حسن عبدالموجود
..أما بالنسبة لى
فأكاد أجزم
أننى أفضح نفسى
لأختبئ وراءها
«ممر معتم يصلح لتعلم الرقص»
بعد الصفحات الخمسين الأولى من ذلك السرد اللاهث نحيتُ الكتاب جانباً واتجهت إلى أدراج مكتبى. ظلّ ذلك المكتب يتنقّل معى منذ مجيئى إلى القاهرة قبل أكثر من عشرين عاماً. كان فى بعض الأحيان يبدو لى كأنه صُنع ليكون جزءاً من بيت معيّن، بينما بدا لى فى معظم المرات أنه جزء ناتئ من كل الشقق التى سكنت فيها.
كانت أدراجه تتكدّس بالأوراق والقصاصات والمكاتبات والمخطوطات بمرور الأيام والشهور والسنوات، حتى إن فتح إحداها ظل مغامرة غير مأمونة، إذ أنها تحولت إلى قنابل غبار راكد، قادرة على تحريك جبل الحساسية فى صدرى. لكنى مدفوعاً بقوة غامضة مفاجئة بدأتُ فتح الأدراج واحداً وراء الآخر، وتقليب الأوراق والصور، وتأمّلها، وإعادة تنسيقها، ووضعها فى أكوام بدت فوق المكتب مثل أبراج آيلة للسقوط. ثم توقفتُ لاهثاً وأنا أنظر بدهشة، مرة، إلى يدىّ المتربتين اللتين بدتا كأنهما تخصان عاملاً فى منجم فحم، ومرة أخرى إلى عشرين عاماً من عمرى تتراص أمامى فى أوراق ملوّنة بدرجات الزمن والتراب، من الرمادى الفاتح إلى الأصفر الشاحب.
كان القلق يسيطر علىّ، وقد عاودنى ذلك التفكير الممض عما يمكن أن يتبقى منى. وهل يمكن أن تعنى تلك الأوراق شيئاً لصحفى، أو باحث، يوماً ما؟ وهل يمكن أن تعنى شيئاً لابنتى؟ أم أنها ستتكدس فى صناديق شبيهة بتلك الصناديق التى ظلت إيمان مرسال تطاردها سنوات، باحثة عن معلومة، أو خيط، يقودها، إلى خيط، فى تلك المتاهة التى نسجتها لها عنايات الزيات قبل عشرات السنين؟
كان تأثير الصفحات الأولى قوياً ونفاذاً إلى درجة أننى شعرت بعدم الحاجة إلى الإكمال مع كل تلك المشاعر المتضاربة، كأن إعصاراً ضرب مركز الذاكرة، وتركنى فى مواجهة أسئلة عن الوجود والزوال، ثم أدركت بعد أن عدت للكتاب، وقرأتُه دفعة واحدة -ابتداء من الصفحة الأولى- أن عنايات الزيات دفعت إيمان مرسال للبحث عن جزء من ذاتها هى، ذات إيمان نفسها، تحفظه العائلة فى مخزن بجوار البيت فى المنصورة. وكما أدركتْ إيمان أن رجوعها إلى أرشيفها الشخصى لم يكن ليحدث لولا انشغالها بعنايات أدركتُ أنا بالمثل أن رجوعى إلى أرشيفى لم يكن ليحدث لولا إيمان، ولولا رحلة إيمان لإكمال المربعات الناقصة فى صورة عنايات، ولولا بحث إيمان عن مساحة صغيرة تحفظ لها حياة أطول قليلاً من الحياة المفترضة لها.
كانت إيمان مشغولة بعنايات، ولم تترك تفصيلة إلا وفحصتها ومحّصتها، ولم تترك نقشاً إلا ومررتْ إصبعها عليه، ولم تترك حجراً ولم تقلبْه لترى ما أسفله، ولم تترك شخصاً حتى وإن بدا بعيداً عن القصة ولم تسأله، فتشت فى الخرائط القديمة، وصحبتنا معها فى عالم مسحور. سرنا معها فى قاهرة موازية لتلك القاهرة التى نعيشها، وشوارع انمحتْ، ولافتات لم تعد موجودة سوى فى أفلام الأبيض والأسود، وعالم لم يعد محفوظاً سوى فى أرشيف هيئة المساحة. كأنها مدينة تخص تلك المرأة الجميلة التى تنتمى إلى عالم كلاسيكى حفظ لنفسه قيمة، أو فخامة ما. سمّها حلاوة ما، على الأقل فى أذهان معتنقى الكليشيه وعبيده. عبيد «الزمن الجميل»، لكنه على أية حال لم يكن جميلاً ولا شىء، فنحن إزاء قصة مأساوية، لا يتخللها سوى بضع لمحات سعادة عاشتها عنايات مع أبيها عباس، ذلك الرجل الذى بدا كأنه طيف يعكس إضاءة بيضاء هادئة على كل صفحات الكتاب، من فرط مثاليته، وكذلك مع صديقتها نادية لطفى، وربما بالقرب من أرشيف ذلك الرجل الألمانى العظيم كايْمر، ولم تمهل نفسها لتكتب روايتها الثانية عنه، إذ أنها أنهت حياتها بيدها، تاركة لغزاً من عشرات الطبقات، وقد احتاجت إزالة كل طبقة إلى دأب لا يملكه إلا باحث مفتون بما يبحث عنه.
كانت إيمان تتحرك فى دوائر، وبعض الدوائر كانت تعيدها إلى نقطة البداية، وكان يمكنها بعد ذلك الدأب، وذلك الجهد، أن تبنى قصة عنايات على طريقة كاتب السيرة المحنّك، وهو بحسب إيمان ذاتها «يبدأ عادة من الولادة وينتهى بالموت»، لكنها فضّلت أن تصحبنا معها فى رحلتها، فعشنا معها حيرتها، وحماسها، وتقمّصها شخصية محقق، واستمتاعها بالعبور من أبواب ربما تبدو لنا جميعاً عادية غير أنها تخفى عالماً من الذكريات والأثاث واللوحات والستائر والأتيكيت واللهجات وطرق التفكير التى نظن معها أن إيمان دخلت كتاباً قديماً عن عالم برجوازى أنيق ولن تخرج منه أبداً.
وقد بدأت إيمان من الموت لتنتهى بالحياة، استعانتْ برواية «الحب والصمت» وكتبت الرواية الثانية لصاحبتها. بدأت من اليأس لكنها نقلتنا إلى عالم كان يمكن أن تحياه عنايات لو أنها فقط صبرت. لو أن نادية لم تسافر إلى الإسكندرية. لو أنها اصطحبتها معها. لو أن صديقتها أصرت بينما تنظر إلى شعرها المقصوص أن تكمل معها اليوم. كانت إيمان لا تملك إلا أقل من ألفى كلمة من يوميات عنايات، وكان مطلوباً منها أن يكفيها هذا الزاد النحيف لعبور صحراء أو تسلق جبل أو المرور بين زمنين يفصل بينهما أكثر من نصف قرن. فعلت إيمان كل شىء لتروى قصة تلك المرأة، باستثناء أنها لم تجرب مثلها، لحسن الحظ، ابتلاع الحبات الزهرية.
ويبدو تأثير إيمان، على كل شىء حولها، وهى تسير «فى أثر عنايات الزيات» عظيماً، وهى ليست مشغولة بأن تكون على الحياد فى هذا العمل، حياد المغفلين، أو من يرددون تلك المقولات البالية عن ترك الأحكام للقراء أو للجماهير، ولأنك تصدق نبرتها، وتشعر بخوفها فى بعض اللحظات، وبحنقها على ذلك العالم، تصبح أنت نفسك مداناً، لو أنك تعاطفت قليلاً مع الزوج القاتل، زوج عنايات، الذى كانت عائلته أكبر من القوانين فى ذلك الزمن، ولو تعاطفت مع الدار القومية أو حتى مع مكالمة منها يُخبر العائلة ببساطة أن الرفض كان لترجمة قامت بها شقيقتها عظيمة الزيات لأحد الكتب، لا لرواية عنايات «الحب والصمت». قال لى أحمد شافعى إنها على ما يبدو محاولة من الدار القومية لغسل يدها من دماء عنايات، لكنى لم أقتنع بعض الشىء بهذا التفسير، إذ أن المؤسسات الرسمية ليس لها تاريخ من التبرير، والتبرير فى حد ذاته قد يمثل إدانة.
ليست هذه قصتنا على العموم، لكن قصتنا إيمان مرسال نفسها، التى خلعت معطف الباحث فى كل صفحة من الكتاب، وارتدت ما يناسب الموقف، معطف الطبيب فى بحثها عن الحبوب الزهرية حيث وصلت إلى ملامسة حدود الجنون. معطف الأرشيفجى وهى تبحث عن أى قصاصة تساعدها لإكمال خطوة فى طريق صعب ودائرى. معطف الكاتب الذى يعرف أن عملاً مهماً لا بد وأن يترك حصيلة لغوية مؤثرة. كل كتاب لإيمان مرسال يؤكد أنّ فى لغتنا جمالاً مهولاً، لكنه مدفون أسفل طبقة من الكسل والعادية و«النتش»، طبقة راكمتها أجيال من الشعراء والروائيين والباحثين، لكن هذا الجمال يحتاج إلى من يُخرجه من الصناديق المهملة المغطاة بتلك الطبقة السميكة ويصقله بماء الفضة ويضعه تحت الشمس. ارتدت كذلك معطف المؤرخ الذى لا يترك زمناً أو حدثاً أو شخصية إلا ورسمها وأحاط بها وبشبكة تعقيداتها، المؤرخ الذى يحول المطبات والنقص فى المعلومات والجهد فى الاستقصاء إلى صفحات من الحكايات البسيطة الممتعة رغم أنها مطعّمة بتواريخ جافة وأسماء جامدة وأحداث قاسية. وكذلك معطف المحقق الذى يزيل الطبقة تلو الطبقة حتى يصل إلى معلومة تقوده إلى معلومة فى سلسلة تبدو لانهائية، حتى لا تصدق فى إحدى اللحظات أن هناك نهاية لهذا البحث، وتشعر بأن اقتراب الصفحة الأخيرة من الكتاب هو اقتراب من مفارقة صُحبة ممتعة كنت تود لو تمتد لفترة أطول، لكن للأسف هناك نهاية لكل شىء يقترن بالمتعة أو السعادة، لأنهما بتعبير الفنان نور الشريف استثناء تليه الكارثة.
هذه نهاية ربما تبدو مناسبة نوعاً ما لمقالى عن الكتاب، لكنه ليس المقال الذى أردت كتابته من البداية، حتى إن مقدمتى عن عودتى لأرشيفى وسعالى وخوفى على أوراقى وما سيتبقى منها ومنى، بقائى أو زوالى، لا يناسبها إلا فى أضيق الحدود، إذ كنت مفتوناً بإيمان قدر افتتانى بعنايات، وكنت أتابع قصة الكاتبة بنفس شغفى بمتابعة قصة البطلة. بدا لى الكتاب كتابيْن، لكنهما مضفّران بعناية وخبرة لدرجة أنك لا تستطيع فصلهما، وما قاد إيمان، على ما يبدو، لتتبع أثر عنايات الزيات، هو نفسه ما قادها لتقتطع لنفسها مساحة أو خطاً موازياً فى الكتاب. أرادت إيمان أن تعيد عنايات إلى الضوء، وقد كانت موهبُتها المغدورة تستحق التعريف والاحتفاء فى حياتها لا بعد رحيلها، لكن الأهم كذلك هو إعادة الاعتبار إلى امرأة أسهم أشخاصٌ وجهاتٌ وكذلك سماتها الشخصية، أقصد سمات عنايات ذاتها، فى طمس قصتها حتى تحولت بالنسبة إلى الأرشيف الرسمى لبعض المؤسسات إلى شخص لا يطلب أحدٌ الاطلاع على أوراقه، ولذلك يمكن إعدامها ببساطة. كانت مهمة إيمان تقتضى بأن تخلق أرشيفاً جديداً، أو حياة أخرى لعنايات، وقد نجحت فى ذلك، رغم تلك الهواجس المخيفة التى حاصرت عنايات وحاصرتها هى شخصياً، خاصة مع حقائق فادحة عن تزييف الأرشيف، وتزييف الحكايات كما فعل أنيس منصور، إذ يبدو كأنه سمع بقصص عنايات «أو اخترعها كما اخترع صداقته بها بعد ذلك»، وهو أمر متكرر فى قصص كهنة الأدب والثقافة عموماً، إذ يسردون حكايات مضللة لا تخدم أحداً سواهم عن كتّاب أقل منهم شهرة لكنهم أكثر قيمة.
أرادت إيمان التى تنبّهنا إلى ضرورة أن «نتخيل امتداد سلطة العائلة على أحد أفرادها بعد موته» ألا تغامر مثل معظمنا وتترك أرشيفها للصدفة مهما كانت ثقتها فى دائرة الأقارب والأصدقاء والمخلصين، وهكذا سرّبت جزءاً من خيوط يمكن تتبّعها، وبالتالى لن يحتاج الصحفى أو الباحث إلا للسير بموازاة تلك الخيوط الذهبية التى تنْسلُ من بكْرة تُمسكها إيمان بامتداد الكتاب، بكْرة تخصّها هى لا عنايات، ليرى ملامحها وهواجسها. غضبها وعصبيتها. حنقها من أمور صغيرة وثورتها على فوضى الشارع، طريقة تحيتها للناس، وكيفية معاملتها الغرباء. كيف تكون الشخصية ونقيضها؟ المرتابة من الغرباء والمستريحة معهم؟ الشخصية التى تذهب إلى مصدرها فى كامل أناقتها كأنها ذاهبة إلى حفلة موسيقى بصحبة حبيبها. يمكنك أن تجمع الفقرة إلى جوار الفقرة لترى كيف يمكن لكاتب أن يرسم لنفسه صورة أكثر دقة من الفوتوغرافيا، وأكثر جمالاً من لوحات الفن التشكيلى. لقد استمتعت بذلك الأمر رغم أنى أعلم يقيناً أن بداخل إيمان شخصية لا تميل إلى العزلة أو الاختباء ولكن إلى مناطق العتمة، هى الشاعرة التى نتذوق ما تكتبه ببطء منذ سنوات بعيدة، لكننا لا نعلم الكثير عن الطريقة التى تفكر بها إلا من خلال نتف بسيطة، مقالات لأصدقاء، وحوارات محدودة، وبضع جمل على فيسبوك، لكن إيمان هنا تغادر ممرها المعتم، وتخوض مغامرة حقيقية بعيداً عن الشعر لتجرّب وهى تتقصّى أثر عنايات مرة وأثر نفسها مرة «المشى أطول وقت ممكن». تغادر ممرها المعتم وجغرافيتها البديلة وتتخلى عن فكرة «بيوت تعرفها» إلى «بيوت لا تعرفها» وشوارع قطعتها مراراً وتكراراً ولكنها تعيد اكتشافها كأنما تخطو فيها للمرة الأولى.
تتساءل إيمان عن «الأرشيف الشخصى بعد موت صاحبه، صاحب الأرشيف يراكم حكايات ويوميات ورسائل وقصاصات ومسودات. هل يمكن أن يصبح عبئاً على من يرثونه، يشغل حيزاً من المكان، أو من الذاكرة؟ ما هى احتمالات وأشكال تدميره؟ وما الذى يحل محله عندما يتخلص منه؟ هل أسباب وطريقة تدميره مهمة فى محاولات استرجاعه أو تخيل محتواه؟» ولهذا نعرف، على ما يبدو سر حماسها المفاجئ لأرشيفها وهى فى عز انشغالها بحكاية عنايات، رغم أن العائلة تحفظ ذلك الأرشيف جيداً، بل إنها تعزله عن الأيدى العابثة أو الغريبة أو الفضولية فى مخزن بجوار البيت، لكن الأقدار كما نعرف أقوى من الاحتياطات، ثم إن الحنين قد يكون أكبر من الخوف، صحيح أن الخوف حاجة إنسانية نحتاجها أحياناً لنلوذ بأنفسنا بعيداً عن مصادر التهديد، لكن الحنين كتلة من المتعة الخام نغرق فيها طائعين.
ما الذى يحركها إذن؟ الخوف؟ الحنين؟ فكرة مضاهاة حياتها بحياة سابقة؟ ألم تلحظوا بعض التشابهات المذهلة بين الاثنتين؟ الكاتبة والبطلة؟ وما تلك الصدف المدهشة التى قادتهما للذهاب إلى الطبيب النفسى ساعة كل أربعاء؟ لقد احتفظت الحياة لإيمان بكل الخيوط الممكنة، بل إن بعض المعمّرين يبدو وكأنهم أكملوا مدداً إضافية حتى تصل إليهم إيمان التى ستشعر وهى تقابل إحداهن أنها، يا للحزن وخيبة الرجاء، لن تراها مرة أخرى. فكرت إيمان أن «الصدف كانت تلعب أدواراً حقيقية فى ذلك الزمن» لكن يبدو أن الصدف امتدت من هذا الزمن لتشمل إيمان نفسها، إذ تبدو وكأنها تؤمن فعلاً بسلسلة من مصادفات سعيدة وقدرية، قادتها إلى عبوة دواء فيرونال مدوّن عليها تاريخ الصلاحية يناير 1963، وبداخلها الحبوب الزهرية. يمكنك أن تتذكر الله فى هذه الحالة كما تذكرته إيمان.
يحدث خلال الكتاب أن تتحدث إيمان عن فترة توقف لتفعل شيئاً ما، كأن تكتب عملها المهم «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، للحديث عن أوقات قضتها مع أصدقاء، عن سفرية هنا أو هناك، وحتى عن أبيها وأخواتها، والأمراض، وحادثة انزلاق ابنها مراد على الثلج وانجراح ركبته، وتسببها فى غضب عارم من نفسها، إذ كانت «المدينة» قد حذّرتها من أن يذهب إلى المدرسة سيراً على الأرض الزلقة الزجاجية، عن منيل الروضة، مسكنها الذى يشكل فروة رأس القاهرة بالنسبة لها، والمنصورة مكان ميلادها.
كنت فى زيارة لها وشقيقها محمد مرسال، فى إحدى الإجازات التى تتحدث عنها بامتداد الكتاب، وأتذكر أن موضوع الأرشيف كان يشغلها للغاية. كانت تتحدث بدهشة طفل عن أوراق ديوانها الأول التى وجدتها، ربما، وهى تقلّب فى المخزن المجاور للبيت، وقد «وضعت مسودات القصائد الأولى فى علبة بعيداً عن تلخيصات كتب الماركسية والطيب تيزينى والعروى وسمير أمين. فصلت مجلات الحائط أيام الجامعة عن فسائل أنور كامل وبيانات الشعراء الغاضبين»، كما أعدّت ملفاً فاجأها حجمه الكبير من مقالات الهجوم على جيل التسعينيات فى الأدب المصرى. إلخ.
وفى غرفة جانبية، من شقة المنيل، جلستُ معها على الأرض إلى جوار صندوق مقوّى، وتطلعتُ إليها بينما تُخرِج الأوراق بحنو وحذر. كانت القصائد مكتوبة على الآلة الكاتبة، بعضها بالأسود وبعضها بالأزرق الباهت، وانتقلت إلىّ دهشتها الشديدة، وأنا أقرأ بعض الجمل بصوت عال، وأطالع الجملة التى كتبها صاحب الآلة الكاتبة على لسانها مع أنها لم تطلب منه، جملة بدائية لا تناسب قصائد تكاد تنفجر برائحة موهبة مخيفة لطالبة فى الثانوية، كما اطلعتُ على مجلات الماستر، ورأيت كيف كانوا يحتفون بموهبتها فى مساحات كبيرة لم تتح لأقرانها، وفى هذه اللحظة قررت تتبع أثر إيمان من ميت عدلان إلى كندا، وقد وافقتْ على أن أصطحب كل هذه الأوراق معى إلى بيتى، ربما وأنا لا أنتبه إلى أنها فى هذا التوقيت تتبع أثر شخص لا ينتمى إلى حياتنا، أثر عنايات الزيات.
كنت ألاحظ تلك المفاتيح التى تلقيها بغزارة على امتداد الكتاب، فما حاجة كتاب عن عنايات الزيات إلى جملةٍ تصف فيها الأب بأنه يخرج مفاتيح البيت والمخزن بحركة مسرحية؟ إلا إن كانت هناك قصة مهمة تربط هذا الأب وإيمان؟ ما الذى تحاول إخبارنا به حينما تقول إنها شعرت بسلام رغم وجودها وحدها فى بيت المنصورة؟ ما حاجتنا لنعرف أن ابتهالات صلاة العيد تأتى من جرن الحاج رجب إلا أننا أمام ما يشبه عرضاً ثانوياً حاولت إيمان قدر المستطاع أن يأخذ حيزاً غير ملحوظ، لكنه لفرط حساسيته اللغوية وكشفه عن جزء من سيرة أهم شاعرة مصرية، بدا عرضاً لا يقل فى متعته عن عرض عنايات، وهكذا تجاورتْ القصتان، قصة الشاعرة وقصة الروائية، قصة الحاضر بمشكلاته ومآسيه وآماله، والماضى بعظمته وتفاهته وبالأسئلة التى يحاصرنا بها وبمقولاته البالية.
الماضى ليس مفسّراً للحاضر فى قصة إيمان وعنايات على ما يبدو، لكنه يشير إلى تقدم الإنسانية المذهل، فقد صار علاج الاكتئاب ممكناً، وهناك من يلاحظ ظهور أعراضه علينا، ويكترث لأمرنا، وبالتالى قد تُكتب النجاة لنا. كانت عنايات تدفن حياتها بنفسها، والصحفية نعم الباز أيقنت منذ اللحظة الأولى أنها لا تريد صداقات جديدة، بينما فى قصة إيمان هناك أمل دائم فى شىء جيد.. محبتها للعالم تلك كتبت حياة جديدة لعنايات الزيات، رغم أن هناك محاولات سبقتها، لكنها محاولات افتقرت إلى الجدية والدأب والصبر وكان الهدف منها مرة استغلال اسمها للانتصار للمرأة ضد قوانين جائرة تنصر الزوج فى مجتمع كانت الذكورية تغرقه فى رائحة الجديان، ومرة للقفز على اسمها، لكن إيمان هنا تنتصر لها، لا باعتبارها امرأة تعرضت للظلم، لكن لإنقاذها من مصير الزوال، إذ أن تلك الطبقات التى أزالتها إيمان لتصل إلى جوهر قصتها كانت معرّضة فى الأعوام القليلة القادمة للطمس التام. كانت إيمان تفكر فى نفسها كذلك، وربما انتابتها رغبة فى القسوة على بطلتها، لأنها على ما يبدو كانت ساذجة بعض الشىء، فقد «حاربت عنايات من أجل فرديتها وانتظرت مكافأة النصر من الدار القومية للنشر، من نفس المجتمع الذى حاربت ضده. كان الطلاق مكافأة، وكتابة الرواية مكافأة، والعمل فى مركز الآثار الألمانى مكافأة. لكن خسران قضية الحضانة هزيمة، ورفض الرواية هزيمة، وانشغال صديقتها عنها هزيمة، والتضحية بالحب من أجل الأمومة هزيمة. لا يكون أمام الفرد الحر أمام كل هذه الهزائم إلا أن يقفز مرة أخيرة فى الفراغ». كانت عنايات، للأسف، لا تعرف، لكن إيمان تعرف. عنايات قطعت الرحلة بالنوم إلى الأبد كما لو أنها تطفئ التلفزيون لمرة نهائية بينما إيمان تمد الطريق إلى القمر. عنايات تهزم نفسها، بينما تقف إيمان بعد كل مرة تزلّ فيها قدمها، ومعها تشد يد شخص آخر، كانت عنايات زوجة فاشلة، وأماً متخلية، وابنة باعت أباها الطيب، رغم الاعتراف بأنها ضحية المجتمع وقسوة جديانه، بينما إيمان أكملت طريقها، وأصبحت شاعرة وساردة وصديقة وزوجة وأماً ومتذوقة للفن وناقدة ومحبّة للعالم ولنفسها.
………………………….
*صدر كتاب “في أثر عنايات الزيات” لإيمان مرسال عن “الكتب خان”، ونشر هذا المقال في أخبار الأدب 2 فبراير2020.