اختناق مروري نحو السماء

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
مع قدوم كوفيد 19 بحث الناس عن أي حلول علمية أو حتى ميتافيزيقية تقييهم هذا الخطر، وصار الجيران الذين نسوا وجوده يتعجبون لأنه بعد كل هذه السنوات مازال يعمل بنفس الحماس ونفس الطاقة. أحيانا ما كان جار من جيرانه يمر عليه مع التزام بالتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامة والإمساك بالكحول ، صار الكحول في هذه الأيام مثل المسدسات في الحرب الكل يمسك به ويضع يده على الرشاش ويجهز نفسه للإطلاق في أي وقت

محمد رفيع

حين جاءت جائحة كرونا إلى الأرض، حدث شيء غريب حقا، ازدحمت الطرق إلى السماء، فالأرواح التي تموت وتعود إليها كثيرة، وفي نفس الوقت ساهم الحظر على مجيء مواليد كثيرة، فالناس وجدوا وقتًا كافيًا للتناسل، وربما إحساس الخوف الغريزي جعلهم يودوا لو ينقلوا جيناتهم لأجيال جديدة بمعدل أكبر، علها تبقى على هذه الأرض.

الأخبار تنشر عدد الوفيات بسبب كرونا لكن لا أحد قال لنا عن المواليد التي سببتها تلك الجائحة، آلاف الوفيات تصعد أرواحهم للسماء يوميًا وآلاف الأرواح الجديدة تأتي إلى الأرض لتسكن أجساد المواليد، ولذا حدث ما يشبه الاختناق المروري على الجانبين ، نعم اختناق مروري في الطريق إلى السماء ذهابًا وإيابًا!

ربحت شركات الأدوية الملايين وصناع الكمامات، عوت الكلاب في الشارع قبل الحظر الليلي وكأنها صافرة إنذار في وقت الحرب ليختبئ الناس في بيوتهم، غير أنه لا أحد ربح من ذلك مثل الدكتور آدم .

كان مهندس اتصالات وكان يعمل منذ سنوات على تحليل بكاء المواليد الجدد كان مقتنعا أن هناك شفرة ما يمكن فكها ، طيلة خمسة سنوات وهو يزور مستشفيات الولادة ويسجل بكاء الوليد الجديد ثم يعود إلى المنزل يحلل الأصوات ويحولها لرسم بياني ويبحث في كتب الشفرات، ويملأ حوائط المكتب بصور الأطفال وبجانبها التحليل الصوتي لبكائها الأوليّ ، بالطبع استطاع إيجاد معاملات مشتركة وذبذبات مختلفة لكنه لم يستطع في تلك السنوات الخمس الاستناد إلى نظرية حقيقية عن لغة مشتركة يستخدمها المواليد، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبكي بهذا الشكل حين يولد أما باقي الحيوانات فلا وقت للبكاء فالبرية لا تمنحها وقتا كافيا لذلك، كل الذين حول الدكتور آدم هجروه حتى زوجته وابنته التي تحبه، لم يستطع أحد من أسرته تحمل هذا الجنون، كان مقتنعا أن المواليد يريدون أن يقولوا شيء لنا؛ ربما عن العالم الآخر وربما يحملون رسائل من الله. لا يعرف بالضبط لكنه كرس حياته من أجل هذا الهدف، بينما الناس كانوا موقنين أنه ينتحر ببطء تذهب حياته سدى وأنه حتما سيصل إلى لا شيء.

