضمن أهم 10 أفلام في مهرجان كان الى جانب إشادة كل النقاد الذين رأوه به في تلميح يشي بأن الفيلم فوق النقد وهو ما جر خلفه سلسلة من الأراء المهاجمة لدياب شخصيًا وحالة أقرب للتربص بالفيلم بعد ذلك .
بعد يوم واحد من عرض الفيلم كانت هناك ما تشبه الحملة ضد الفيلم وضد موقف دياب الذي يرى البعض أنه يحاول الترويج للفيلم باعتباره منتج ثوري عكس حقيقة الفيلم الواقع في منطقة بين كل أطراف الثورة .
نوعية النقد هذه تضعنا أمام التساؤل الكبير حول وظيفة الفن والتي تم طرحها على المفكرين والفنانين قبل قرنين من الزمان بدايةً من كانط مرورا بماركس وهيجل وغيرهم، لكن بتصور بدائي فإن الفن هو التعبير الحر للفنان الذي وظيفته خلق الجَمَال ، لو انطلقت من هذه النقطة سأعتبر أن ” اشتباك” هو محاولة جيدة من مخرجه “محمد دياب” لصناعة فن كبير لكنها تعثرت من وجهة نظري، وأظن أن السبب وراء هذا التعثر هو محاولة دياب لعب دور المُحلل للمشهد السياسي متخطيًا دوره كفنان واقعًا في شَرِك الاستقطاب والهستيريا المسيطران على الأجواء الإقليمية والدولية والتي لم تتخلص بعد من حياديتها، حتى أن كل المقالات التي كتبت سواء في الصحف الأجنبية أو العربية لم تتحدث عن تقنيات الفيلم متخطينها الى الكتابة عن موضوعه السياسي أو الثوري .
يقع فيلم اشتباك في ساعة ونصف تقريبًا من تأليف خالد دياب ومحمد دياب معًا، ضم عددًا كبيًرا من الممثلين منهم نيللي كريم وهاني عادل وأحمد مالك وغيرهم، تدور أحداث الفيلم كلها داخل عربة أمن مركزي يتم فيها احتجاز عدد من المواطنين المنتمين الى جماعات سياسية واجتماعية مختلفة أثناء مظاهرات القوى الاسلامية التي تبعت 30 يونيو وعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي . يبدأ الفيلم بكادر للعربة الفارغة من الداخل وهي تتحرك نسمع بعدها صوت جلبة من خارجها يدخل على إثرها صحفيان يتم احتجازهما داخل العربة.
يمتلك دياب أدوات جيدة كمخرج جعلته يتحرك بكاميرته في مساحة محدودة جدا، خالقًا كادراته لرؤية العالم الداخلي والخارجي بعين العربة نفسها صانعًا منها البطل الذي يستطيع وحده الرؤية ويستطيع حجبها أيضًا، تاركًا الضوء المتسلل من الشبابيك الصغيرة واللمبة الوحيدة في العربة صانعًا من خلالها كادرات بديعة ركزت على وجوه الشخصيات المحبوسة بالداخل جعلتنا كمشاهدين في أوقات كثيرة متوحدين مع أزمتهم محبوسين معهم داخل العربة ، ثم هناك المونولوج بين العربة وبين الخارج المتمثل في المظاهرات التي لا تظهر الا من خلال الباب الذي يفتح لثواني ليبتلع زوار جدد أو من خلال الأسلاك على نوافذها ،الى جانب جنود الأمن المركزي التي أظهرتهم الكاميرا من داخل العربة وكأنهم امتداد لها حتى أنها ستبتلع أحد هؤلاء الجنود وأكثرهم اخلاصا لها بداخلها مضحية به أو مرافقة له نحو مصيرها المرعب.
هناك أيضًا المونولوج الذي يظهر بشكل مشتت بين العربة البطلة والعربات الأخريات والذي أخذ من حنكة الفيلم ولم يفدها كثيرًا .
إيقاع الفيلم أيضًا جاء مشوقا وغير ممل لولا الحوار الذي جاء مباشرًا ومزعجًا في بعض الأوقات طارحا أسئلة حول اصرار المخرجين المصرين على حشو الأفلام بالجمل رغم أنهم يستطيعون استخدام السرد البصري بديلًا عن اللغة المكتوبة. هذا الحوار قد أضر أيضًا في رأيي برسم الشخصيات التي جاءت بلا عمق يحركها حيث أن دياب أصر على الخروج بها وجدانيًا من لحظتها داخل العربة الى حيواتهم الخارجية . وأعتقد أنه لو اكتفى برصد معاناتهم مع اللحظة الراهنة فقط لتلافى كل هذه المشكلات .
في مجمله الفيلم محاولة جيدة ومبشرة للمخرج محمد دياب لكن رغم عيوب الفيلم فإن الأزمة التي تمر بها السنيما المصرية تجعلنا نحتفي بانفعال بهذه المحاولات آملين في المزيد .