استعادة فراشة الصدر.. حكايات من شوارع بغداد حتى تخوم الغابة الاسكندنافية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أماني خليل

الوطن كشجن وطقس
“هناك فراغات، هناك سطور فارغة بل مقاطع على مدى صفحات، تنطوي على شيء غير مرئي، أرجو ألا تُحسَب كإشارات إلى فراغ، إطلاقاً. هكذا يُؤرَّخ الغِياب.”
عن الغياب الذي يشبه أحجية أبدية  وبهذا التصدير، تبدأ الكاتبة والمترجمة دنى غالي كتابها القصصي “استعادة فراشة الصدر”  تنطلق  من موضع شديد المحلية في الداخل العربي العراقي، الذي تبدو وكأنها لم تغادره يوماً إلى أرض المهجر وترسو في صقيع الشمال الأوروبي، في موضع مثير للدهشة والرحابة والغربة في الوقت ذاته.

في صخب المدينة؛ الجزء الأول من الكتاب، تحتشد القصص بحكايات عراق الألفيّة، بطقوسه وألمه وحميميته، دائماً المرأة في مركز الحكي والثوب هو شارة الكنز والهوية في  آن واحد.
الثوب هو البطل بذاته في  قصة “استعادة فراشة الصدر”  ثوب  زفاف أبيض مطرز بالفراشات، تجتمع نساء الأسرة لتطريزه وكيّه، ويعار كنوع من البركة لعروس تسافر خارج العراق، يمثل الثوب الطقس الحميم، وعاء المحبة، نفس الجدات والخالات، بصمة الأجيال. تصف”غالي” كشاكش الذيل التي تترك أثرا على الطريق، قماش الأورجانزا الذي يدل على طبقة العروس ورخاء البلد،الثوب المتمرغ بدلال الأبيض ولهفة الاكتمال بين أحضان وأصابع اللاتي أفلتْنَه آخر لحظة. تحترق فراشة الصدر من حرارة الكي، وتتلاشى الذكرى، التي تحاول البطلة استعادتها كما فراشة. يتوه الثوب في حقيبة تنتهكها أيادي عساكر التفتيش، ويضيع تاج رأس العروس كانت تربطها بسنوات دافئة وذكريات رطبة، انصرمت لصالح برد المهجر الأوروبي.
يوضع الثوب في حقيبة، ويسافر عبر الحدود من العراق للكويت عبر نقطتي سفوان والعبدلي الحدوديتان. حيث الطريق تتكوم عليه السيارات المحترقة بفعل الحرب وما خلفته من خراب، وبفعل السياسة  ثم يضل رحلته إلى أوروبا حتى يضيع في  النهاية بعد عبود نقاط الحدود المتتالية.
تحدثنا “غالي” في قصة “ملاك” عن الفتاة “أمونة” التي ترزح تحت ضغط الفقر والأسرة وتأخر الزواج، ومرض الأخت المقعدة “ملاك”. تشتري الأم لأمونة الثوب من سوق “المُستعمل” في مدينة البصرة، الأسرة فقيرة بالكاد تدبر أمرها، تسهب الكاتبة في وصف الثوب، من خامة الساتان ومزين بالكشاكش واستيراده من الكويت الجار الأقرب والأكثر ثراءا الذي يمثل حلما لتلك الأسرة الفقيرة.

