ابتسامات القديسين

ابتسامات القديسين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فصل من رواية: إبراهيم فرغلي

عندما كنت أستيقظ على صوت دقات الأجراس القادمة من صوب الكنيسة القريبة، تتداخل الدقات ذات الرنين المعدنى المتتابعة بصورة كريستين – أمك الله يرحمها – وعماد.

 هكذا بدأت نادية تحكى لابنة أخيها. وتغمرنى السعادة لذكرها اسمى – رغم انها لم تترحم علي – فأستعيد فورا ذلك الزمن البعيد الذى لا أستطيع العودة إليه، ربما لأن ما يكفينى الآن هو الاستماع إلى صوتها وهى تحكى، وتطلق وشيشها الداخلى للمرة الأولى. تحكى فيكشف حكيها عن حساسيتها ورهافتها – وربما أن هذا تصورى الذى يوهمنى إياه حبى لها – دون أن تعرف أننى أقرأ ما تحيه وهو يدور فى ذهنها، ويبدو لى أجمل.

.. وبمجرد أن أفتح عينى أدرك أن رامى قد استيقظ هو أيضا، ولكنه، وكما كل أيام الجمعة والأحد، لا يستطيع أن يبدأ يومه باصطحابهما. سيعيد الغطاء فوق رأسه، ويكور نفسه مثل كائن دقيق داخل قوقعة بحرية ملقاة على رمال الشاطيء، محتفظا لنفسه، ولى طبعاً، بذلك الصخب الداخلى الذى لم يكن بإمكان أحد أن يسمعه سواي. كنت أستمع إلى أغلب ما يدور بذهنه، وأشعر بمشاعره.

أحياناً أستيقظ مندهشة من دموعى التى تغافلنى أثناء النوم. أحاول أن أتذكر الحلم الذى أبكانى، فأدرك أنه هو الذى كان يحلم.

بعد زواجى بفترة قصيرة ظن زوجى أننى ممسوسة. وقال لى موضحاّ إننى أضحك كثيرا أثناء النوم. وفى أحيان أخرى أبكى طويلا. لكنه لم يكن يعرف أنه لا حيلة لى فى ذلك، إذ كانت أحلام رامى العبثية إلى حد الكوميديا، أو كوابيسه المزعجة هى السبب فى ذلك.

مرة واحدة فقط جاءنى رامى ضاحكاً ليحكى لى تفاصيل الحلم الذى حلمت به ليلا وأنا أركض خائفة من بواب العمارة العجوز وهو يمسك بعصا غليظة، ويتهمنى بأننى كسرت “القلة” التى يشرب منها. ارتبكت للحظة، قبل أن أشاركه الضحك، وأنا مندهشة من أنه استطاع أن يرى حلماً من أحلامى. ولكنه توقف عن متابعة أحلامى بعد ذلك حيث تضخمت روحه بالحزن الذى تسرب إلى بالتدريج وملأ ليلى بالكوابيس التى كانت تلاحقنى لليال متتابعة حتى أسرع إلى أمى – جدتك – لأحكى لها، فتتأملنى واجمة قبل ان توصينى بألا أحكى الحلم لأى أحد وبعدها تردد ” اللهم اجعله خير” ثم تشرع فى حكايتها المكررة عن ولادتنا التى عذبتها طويلا، ولساعات تجاوزت 18 ساعة حتى اضطرت الداية للاستنجاد بالمستشفى: نقلونى هناك، ورامى راسه مش عايزة تخرج ، وجيتى انت وراه بنص ساعة.

المكان الوحيد الذى لم يكن مسموحاً له بمرافقتهما فيه هو الكنيسة. وكان مشغولا بالتفكير فى الطريقة التى يستطيع بها تجاوز هذا القيد. يعرف أننى أستمع إلى وشيشه، لكنه لم يعد يمتلك القدرة على التراجع عن تقليب الأمر فى خياله مصحوبا بصوت دقات الكنيسة، والتراتيل التى كثيراً ما استرق السمع إليها عندما نذهب سوياً إلى “خالتى درية” فى شارع “السكة القديمة” حيث تطل الشرفة الجانبية للبناية القديمة، ذات السقف العالى، على فناء الكنيسة. ويقف مشدوها يراقب الصبية والبنات – أيام الأحد – فى شغف.

كان شغوفاً بفكرة التحول إلى المسيحية، ولم تقنعه كثيرا أراء جدك الذى بوغت برغبته، وحاول أن يثنيه عن أفكاره بطريقته الهادئة، دون جدوى. وظل طويلا يعيش فى حلمه بأن يصبح مسيحيا، ويتمنى كل ليلة أن يحلم بالمسيح، كما يراه بعينى طفولته. الإله الجميل ذا الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين. وكما ملأت أفكاره كل حياتى. كانت كريستين – أمك – هى التى تملأ عقله وروحه وتفيض نفسه بها إلي..إلى ذهنى وروحى.

تقريباً.. لم يتسع خياله لأى امرأة أخرى سوى مرتين: الأولى عندما تعلق بحب “أبلة سوزان” مدرسة الرسم فى المدرسة الإعدادى: لم يكن مشغولا بالرسم على الإطلاق، لايستحوذ على خياله سوى شخصيات الروايات التى يلتهمها يومياً، وخاصة “فهمى” فى ثلاثية محفوظ و”أوليفر تويست” لديكنز و “دارتانيان” فارسه النموذجى بين فرسان دوماس، و”أزميرالدا” فيكتور هيجو: نموذج الأنثى التى يبحث عنها فى كل علاقاته. يتقمص شخصياتهم فى خياله ويجمعهم معاً، أو يتسلح برداء دارتانيان لينقذ أزميرالدا من الضابط الفرنسى الذى يكرهه. أو يترك لمشاعره العنان لحب “مريم” متأملا حياتها المأساوية بعد رحيله باعتباره فهمى ابن السيد “أحمد عبد الجواد”.