مع قدوم كوفيد 19 بحث الناس عن أي حلول علمية أو حتى ميتافيزيقية تقيهم هذا الخطر، وصار الجيران الذين نسوا وجوده يتعجبون لأنه بعد كل هذه السنوات مازال يعمل بنفس الحماس ونفس الطاقة. أحيانا كان جار من جيرانه يمر عليه مع التزام بالتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامة والإمساك بالكحول ، صار الكحول في هذه الأيام مثل المسدسات في الحرب الكل يمسك به ويضع يده على الرشاش ويجهز نفسه للإطلاق في أي وقت ،  يقترب الجار منه ويسلم عليه بود لم يبده نحو الدكتور آدم منذ أعوام ، ويسأل بجدية عما إذا كان توصل إلى شيء؟ يرد الدكتور آدم بسرد التطورات والتي حتى الآن لم تسفر عن لغة حقيقية أو حتى إشارات يمكن فكها لكنه بالطبع حصل على بعض النتائج وأثبت أن هناك مقاطع صوتية لها نفس الذبذبات في حالة إن كانت الأم تعيش حياة سعيدة، ومن ناحية أخرى ذبذبات أخرى متشابهة في حالة الأم التعيسة، لكنه بدأ مؤخرا يلاحظ أشياء أخرى وربما جائحة كورونا ساعدته على ذلك، فالأطفال الذين يولدون لأسر مات لها قريب مؤخرا يصدرون بكاء له ذبذبات مختلفة عن حالة تعاسة الأم ، لم تكن هذه النتائج تشفي غليل الجيران لكنهم أصبحوا أكثر تقبلا لسماع تلك النتائج حتى لو بدت غير مفيدة، خصوصا أن النتائج تسارعت وتيرتها مع كثرة الموتى والمواليد.

 في إحدى الليالي قال الدكتور آدم لأحد الجيران أنه لو يملك تليسكوب يرى الأرواح به لشاهد هذا الازدحام الذي تمثله الأرواح صعودا وهبوطا. الغريب أن الجار سمع ذلك بحماس شديد وفكر فيه مليا، وحين ذهب إلى بيته آخر الليل، حكى هذا التصور لأولاده وزوجته، اندهشت الزوجة وظنت أن زوجها بدأ يجن كما حدث للدكتور آدم. لكن الجار المسكين أخذ يفكر في تلك الفكرة حتى على سرير النوم، أو قل سرير الأرق فهو لم يستطع أن ينام في تلك الليلة، وعندما أشرقت شمس اليوم التالي قام من سريره وأخبر جار له بهذا التصور، كان الجار الجديد يسقي حديقة منزله في الصباح الباكر وبعد أن تبادلا التحية تشاركا هذا التصور معا، انبهر الجار الجديد بالفكرة وصار ينظر إلى السماء وكأنه فعلا يبحث عن ذلك الزحام، بينما ذهب جارنا الأول إلى مكتب الصحة ليحصل على إحصائية بالمواليد الجدد وعدد النساء الحوامل فقط في فترة الحظر، وفعلا كانت النتائج عجيبة والمعدلات في ازدياد ، ذهب الجار بهذه النتائج إلى الدكتور آدم ، وهو في قمة سعادته وكأنه يحمل هدية له، وبينما هو يشرح له ما حدث في مكتب الصحة طرق الباب، فتح الدكتور آدم الباب ليجد جاره الآخر يستأذنه في الدخول وبعدما جلس الثلاثة على الكراسي الثلاثة الموجودة في البيت وقدم لهم الدكتور آدم شاي وبعض البسكويت، قال الجار الجديد

ــ لقد تجرأت وفعلت شيئا من تلقاء نفسي لكني أظن أن الأمر لن يغضبكما كثيرا

قال الجار الأول:

ــ ماذا فعلت أرجو ألا تكون سببت أي متاعب للدكتور آدم فهو لديه من المتاعب ما يكفيه، والأكثر من ذلك هو متفرغ تماما لأبحاثه ولا وقت عنده لأي حماقات.

قال الجار الجديد:

ــ لقد ذهبت إلى مكتب الصحة، لكنني لم أطلب تلك الإحصاءات التي سبق وان طلبتها، بل رشوت ممرضه هناك لكي تبعث لنا يوميا عدد الولادات الجديدة

قال الدكتور آدم: ــ حسنا فعلت فلن يضر ذلك في شيء

قال الجار الجديد وهو يتلعثم:  لكني فعلت شيئًا آخر قد يبدو أحمق!