في قصة “سبع عيون” ترسم الكاتبة حيزاً من المشهد العراقي التسعيني، في بغداد والناصرية، في بيت السبعة عيون ذو الأعمدة المرمرية والجدران الشاهقة وقطعة السيراميك المرسوم عليها سبع عيون كتميمة لمنع الحسد، فأسماه السكان بين السبع عيون، تعيش البطلة أم  غسان الجميلة القوية الأربعينية  التي ترسمها لنا الكاتبة عبر جمالها الشاهق وأثوابها البديعة، لكنها تلقى حتفها في نهاية القصة بيد زوج أو عشيق اقتتلا عليها، أو السلطة نفسها، تنتهي حياة أم غسان لكن تبقى صورتها برائحة حنائها وغنجها وسرها المدفون معها!
وفي القصة ذاتها، ثلاث إخوة يقيمون في بيت يرزح تحت ثقل القمع السياسي وثقل الحروب، تفوح منه رائحة صراع الذكور الأخوة (رائد وعاصم وسلام) الذين يديرون مطعماً بينما تتفرع منه مهن صغيرة وشخوص ثانوية، تتقدم السرد تارة تتوارى عنه تارةً أخرى، كشخصية جوهر العامل المصري الذي يمثل شريحة العمالة المغتربة في عراق تلك اللحظة، الثري المتخم بالبترول والتمور وأشجان أهله.
 الثوب أيضاً هو دلالة المرأة وصورتها ورمزيتها، فزوجة الأستاذ (عاصم) أكبر الأخوة صاحب المطعم الذاهبة لأهلها في مدينة سامراء تترك ثوبها كخرقة للمطبخ، ما يثير مخيلة الأخ سلام، وكأن الثوب هو نفسه المرأة، تقول”غالي”: “يتفحّص الخرقة مجدداً، وهي تأخذ لوناً جديداً كل صباح. إنها تعود لثوب امرأة صغيرة،بألوان زاهية. امرأة ذات جلدٍ ناعمٍ دافئ. إنه ثوب زوجة الأستاذ الخفيف الذي لسببٍ ما كان مآله المطبخ. ربما هي من حوّلته إلى قسم الخرق في المطبخ. صار خرقة بالية لم يعد بالإمكان استخدامها لغير التنظيف. لكنه ملمسٌ ناعمٌ لورود وفراشات وأزرار صدفية ناعمة دقيقة الصنع”،  “يفرشها بيديه الاثنتين على الطاولة، يمسّدها. قطعة الصدر الأمامية. فتحة الرقبة واسعة. يفكّ الزرّ الأول، ثم الثاني..”  تذهب المرأة ويبقى الثوب حاملاً أثرها وذكراها ورائحتها، مثيرا مخيلة الأخ الذي يتوق لها من خلال ثوبها القديم بعدما تركت بيت أخيه واختفت!
  في الجزء الثاني من المجموعة (على تخوم الغابة)، حيث الصقيع  الإسكندنافي،الثوب للبطلة هو فعل تحرر. في قصة“العلب الفارغة” الثوب قصير زاهي بلون حنائي متدرّج يتحدى قسوة البرد، فوق صندل يكشف أصابع القدمين، فستان متحرر يشهد حواراً بين الرجل والمرأة، عن كيف يريان العالم، كيف هربا من الماضي وتفرقا بكل ما سبب عدم التقائهما، ثم تاه حبهما في الغياب!

برية الغابة مقابل قسوة المدينة:

 الغابة  تمثل في سرد المجموعة المقابل لقسوة المدينة، الغابة الاسكندنافية بطيورها الجارحة وأزهارها الفالتة، عبق الورد واظلام الطبيعة، أيائل وظبيان تراقبها الساردة لتسرد حكاية أخرى، توازي حكاياتها المدينية الواقعة تحت سنابك الحواسيب طحاب السياسة العفن!
 المدينة الباردة في الصقيع الإسكندنافي تشهد مجادلات الحبيبين/ الزوجين عن الحب والحياة والحنين.

 في قصة(صف طويل من عربات التسوق) يقف الزوجان في صف السوبر ماركت الطويل ليبتاعا مشتريات ليلة عيد الميلاد لصغارهما، حيث تفرض الرأسمالية شرطها؛ ابتياع زائد وتخمة استهلاكية، تدركها الزوجة التي تهدد لسبب غامض بالرحيل، بينما يدفع الزوج ثمن المشتريات تفتح الزوجة المصعد للخروج، لترتعب من هزته القوية،لا يبتلعها الغياب أو المصعد لكنها تكمل طريق الخوف البارد للسيارة وللحياة.
 اليومي المُعاش يحضر بشقيه المديني والبرّي،، الزوجان على الأريكة بلطفهما الحميمي، يداعب قدمها في صدره، وتينة برية ذات ورق أصفر في الصالة، تشهد متابعتة الزوجين لاعلان فندق بريطاني في رواندا لطالبي اللجوء السياسي. في المشهد المرسوم على مهل “الكولونيالية” في ذات الغرفة تطل عبر الشاشة، مقررةً أن أفضل ما يصح في الحياة هو الانسحاب منها.
  أما في قصة(خريف له عين التمساح)الغابة هي مدار الرؤية نافذة بيت الغربة، منها يطل الغصن والشجرة، ومنها تنسكب أفكار الانسحاب من العالم، تجميد حسابات التواصل الاجتماعي، والعودة لماضي وبلاد أخرى كلي مستعادٌ بلحظةٍ لازلت أدافع فيها عن زييّ الجامعي وعن حقّنا باسترداد ما نَسَفَتْه القذائف. تنسكب القهوة في الكوب. تعبر إلى البلعوم بطعم التمر، ممزوجاً بصوتٍ يبكي فلسطين”
  في قصة ( في عمق الغابة) تحضر الغابة بشكل محوري، في المكان البري الذي يشغل الساردة في محاولة للهرب من أفكارها وربما السيطرة عليها،الغابة هي أيضا محيط الإقامة الأدبية للكتاب في مدينة هالد الدانماركية،حيث تحيط بهم الغزلان والعناكب، تجلس البطلة الكاتبة في محاولة لقنص لحظة هدوء وهي تعمل على حاسوبها المكدس بالملفات، بينما الطبيعة ترسم لوحتها الخاصة أمام عينيها.

لغة شعرية، وتساؤلات قلقة ومعرفة ثقافية ممتدة:

 تظهر في المجموعة  لغة شعرية ورؤية تأملية في الكون وفي الذات وفي العلاقة بالآخر، تتسم بالرهافة وتقدم القلق ليكمل وجبة السرد في حياة البطلة، تمتزج خبرات معرفية وتتضافر قراءات عربية محلية تراثية وعالمية بين سطور القصص. تستعيد القاصّة روح ونصوص القاص العراقي الكبير “محمد خضير” المولود في أربعينات القرن بالبصرة صاحب مجموعته القصصية “تحنيط”  مشيرة لقصة “خيول غارقة” التي تحكي عن غرق باخرة تحمل خرجت من البصرة للهند وغرقت بخيولها في الخليج العربي. في قصتها خريف له عين التمساح.
 أما في قصة “شفرة حادة” فتستعين بتصدير من نص للشاعر اليوناني الكبير أونجاريتي: “بين الزهرة التي ألتُقِطت، وتلك التي أُهدِيَت؛ اللاشيء الذي يتعذّر على الكلام!”،  كذلك تصف غرفة الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج (1899-1988) الحاصل على جائزة يونيستاد للأدب 1974في قصتها ( غرفة في الضفة الأخرى)  فتصفها بكونها: “صاعدة من دون قوائم، محلّقة من دون أجنحة.”

وللتراث العربي أيضا نصيبه في الجعبة المعرفية لـ”دنى غالي”  مطلاً بزخمه بين السطور، حيث تستحضر قصة حي بن يقظان في قصة (على لسان ثعلبة عند حواف الغابة) ففرخ الطيور التوأم الساقط من السماء الذي يحتاج لرعاية يذكر البطلة في الغابة الأرووبية  بقصة حي بن يقظان الطفل الذي ترعاه ظبية، حتى يكبر في جزيرة نائية. أما الغابة نفسها ففيها صراع الحياة بين الفراخ مكسورة الجناج وبين الصقور النازلة من السماء مدفوعة برغبة الصيد وغريزة الجوع، تراقب البطلة المشهد كله مستدعية تراثها العربي في عمق حيرتها وتساؤلها على تخوم الغابة مولية وجهها نحو عجيبة الموت والحياة، واصطفاء الطبيعة للقوي والقادر بين المخلوقات..
الكتاب القصصي للكاتبة والمترجمة العراقية دنى غالي يمثل  امتداداً لأدب كبار الكتاب العرب في المهجر كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وآخرين، حيث يحملون هموم أوطانهم وحنينهم إليها، كذلك النزعة الإنسانية والتساؤلات التأملية في الحياة، وتمتاز تجربة دنى غالي بتقديم تجربتها وبصمتها الخاصة في الدانمارك حيث الحضارة والرفاه رغم قسوة الرأسمالية، التي تسحق البشر بلغة شعرية قلقة ومتأملة في الوقت نفسه!

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم