سمر نور
مات العجوز مقهورًا في العراء، ولم ترافقه في ظلمته سوى صغيرته الوحيدة، كل الصبية رحلوا بعد أن صاروا شبابًا. جسدها نفض عنه طفولته منذ سنوات إلا أنها لم تتبع من تحب، فقط، كانت هنا، بجوار العجوز، لتعده للرحيل إلى عالمه الآخر كما كان يريد.
تلمست بأصابعها الرفيعة وجهه البارد باحثة عن تلك الملامح التي تشبهها، أنفه البارز وعينيه الضيقتين الثاقبتين. أمسكت أصابعه المتيبسة ومررتها على وجهها عله يستعين في ظلمته الأبدية بدماء تجري في عروقها. استكان رأسها على صدره بحثًا عن دقات فارة من الموت فلم يجاوبها سوى الصمت. أمسكت ذراعيه بقبضتها الصغيرة حاولت سحبه إلى حيث تابوته ومعمله وأدوات تحنيطه كي تؤدي واجبها الذي أعدها من أجله كل هذه السنوات. العجوز جسده الثقيل متشبث بالأرض الصلبة والصبية نحيلة والعجز كامن في الظلمة والعراء والبيت بعيد، وفي البيت يستوي التابوت الفارغ في انتظار صاحبه وبجواره مائدة طويلة عليها أدوات التحنيط؛ ولكن من يقوى على حمل الروح إلى مثواها الأخير!
انهارت الصبية على صدره الصامت وبكت.
بكت على صدره وهو ما زال ينبض في يوم تتوجه شمس حارقة.
كان جمعًا غفيرًا من البشر يتدافع عند الجدار الخلفي للمعبد. كل الأيادي ترغب في الوصول إلى كوة وحيدة علها تصلهم بالسماء. كانت الصغيرة تسمع ما يتناقله الجمع عن قدس الأقداس الكامن وراء الجدران، عن هذا المكان الذي لا يخترقه سوى كبير الكهنة والقائمين على أمور العبادة؛ مكان سري لا يمكن أن يؤدي الفقراء صلواتهم فيه. كادت الصغيرة تختنق من رائحة العرق وخشونة الأجساد المتلاحمة إلى أن حملها العجوز من بين الحشود.
منذ عرفته وهو عجوز قوي الجسد، صدره يخفق بقوة حلمه المجنون فيمنحها أمانًا مفتقدًا. تحت الشمس، أقامت معه أول صلاة حقيقية. كانا يرقصان معًا في الفضاء، يتنفسان عبادة حرة.
يومها ضمت إلى كتيبته من الصبية في مدرسته الخاصة لتلقينهم طرق التحنيط.
حين عاد العجوز إلى القرية لقبه أهلها بصانع التوابيت ، كان يقضي ليله في صناعة تابوته وإقامة معمله. أخبر أهالي القرية أنه كان كاهنًا في المدينة، وأنه تعرض لمكيدة أبعدته عن القصر.
صار سرهم الجماعي هذا المجنون المبروك وحلمه الملكي. لا يصح أن تصل روايته خارج أسوار القرية. العجوز يرغب في صناعة تابوت وتلقين مجموعة من أطفال القرية قواعد التحنيط حتى يموت كالملوك. يقول إن الكبار قد همشوا وجوده في تلك الحياة، لكنه يستطيع خلق وجود له في الحياة الأخرى كما يريد.
كانت حكاياته مدعاة للسخرية والخوف معًا، والسر مغرٍ للحفاظ عليه؛ خاصة أنه سر عجوز مجنون يملك البركة وكل طفل في مدرسته يحصل على طعامه، وما أحوج قرية من الفقراء إلى كسرات خبزه.
طالما تخيلت الصغيرة قدس الأقداس وكأنه بيت للشمس المنحدرة؛ تستكين فيه كل ليلة، وتنير جنباته، وتزرع سنابل القمح، وتبني للفقراء بيوتًا لا تعرف الجوع أو البرد. وحين رقص معها العجوز تحت الشمس، وتعبد معها للرب تلمست ملامحه التي تشبه والدها الراحل، واستكانت علي صدره، وبكت.
يفترش الظلام العراء في هذه اللحظة وهي تحتضن جسد العجوز محاولة جره. تحتضنه من خصره فتعجز عن نقله قيد أنملة. تحاول سحبه من قدميه لكن الجسد يواصل توحده مع الأرض الصلبة، تواصل المحاولة بجنون. تستحلف روحه الهاربة من الجسد بالعودة دقائق حتى تعيده إلى حيث أراد أن يكون؛ لكن صدى صوتها يضيع في الأفق بلا عودة.. تقيم جسدها النحيل، وتلقي نظرة على جسده الملقى بلا روح قبل أن تستجمع كل ما تبقى في جسدها من طاقة، وتجري في اتجاه المعبد.