ضاق صدر الجار الأول ونظر إليه بارتياب: ماذا فعلت إنك تشوش على تفكير الدكتور

قال في خزي: ـ لقد أخبرت جارنا الذي عن يميني عن هذا التصور

قال الجار الأول في ارتياح:

ــ لا عليك فهذا الرجل مشغول برسوماته ولا يريد أن يسمع شيء، لا تضيع وقتنا نريد أن نسمع من الدكتور آدم عن اكتشاف اليوم

قال الدكتور آدم بعد أن أتى ببعض الأوراق من على المكتب:

لقد سبق وقلت لك بالأمس أن الطفل الذي يولد في أسرة مات أحد أفرادها له ذبذبات صوتية مختلفة عن الطفل صاحب الأم التعيسة

هنا استفاض الجار الأول بالشرح للجار الجديد:

ــ وسبق ذلك اكتشاف أن الطفل ذو الأم التعيسة وصاحب الأم السعيدة لهما ذبذبات مختلفة

أومأ الجار الجديد برأسه مشيرا إلى أنه فهم الاختلاف، ثم حول الاثنان نظرهما نحو الدكتور آدم لاستقبال الاكتشاف الجديد

قال الدكتور آدم:

ركزت أكثر في ذبذبات الطفل الذي مات أحد أفراد أسرته وبدأت أراقب هل الذبذبات تختلف لو كان الميت رجلا أو امرأة فلم أجد أي اختلاف قارنت هذه النتائج بنوع الطفل المولود فلم أحصل على أي نتائج ولكن هناك اختلافات ليس لها تفسير قائم على مسألة النوع، وبالبحث أكثر عن حياة الأشخاص الذين ماتوا وجدت المفاجأة،

جحظت عيون الجارين عند هذه الجملة، 

قال الدكتور آدم بثقة:

ــ كان الأمر له علاقة بما إذا كان الميت رجلا طيبا يحسن إلى الناس والحيوانات أم انه كريه أناني وحياته مليئة بالخطايا، وكان السؤال الأكبر هنا كيف للمولود أن يعرف سلوك قريبه الميت؟ راجعت النتائج أكثر من مرة لكي أتأكد وفي النهاية وصلت إلى نفس النتيجة.

ــ ما الذي يريد هؤلاء الأطفال أن يقولوه لنا؟

تفرق الثلاثة بعد هذا السؤال، مشوا كالمنومين مغناطيسيا الي بيتهما والسؤال يتردد في عقليهما، لكن الزوجتين كان لهم ما يشغلهم غير هذا السؤال، أحست كل واحدة منهن أن زوجها يسرق منها، وسألت واحدة الأخرى عما إذا كانت زوجة الدكتور آدم عادت إلى البيت أم لا؟ وعندما انتهيا أن لا زوجة آدم ولا ابنته الشابة الجميلة عادتا إلى المنزل، سكن نوع من القلق داخلهما واستعر نوع آخر، وحكيا لبعضهما أن الرجلين لا يغمض لهم جفن فمرة يفكرون في طريق السماء المزدحمة ومرة يسألون ماذا يريد أن يقولوا لنا؟ لا شيء بالطبع لو كان المواليد يريدون أن يقولوا شيء لقاله للأمهات، وحتى لو كان هذا البكاء هو لغة مشفرة، فبالطبع كانت الأمهات ستفهم ذلك عبر آلاف السنين.

في اليوم التالي اجتمع الثلاثة على الكراسي الثلاثة يستعرضون رسائل الممرضة عن مواليد اليوم ويقارنوها بوفيات اليوم، وبينما هم كذلك، سمعوا طرقا على الباب، ظن كل واحد من الجارين على حدا أنها زوجته، فالزوجتين نظرت أليهما بارتياب هذا الصباح، ولذلك قاما في وقت واحد نحو الباب، وحين فتح أحدهما الباب كان جارهم الرسام يمسك بثلاث لوحات متطابقة ويطلب الإذن بالدخول.

لم يجد الجار الرسام كرسيا ليجلس عليه فظل واقفا أمامهم يعرض عليهم اللوحات المتطابقة وهي بعنوان ” ازدحام مروري نحو السماء” كانت اللوحات باهرة وهي تصور الأرواح كفقاعات من الماء عليها غبش من السحب وهنا انتبه الثلاثة أن اللوحات لم تكن متطابقة تماما بل أن ملاكا بدا كشرطي المرور كان يقف على طرف من اللوحة وفي كل لوحة يحمل هذا الملاك ملامح وجه أحد الجيران الثلاثة الجالسين على الكراسي، عندما اكتشفوا ذلك صفقوا له وهم فرحين، لكن في نفس الوقت كان هناك اجتماع غاضب يحدث في مكان آخر انه اجتماع الزوجات، لا ليس الثلاثة زوجات فقط بل زوجات الحي كله يستمعن في هذا الاجتماع للخطر المحدق بهم والذي وصفته لهن الزوجات الثلاث.