لكن هذا العالم، بكل تفاصيله، سقط فجأة من سقف ذاكرته ليفسح الطريق لصورة “أبلة سوزان” شبيهة “ميرفت أمين”، ولكن بعينين واسعتين عميقتين، وملأ من أجلها صفحات كراسة الرسم بخطوطه السخيفة ورسومه المشوهة.

أما الثانية، فهى “ماريا” اليونانية التى تعلق بها جداً، وكانت بديلا طبيعياً لأمك فى فترة انفصل خلالها كل منهما عن الآخر، بعد موت عماد الدرامى.

نعم..كان موتى درامياً يا نادية. معزولا ووحيداً. مجهداً بتعب القلب الذى أنهكه المرض، وغارقاً فى الحمى والخوف المضنى من المجهول، متوسلا ليسوع بالغفران باسم الأب والابن، وبأبينا الذى فى السماوات، وبحق كرامات الشهداء والقديسين. غير أن أحدا لم يشفع لى يا نادية. وعبت مذبوحاً بالألم إلى زمن أخر، يشقينى أننى لا أستطيع ان أحقق تحدياً يماثل ما فعله رامى وكريستين.. فى ذلك الزمن الجميل..

نلعب الحجلة منذ البلاطات الأولى لسور الكورنيش المحاذى لمبنى المحافظة، وحتى مبنى المكتبة العامة المغلقة دائماً، والمواجه لفيللا الشناوى الأنيقة بتصميمها الذى لا يخلو من فخامة، والتى نعبر إليها فى الجهة الأخرى من شارع البحر على حدود المختلط. نتأمل التماثيل الحجرية البيضاء تجسد فتيات لهن ملامح جمال إغريقى قديم، والموضوعة بجوار الباب الرئيسى الذى يتوسط المدخل الزجاجى الملون بألوان صارخة يطغى عليها الأحمر والأزرق. نتسلل بخيالنا إلى ما بعد الباب نحاول اختلاق السيناريو المناسب للحياة داخل الفيللا التى ارتبطت فى خيالنا – أنا ورامى وكريستين – بالقصور المسحورة، غامضة وممتلئة بالأسرار التى خلفها البشر: عائلة الشناوى التى لم نعد نسمع عنها كثيراً الآن، بينما بقيت أثارهم دلائل أرستقراطية قديمة: قصر محمود الشناوى المهيب بقبابه المميزة وطرازة المعمارى الأوروبى، والذى تحول إلى مبنى مديرية الأمن القديمة على حدود كفر البدماص مطلا على الميدان القريب من جامع النصر. وقصر الشناوى الكبير الذى تحجبه الأشجار والسور المحيط به والمبانى حيث يقع قريباً من تقاطع شارع البحر مع شارع جيهان، والذى ارتبط فى أيام مجده بأسماء الإقطاعيين، وبالحفلات التى أقيمت به بعضها بحضور أم كلثوم وعبد الوهاب، قبل أن يصبح بدوره الآن شبه مهجور.

نصعد بعدها على المشاية العلوية التى تبدأ من أمام السور الخلفى لمدرسة” المنصورة الثانوية بنات”، وتعلو تدريجيا فوق كوبرى القطار الذى يصل بين طلخا والمنصورة، ثم نهبط إلى الجهة الأخرى من المشاية عند مدخل “الهابى لاند” نأكل “الآيس كريم” قبل أن نعود مرة أخرى إلى موقعنا الأثير فى توريل.

تلك كانت الأيام الخوالى يا نادية. سنجد الجميع فى انتظارنا: “جلال” الأسمر ذا الجسد المدكوك، و”على” الذى ينتصر لى دائماً على كل من يطلق على لقب “أبو عضمة زرقا” و”جولى” النصف ألمانية، بشعرها الطويل الأشقر وجسدها النحيل وعينيها الزرقاوين، والتى ينتظر جلال لأجلها لعبة المنديل متحرقاً، ويختار الفريق المضاد لفريقها بحيث يقف فى مواجهتها متخذاً من المنديل ذريعة للاقتراب منها هائماً، يحيطها بذراعيه دون أن يلمسها ليمنها من الركض بالمنديل إذا اختطفته. لكنه غالباً ما يفقد تركيزه بتأثير اقترابه منها أكثر مما ينبغى، وهو ما يعطيها الفرصة لتهرب بالمنديل وسط تشجيعنا الحماسى لها، بينما تقف “بسنت” بالمنديل بينهما، وهى تكاد تحترق من الغيرة والكمد لتعمد جلال المستمر تجاهلها بينما أنتظر أنا ورامى ألعاب السرعة: “الاستغماية الجديدة” أو “الملك” لنعلن للجميع أننا الأسرع بلا منافسة.

ولعلى كنت الأسرع يا نادية بلا منازع. رحلت وحدى مذبوحاً بالألم. مشفوعاً بالدعاء والنذر والصلوات وبصيام الميلاد والقيامة. دون جدوى. والآن لست سوى حالة شبحية، لا يرانى أحد، ولا أثر لكريستين أو رامى أيضاً. وأمامى تقف حنين ابنتهما علامة فارقة على عبث الحياة التى تعيشونها يا نادية..بينما تحكين لها حتى ما تكاد ذاكرتى تهمله تحت ضغط الألم

 

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب