ازدحام يشبه السكر

ramadan gomaa
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رمضان جمعة

أستيقظ في الثلث الأخير من الليل، لا أحد غيري في البيت، الملل “يُسرسب” نفسه نقطة نقطة في عروقي، أشعر برغبة في الحركة، ورغبة في الاضطجاع. أريد أن أنزل وأتمشى في الشوارع، هكذا، وهي خالية من أي واحد. أفتح شباك غرفتي. الشارع، معتم وممتد. قطة تنبش في ورقة مكرمشة ومركونة قدام باب محل، مغلق ومترَّب. كلب يأخذ الطريق بعرضه ذهابًا وإيابًا.

القطة..

لا تستطيع فرد الورقة، تتركها وتمشي ببطء نحو.. نحو لا شيء. ربما، فقط، تبتعد عن الملل.

الكلب..

يقعد فجأة في منتصف الطريق، ينظر نحو.. نحو لا شيء أيضًا، أظنه قعد مستسلمًا للملل.

أُغلق الشباك. أتمشى إلى الثلاجة. أفتحها. أبحث عن.. عن لا شيء.. أغلقها.

في المطبخ..

أسحب كوبًا من مكانه، أفتح علبة السكر، أتذكر أني مؤخرًا قررت الامتناع عن حط السكر في المشروبات، حدث هذا لما شربت الكركديه -سهوًا- من غير سكر، فأحسست بطعمه للمرة الأولى في حياتي؛ أدركت أن السكر يخدعنا، يغيّر طعم الأشياء، يحرمني لذة استطعام حقيقتها؛ القهوة مرة، هو يجعل طعمها حلوًا، يسلبها هويتها.. المانجا مالحة، يجعلها مسكرة، ينتزع منها طبيعتها. أعيد علبة السكر إلى مكانها، ماذا أريد أن أشرب؟! لماذا جئت إلى المطبخ؟! لا أعرف.. للا شيء. ربما، فقط، أحاول الابتعاد عن الملل.

في الصالة..

أمسك موبايلي، أفتح تطبيق أبجد للقراءة. أبحث عن ديوان شعر، ينقذني من الملل. أفتح ديوان “كمثل شجرة تسقط من ثمرة”، لـ “روبرتو خواروس”. أبدأ في قراءته، قصيدة ١، ٢، ٣… رقم “20” تدهشني، أنسخ نصها، أفتح الواتساب، أبحثُ عن شخص أُرسل له القصيدة التي أدهشتني؛ يشاركني اندهاشي وأناقشه فيها..

 

هذا؟!

قبل نومي، أرسلت له عدة مقاطع “ريلز” كثيرة، سأكون ثقيلًا عليه إن أرسلت شيئًا آخر.

 

هذا؟!

لا، هو نائم الآن، ويستيقظ متأخرًا، وقتها ستكون رغبتي في الكلام عن هذه القصيدة، انطفأت، وستكون لحظة الدهشة ذابت.

 

هذا؟!

صدّعته أمس في حوار لا شأن له به، وتحملني. لا أحب لحس العسل كله.

 

هذا؟!

لا يحب الشِعر.

 

أُقلّب، أصل إلى نهاية المحادثات، أخرج من الواتساب. أفتحه مجددًا، أنشئ محادثة مع نفسي، أرسل فيها القصيدة المدهشة، أتركها، وحيدة، وأخرج مرة ثانية، أغلق الهاتف.. يعظّم الصمت المحيط بي صوت غلق الشاشة “تشك”.. فأغمض عيني متكئًا عليهما  بأجفاني، كأني قرقشت ليمونة. أفتحهما ببطء وأنا أمشي إلى الكنبة، أستلقي..

مؤلم ألا نجد من نشاركه لحظات دهشتنا، بلا حسابات مسبقة، بثقة غير واعية، في أن هذا الشخص سيشاركنا هذه اللحظة، وفي نفس اللحظة، فورًا، مطمئنين لأنه بالتأكيد سيحب أن يشاركنا هذه اللحظة، حتى لو لم يندهش، على الأقل سيتفهم اندهاشنا. سيمنحنا ابتسامة صادقة، ونقاشًا حقيقيًا إن أردنا، ولن يغيّر الموضوع لأنه لم يندهش أو لأنه، ربما، استتفه اندهاشنا. هي لحظات قليلة، لا تجيء كثيرًا، لكنها تدخلنا فجأة، هكذا، من دون تخبيط على أكتافنا، لذلك ينبغي أن يكون في حياتنا واحد نشاركه تلك اللحظة من دون تخبيط أيضًا، شخص لا نخجل من أن ننقلب في فراشنا فجأة فنوقظه ليشاركنا قراءة قصيدة أدهشتنا. أو يقرأ رواية جميلة أعجبتنا فور أن نرسلها له، أو عندما نعرف أن مسرح ما يعرض مسرحية نحبها، فنتصل به حتى يجيء معنا لمشاهدة العرض.. فيوافق فورًا. أو نسمع عن فيلم جديد فنرسل له “البوستر”، فيقول “يالا نشوفه..”، والمهم أن يحدث هذا من دون عضعضة الخجل في قلوبنا.

“أوووففففف”،

أقوم، أعود إلى غرفتي، مبتعدًا عن الملل كما تلك القطة. أرتمي على سريري، مستسلمًا له، كما ذلك الكلب.

 

أتساءل وأنا أشبّك رموشي ببعضهم، ماذا لو لم يجد الواحد ما يُشبِّه نفسه به؟! لو لم يفتح الشباك فيجد كلبًا وقطة يشاركاه لحظته هذه بطريقة ما؟! يهيأ لي، أن الإنسان يعيش طالما هناك ما يُشبِّه به نفسه. ويموت لمّا يقول -مثلًا- أنا وحيد “زي..”، فلا يجد ما هو وحيدًا “زيه”.. لمّا يكتشف أنه في هذا الكون المعتم الممتد، واحد ووحيد، ولا يوجد غيره. لدرجة تكشف له أن..

أن لا شيء.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

كفّارة

reda saleh
تراب الحكايات
د. رضا صالح

عجيبة