في ذلك اليوم علّق كل من الجارين اللوحة الخاصة به في صدر الدار، وكذلك فعل الدكتور آدم ثم استغرق في أبحاثه، وفي اليوم التالي اجتمع الجيران الثلاثة عند الدكتور آدم كالعادة غير أن الرسام أتى بالكرسي المرتفع من مرسمه كي يجلس على الدكتور آدم وقبل أن يزف لأليهم خلاصة أبحاثه سمعوا جلبة كبير في الخارج أصوات غاضبة وعندما فتحوا الباب وجدوا كل الجيران في الحي في مظاهرة يطالبون برحيل الدكتور آدم من حيهم وعلى رأس المظاهرة زوجات الجيران الثلاثة، حاول الرجال صرف زوجاتهم ، لكن الجمع الغفير كان غاضبا ، وإمعانا في الغضب أحضرت احدى الجارات زوجة الدكتور آدم وأبنته بسيارتها ، ليشهدا هذا التجمهر، لم يعرف الأصدقاء الثلاثة ماذا يفعلون وتمنوا لو أنهم أتوا بأسلحة ليدافعوا عن الدكتور آدم ، لكنهم أحضروا من الفناء جاروفا ومقص الحشائش وشوكة تقليم النجيل تحسبا لأي فعل أحمق، أتت الشرطة ولم تتدخل لان البلاغات المقدمة ضد الدكتور آدم كانت خالية من اتهام حقيقي لكنها أتت لتتابع الموقف ، والعجيب أن الدكتور آدم دخل معمله وأخذ يعمل بشكل يبدو طبيعيا وكأن الحرب التي بالخارج لا تعنيه، ذاد غضب الناس ولم تفلح أدوات الحديقة هذه في منعهم من الاقتراب أكثر وعندما استعد الناس للهجوم، خرج الدكتور آدم وقال أمام الناس الذين أتوا بغير كمامات ولا تباعد اجتماعي ولا شيء يرتدونه سوى الغضب.

قال الدكتور آدم شكرا كوفيد 19 فلولاك ما استطعت أن أكتشف هذا الاكتشاف المذهل ، لم يهدأ الناس عند هذه الجملة لكنه قال اليوم تستطيعون لأول مرة في حياة البشرية أن تحدثون موتاكم لقد استغرقت سنينا من عمري أسجل كل نبرات البكاء للأطفال حديثي الولادة لهذه المدينة وأحلل وأفك الشفرات إلى أن اكتشفت أنهم يحملون لنا رسائلا من موتانا اليوم تستطيعون أن ترسلوا إلى موتاكم رسائلا مع المشرفين على الموت وتستقبلون الرد الذي يأتي لكم مع بكاء المواليد لقد اختبرت ذلك بنفسي مع عائلة مايكل بالأمس لقد استقبلوا رسائلا من أبيهم. ومن بين الحشود ظهرت عائلة مايكل وعبرت كل المتجمهرين ووقفوا بجانب الدكتور آدم مؤكدين ما قال

قالت سارة زوجة الفقيد وهي تمسح دموعها:  لقد استقبلت رسالة من زوجي بالأمس أتى بها حفيدي الذي ولد، لقد كان شيئا استثنائيا أن يرسل الأموات لنا يقولون ما يشعرون وما يقلقهم أن هذا حقيقيا أيها الجيران الأعزاء.  صار لنا اتصال معهم هناك لكم اشتقنا إلى سماع أي كلمة من أب أو زوج أو ابن مات لقد مات زوجي منذ خمس سنوات والآن سمعت صوته في بكاء حفيده،

كان الجميع يستمعون وكل واحد فيهم يفكر ماذا يريد أن يقول لميته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص وسيناريست مصري، والمجموعة وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة 2022

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب