ارتباط

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام


شيماء زاهر

 

1

 

في المياه تصورت بيوتًا وأسماكًا وشعابًا، قلت لأتعلمِ العوم. توقفت عند إعلان لتعليم السباحة، للوهلة الأولى دارت في ذهني حادثة العَبَّارة، سرت أتأمل الخشب القديم، تذكرت رائحة الطلاء وصوت مدرِّسة الدراما الحادِّ، ثماني سنوات أمرُّ بنفس الطرقة، تعلم العوم فكرة لا بأس بها، شيء جديد.

 

وصلت متأخرة، لا أعرف ما المطلوب فعله، في البيت كنت ألوم والدتي لأنها لم تعلِّمني السباحة وأنا صغيرة، بجواري سيدة أربعينية، صبَّت المياه على كتفَيَّ، كورت أصابعي، نفخت في المياه، تعالى صوت المدربة، عليّ أن أفعل ذلك ببطء دون خوف، كالنمل الذي ينتبه لقطعة خبز ملقاة، التفتت إلَيّ السيدات الأخريات، سمعت: {معلهش} و{يا حبيبي} و{انتي خايفة؟}... الخوف بدا عباءة تبرق منها النجوم وتنطفئ، نظرت إلى جسدي في المياه، الأرض بعيدة، في نزق الحلم أحيانًا يفعل الواحد أشياء لا يتصورها، القائم المعدني كان باردًا جدًّا.

 

2

 

للمدربة بأس يليق بسيدة ممتلئة خمرية اللون، «حتنطوا في المية وتطلعوا عجلة، كلعبة لصيد السمك رأيتها في يد ابنة أخي لم أقدر على متابعة من يدخل المياة ويخرج منها، الأمر بدا لي معجزة، صببت دفقات من المياه على رأسي، سرحت في السحابات، قلت سأقفز أولاً، أمام المياه شعرت بملائكة، وسمعت خفقات قلبي، لِمَ لا أتخيل المياه رصيفًا؟ لا أعرف هل انتظرني الطابور دقيقة أم دقيقتين؟ ربتة خفيفة على كتفي. أزحت أعواد الشجر وأشباحاً وتساءلت في أي عالم أكون، صادفني ضوء، دفعتني يد إلى السلم، قلت: {شكرًا، متشكرة أوي}، رددت السيدة الأربعينية أنني كنت شجاعة، أحببت كلامها على أي حال، مرتين أو ثلاثًا قفزت في سلاسة، على الحافة حدَّثت نفسي متقمصة دور حكيم مرتاح البال، قطعت على الخوف الطريق، قطبت جبيني للشمس التي اشتدَّت أشعَّتها.

 

3

 

من المرآة عبرت إلى طريق مضيء، على الأريكة رأيته ممسكًا رأسه بيده، ابتعدت عنه، تأملت النجوم ورأيت كرات رمادية تسبح، لعله الفناء، أزحت خصلة من شعري، فكرت أنني رأيته كثيرًا من قبل وكل شيء -المباني والشوارع- كان محايدًا تمامًا.. ساد صمت ساحر، منذ شهور يا سادة كان كل شيء لطيفًا وجميلاً، السماء كانت سماءً والنجوم كانت نجومًا، ابتعد الصوت عندما أوصدت الباب، برقت أعين القطة على السلم، خطر بذهني من قبل أننا نعيش حياة أخرى، في ظلال الشجر ولحظة استسلامنا للنوم وفي ذرات التراب العالقة، أصدق ذلك الآن، تابعت الضوء على صفحة النيل، رجل عجوز بالقرب من الجامع هز لي رأسه في تَفهُّم، انتظرته، انساب ضوء أصفر على الأريكة، سمعت موسيقى، ورأيت فتيات بقبعات، وددت لو ألمس وجهه، أو أصارحه بأنه ليس حقيقيًّا، قرأت عنوان الكتاب في يدي.

 

4

 

مرقت من الباب الحديدي، رفعت طرف الجيبة، الحمَّام هنا صغير، سألتني فتاة عما أريد. مدربة؟ نعم، ارتحت لعينيها العسليتين وبشرتها البيضاء، نظرت في توجس إلى المياه وأنا أقول إني ذهبت إلى مدرسة سباحة في الصيف، الحمَّام مغلَق الآن وأحتاج التعلُّم، إذن الأربعاء القادم، مررت في زهو بجانب الطالبات، تحاشيت النظر إلى المياه عند باب الخروج.