كانت طالبة مقيمة في مدرسته رغم خوف أمها من العجوز المجنون؛ لكن كسرات الخبز كممت كل الأفواه الجائعة، مع الوقت، نسى الجميع اسمها بعد أن صارت كنيتها فيما بينهم (ابنة المجنون) بينما استهوى الصغيرة أن يطلق عليها الصبية (ابنة صانع التوابيت). تتعلم فنون التحنيط وصناعة التوابيت مع الصبية طوال اليوم، ثم تستلقي ليلا في أحضان العجوز ليبثها حلمه الوحيد (حين أموت سأستوي داخل تابوتي مطمئنًا لأن لديّ حياة أخرى تليق بملك، أما اليوم فسأنام مطمئنًا لأن لديّ ابنة تصون حلمي بعد الموت)، وينام في حضن حلمه بينما الصغيرة النائمة في حضنه تحلم بقدس الأقداس الذي في رحابة الكون، تتخيل شمسه التي تمنح الصغار الدفء والسعادة، كانت تراه مثل العالم الآخر، المكان المشمس الذي يضم أباها والعجوز، وتتحقق فيه كل الأحلام.
تسأل العجوز في كل صباح (هل لابد أن أكون كاهنة حتى أدخل قدس الأقداس؟) يضحك قائلا: (بإمكانك اختراق أي مكان في الحياة الأخرى إذا وجدت روحك جسدًا تقطنه، بإمكانك دخول أي مكان وأنت ملكة).
تصمت الصغيرة وتواصل تلقي علومها مع الصبية.. تواصل الحلم مع العجوز.
الطريق إلى المعبد مخيف، العتمة تزيد المسافة بعدًا والرغبة في اليقين طاقة تدفع الجسد الصغير في اتجاه ملاذ يريح الروح التائهة. كل رغبتها الآن أن ترى قدس الأقداس. أن تمسك بيقين واحد قد يمنحها القوة لمواصلة الطريق.
كان صوت الريح يصفر فيذكرها بأرغون الصبي العنيد.
أتى إلى المدرسة يتيمًا نحيلًا مثلها يتوق إلى كسرة خبز فضمه العجوز إلى المدرسة، وصار ثالثهما لم يغادر المكان إلا حين اشتم العجوز رائحة أنثى!
هكذا أعلن وهو يطرد الصبي من مكان نومهم الثلاثي، طلب منه بثورته الجنونية المعتادة أن يفترش أمام البيت قائلا: (المكان فيه رائحة أنثى).
لبى الفتى رغبته دون تعليق لكن الصبية لم تفهم ما يعنيه العجوز.
لم يكن خوف العجوز، فقط، من (رائحة الأنثي) التي نمت في بيته، بل خوفه الأكبر كان من تمرد الفتى الذي قاده إلى الاختفاء فترات طويلة والسفر خارج القرية بدعوى البحث عن رزقه! لم يعد ما يملكه العجوز يكفى الجميع، فانفض الصبية من حوله، ولم تبق سوى صغيرته وهذا المتمرد الذي يذهب ويأتي بين الحين والآخر وفي جعبته حكايات عما يحدث خارج القرية. كانت حكاياته بئرًا من الأسرار التي لا تنتهي خاصة حين يشير إلى التمرد على الحكم الذي ينتشر في أنحاء المدن والقرى، لأول مرة تسمع الفتاة عما يسمى بالثورة؛ لكن العجوز لا تعجبه تلك الحكايات، يفتعل أية مشاجرة لينقض على الصبي ويضربه بقسوة أمام الفتاة كأنه يؤكد سطوته ويذكرهم بحلمه. وكلما كبر الأرغون أدرك العجوز أن خطر التمرد لا يمس القصر فقط بل يمسه ويمس حلمه الذي استبدله الصبي بحلم آخر يخصه.
فكر العجوز وعقد العزم، أصبح الفتى خطرًا، وعليه الحفاظ على طفلته لتحافظ على حلمه، وكان عليه أن يشم رائحة أنثى في نظرات الفتاة وعيونها المدهوشة والمشدودة لعوالم بعيدة. كان عليه أن يدفن الثورة في تابوته.
أمام المعبد تجمدت الفتاة!
يبزغ في الفراغ الأسود كشعلة ضخمة تدل التائهين!
عبرت أول أجزائه قبل أن تصل إلى صالة الأعمدة لتتوارى، تمامًا، خلف ضخامة الأحجار وكأن دليلا يرافقها ينير لها الطريق يكشف لها أسرار المعبد وطرقاته، وكأن الرغبة في اليقين منحتها قدرة الكشف، وكأن وصلا ما مع السماء هداها إلى سبيل الوصول إلى الهدف.
وكانت النهاية حيث المراد؛ قدس الأقداس، حلم الطفولة حيث الجنة المشتهاة، حيث الشمس المستكينة والأحباب، حيث الجميع سواسية بلا هم أو جوع أو مرض، في قلب الظلمة تحملت رائحة البخور التي تملأ المكان في انتظار ما سيأتي.
الساعات تمر ولا شيء يأتي. العين مغمضة تواصل الحلم وتنتظر، الساعات تمر فتفتح الصغيرة عينيها على عتمة لا تنتهى، والحلم يتبدد مع كل لحظة تمر بلا دليل. تسمع صوت يقترب، تصرخ، وتجري، تواصل الصراخ والهرب ودليل خفي يفتح لها أبواب العودة من حيث أتت!
تلقي نظرة أخيرة على المعبد قبل الرحيل، كائن أسطوري ينتظر أضحيته. صرخة مباغتة تبدد الصمت المحيط، تواصل الهرب، على يقين الآن بأنها لا ترغب في البقاء هنا.
حين قرر الصبي الرحيل بلا عودة أسر إليها بقراره.
كان العجوز مريضًا فاستنجدت الفتاة بالفتى المفترش عتبة البيت. كانا يمرضانه معًا في ليلته الأخيرة. أسر إليها برغبته في الرحيل بلا عودة. أخبرها أن هذا المكان بلا روح وأنهم انشغلوا بأسرار الموت ولا يعرفون ما يدور في الحياة. سألته عن العجوز وكيف يمكن تركه مريضًا، قال إنه أختار الموت فما فائدة أن يموتوا جميعًا بجواره، ذكرته بحلم العجوز القديم، سألها عن حلمها هي، فصمتت وتركته يرحل أثناء الليل، ولم تبد أية إشارة إلى يقظتها، وبعد خروجه انتصبت واقفة سارت خلفه، كان يسير ببطء كأنه يعلم بتعقبها له ومع هذا لم ينظر خلفه. كانت تسير ببطء كمَن يتعلم السير لأول مرة؛ الخوف من الوقوع يخيفها والهدف المجهول يربكها، لكنها تسير خلف مَن تحب. لم تشعر بالعجوز الذي يجر جسده خلفها، لم يكن يملك الطاقة لينادي عليهما، لكنه استعان بكل قواه الخفية ليلحق بها، بآخر خيط يربطه بحلمه. الموت آتٍ وتابوته فاغر فاه وجسده ينتظر الصغيرة لتعده للحياة الأخرى. ألقى بجسده الضخم تجاهها، احتضنته. كانت له رحم تتكور جثته في أمانه، وكان المتمرد يلقي عليها نظرة أخيرة تدعوها للرحيل. نظرتها توحي بما عزمت عليه .. الحقيقة الوحيدة التي أدركها الفتى أن ابنة صانع التوابيت قد جبلت على الموت.
تواصل الهرب من كابوس قدس الأقداس، أشباح خفية تطاردها، في هذه اللحظة تمنت أن تلحق بالفتى، لكنه كان قد اختفى وتركها مع عجزها ورحل إلى مبتغاه. تركت العجوز لتتحقق من حلمها فلم تجد على الأرض سوى السراب. تواصل الجري بلا هدف. المجهول يحاصرها في كل مكان، ولم تتعود على مواجهة المجهول إلا بحصانة من أحلام صانع التوابيت!
تعثرت في جثة العجوز فاحتضنتها في صمت ونامت.
كانت أعواد الغاب متفاوتة الحجم ملقاة على أرضية المدرسة، بجوار مائدة التحنيط والتابوت الذي احتوى جثمان فتاة تنبض بحياة مؤقتة في انتظار الموت.
………………………..
*رشحت القصة في القائمة القصيرة لمسابقة الأدب العربى المترجم “Arablit Translation Prize” في ترجمتها الإنجليزية التي قامت بها المترجمة إيناس التركى، والقصة كانت بين نصوص المجموعة القصصية “في بيت مصاص دماء” الحاصلة على ساويرس للكبار عام 2017