 

 

5

 

المياة دافئة ويمكنني التوقف أينما شئت، في لمحات أتناغم مع النسيم البارد وحفيف الشجر وأتساءل إن كنت بالفعل أخاف العوم، قالت إن طالبات غرقن هنا، ربما كان من الخطأ أن أصرِّح لها بخوفي من المياه، ابتسمت لشخص تصورت وجوده، في المياه، قلت له إن الدنيا لم تعد بخير، مررت على مساحة فارغة لقطعة سيراميك مخلوعة، هنا أمواج برِّية وسحابات مرمر وملك يحتاج إلى وريث، في غرفة خلع الملابس، سألتها إن كان أحد يقف في هذه البلكونات؟ بالطبع لا، من خلف الستارة تعالت ضحكاتها، كان يومًا لا يُنسى عندما سمعن صوت رجل، صرخن فجرى مذعورًا، بدَّلْت ملابسي، الشبابيك أعين تطل من شاشة مُغْبَرَّة.

 

6

 

تحسنت قليلاً، أعرف كيف أتحرك «باك» و«بريست». ألوم نفسي لكوني لا أستطيع الاقتراب من العمق، بجوار أمي، تابعت انفعال الممثلين على الشاشة، سمعت من قبل أن التعلم يتوقف عند مرحلة ما في بعض الأشخاص، ربما ببساطة أكون إحدى هؤلاء، مسَّني ألم ما، تعاطفت مع السيدة في الشاشة، كانت تقول إنها إرادة الله وأشياء من هذا القبيل، أمسكَت والدتي الريموت، حولت القناة في ذات الوقت الذي تحدثت فيه عن ابنة أخي، أحبَّت البحر، وقالت لجدتها إنني عُمْت معها، {تقولين عُمْت؟}، منشغلة بالمسلسل، لم تردّ.

 

7

 

تداهمني صورته فأحرك يدي مُبعِدَةً المياه، أحدق إلى نقطة بعيدة، يسحبني صوتها، اليوم وبَّختها أستاذة لأن بلوزتها لا تليق بمعيدة في الجامعة، وماذا تلبس هي؟ أبدًا، تنزع «البونية» بمجرد مرورها من الباب فيبين لون شعرها الأحمر، ترتدي جاكتًا وبنطلونًا، وتضع مكياجًا كاملاً مع أنها تجاوزت السبعين. أبتسم للمياه البعيدة.

 

 

8

 

قررت الهرب. لم أفهم سر السعادة على وجه أبي وهو يشير لي بيده حتى تحرك القطار، ربما ذكَّرته بمشهد وداع في فيلم قديم، عدت بجسدي إلى الخلف شاعرةً بكره مباغت للأفلام القديمة، تسابقت سحابات ونخلات، في المحطة وجدته في انتظاري، لم أكن أعرف أن القطار سيتأخر، قالوا لي إن سيدي جابر بعد نصف ساعة، تَلَهَّيت ببدلةِ عسكريٍّ على باب المحطة، تبعته وذهني مشغول ببائع الفريسكا ومشهد البحر من القلعة، يوم الجمعة لم يكُن مناسبًا، حاجز من الأطفال، مركب؟ لا أعرف، ما المشكلة به؟ تَحسَّس بصري ملامحه قبل أن أقول إني أخاف المياه. المراكبي يرتدي كاسكيت كبيرًا، تصورته رجل مخابرات يعرف أنهم لن يتركوه في حاله، لانشات ومراكب في كل اتجاه، العمق خمسة أمتار، غامت عيناي، لا يهم، لو حدث شي سأعوم إلى أقرب مركب، لا شيء سيحدث، أعرف، صوت المجداف يبعث على الهدوء، النقشبندي؟ صوته جميل، جاهدةً استعدت لحن الأغنية ناظرة إلى الشاطئ.

 

ــــــــ

اللوحة للفنان: عصمت داوستاشى

 

 

مقالات من نفس القسم

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

ثلاث قصص

آية الباز
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ظُلمــة