إيمان بين صورة العصامي وقائدة العربة الطائشة

إيمان بين صورة العصامي وقائدة العربة الطائشة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سيد محمود

ليس لدي الآن ما يمكن قوله عن شعر ايمان مرسال الذي أصبح موضوعا للدرس النقدي في عدة جامعات عالمية، في قصائدها الكثير الذي أتوقف أمامه بحب وبعض الذي استدعيه وأنكره عليها، وأتمنى لو لم تكتبه أو تعيد النظر فيه، لكن على الصعيد الشخصي لدي دائما زاويتي التي أنظر بها إلى "إيمو" كما يناديها الأصدقاء.

وتتخلص هذه الزواية في فكرة بلورها لي ذات مرة الكاتب الراحل إبراهيم اصلان وهو يحدثني عن نفسه وعن مفهومه للكاتب العصامي، وكان يقصد الكاتب الذي يحفر في منطقة تخصه ويبني تصوراته عن الكتابة وهو لا يكف عن العمل لإنماء هذا التصور أو تدميره في مرحلة لاحقة ليعاود الحفر في منطقة أخرى، فالكاتب هنا مغامر، كمن يبني ثروة اعتماداً على قوة عمله وليس اتكالاً على إرث ترك له .

وفي ظني أن إيمان مرسال التي أصبحت راية جيل بأكمله تمثل هذه الفكرة تمثيلاً كاملاً، فأنا عندما أراجع صورها في ذاكرتي وأقلب فيها يبهرني فيها كلها، خفة الانتقال من مرحلة إلى أخرى ولكنها الخفة التي تترك أثراً، كأنها يد تحفر في حائط وتنقب ثغرة لذلك لا غبار يعلق في يدي وأنا أرتب تلك الصورة التي تبدو الآن قديمة جداً، لكن ألوانها زاهية بفضل زهونا بما فيها من تفاصيل.

سمعت عن إيمان مرسال ، قبل أن أراها، كان ذلك في نهاية الثمانينيات واليسار داخل جامعة القاهرة يرتبك في التعامل مع تحولات في الداخل والخارج، إذ كان شبح ما يجري في أوروبا الشرقية يضع مفكري اليسار وأعلامه في شارع مظلم يعانون من بؤس التفكير في الخطوة المقبلة ولا طاقة لأحد على المراجعة، ومن ناحية كانت الجامعات بدورها تشهد تحولات أبرز ما فيها السؤال عن حقيقة الحجاب وحرمة الاختلاط بين الطلبة والطالبات.

كان المد الوهابي في عنفوانه والحديث عن الاسلام الجهادي سيد الموقف، لكن حزب التجمع كان أيضا حديقة مفتوحة، محاطة بأشجار جافة، وفي قلب هذا الزخم وداخل الحزب الذي كنت اذهب اليه لاسمع الشيخ امام وأشاهد أفلام يوسف شاهين وقعت في يدي مجلة عنوانها (بنت الارض) كانت تحررها من المنصورة إيمان مرسال  سنية البهات شقيقة الكاتب رضا البهات الذي كانت روايته “بشاير اليوسفي” قد صدرت بطزاجتها اللافتة، وكانت الرواية موضع حفاوة وأذكر أنمجلة أدب ونقد أعدت حولها ملفاً وبعدها ملفات عن أدباء الدقهلية، ليطل منها اسم ايمان مرسال مع كتاب آخرين أبرزهم فؤاد حجازي ومحمد المخزنجي، وأذكر أن إيمو كتبت في مجلة “أمكنة” نصاً سردياً فريداً عكس وعيها بتلك الأيام.

المهم أن مجلة “بنت الأرض” وكانت فقيرة الإخراج كعادة مجلات الماستر، كانت كفيلة بفتح أبواب نقاش استمر لشهور بيني وبين أصدقاء كان معظمهم بعيد تماماً عن الكتابة الإبداعية، لكن صدفة التعرف على المجلة جعلت اسم إيمان مرسال قريباً من العقل والقلب، ثم كانت صدفة أخرى تمثلت في السفر للمنصورة لتمثيل جامعة القاهرة في مهرجان شعراء الجامعات عام ٩٠ ، كنت مع أحمد يماني ومحمد متولي وفي مدرجات جامعة المنصورة تعرفنا على أمل جمال ومحمد عبد الوهاب السعيد ومحمود الزيات وفي فندق مكة بشارع العباسي، وكان معنا شلة من شعراء السبعنينيات، جاءتنا ذات مساء إيمان مرسال التي تحدثت بانفعال وكانت كل أفكارها في تلك الليلة تشبه من يقود عربة طائشة لكن بثقة تطمئن الراكبين.

وماهي إلا أيام حتى كانت بيننا في جامعة القاهرة، وبالتحديد في كليتنا كلية الآداب حيث جاءت تكمل دراساتها العليا مع الدكتور جابر عصفور، وتسكن في بيت المعيدات بالدقي، وفي المسافة من الجامعة حتى السكن كنا نتمشى معها يوميا ونتداول حول أفكار كثيرة، أهم ما فيها أن إيمان تتحدث عن مستقبلها بثقة كانت مبهرة للجميع.

أيام قليلة جاءتنا إيمان بديوانها الأول (اتصافات) الذي أحببناه وأحببنا اللوحة المائية التي تصدرت غلافه، وأذكر إلى الآن أن صديقي الناشط الحقوقي سعيد الحافظ الذي كان يتعلم معنا قراءة الشعر الحداثي كان يحفظ وربما لا يزال مقاطع كاملة من الديوان الذي تعرض لقراءات تلصصية واستعمالية كثيرة داخل يومنا الجامعي الذي كانت إيمان تشاركنا كافة تفاصيله، ثم تذهب للعمل في مجلة أدب ونقد وتجلس على مكتب صغير في ممرات صحيفة الاهالي في مقرها القديم تراجع البروفات وتصححها قبل أن تسلمها للراحل حلمي سالم الذي أظن أيضا أنها من تولت تقديمنا إليه، ولا يزال مشهد جلوسها في هذا الركن راسخاً في ذهني، لأني اعتبرته دوما دالاً على دأبها وطاقتها على التحمل ورغبتها في الحفر.

بعد سنوات أصدرت إيمان ديوانها (ممر معتم يصلح لتعلم الرقص) وتزوجت من مايكل، وكانت شبكة الاصدقاء قد اتسعت وأصبحت متعددة الخلايا، وكانت إيمان نواة لأغلبها بسبب انغماسها في عملية البحث ورغبتها في الحوار مع الجميع عن رسالتها الأولى، وكانت عن أدونيس وهو شخصية إشكالية لم تشأ مرسال التفريط في أية فرصة للحوار حوله.

أما أنا فقد خطوت خطواتي عملي بالصحافة في الإصدار الأول لصحيفة الدستور، وكان رئيسي وقتها الشاعر ابراهيم داوود، وقد فاجأتنا الصحيفة بنشر مقال لشاعر يغمز ويلمز في قصة زواج إيمان، ليلتها غضب إبراهيم داوود بصدق وكتب مقالا دافئا يعبر فيه عن مكانة لابد وأن تحتلها إيمان على خارطة الشعر المصري، وظللنا طول الليل أنا وهو نتحدث عن إيمان كصديقة أصابها الأذي، انتبهت ليلتها أن إيمان تعنيني شخصياً وأن ما لديها عندي يفوق تصوراتي عنه .

ديوانها الثالث (المشي اطول فترة ممكنة) شعرت وأنا اقرأه بخروج العربة الطائشة عن القضبان والسير بالكتابة لمسارات غامضة، لكنه السير الذي يجعل ذاتها الشاعرة تؤدي مهمة ترميم الأرواح وهي المهمة التي استكملتها في (جغرافيا بديلة ) وعملها الاخير (حتى أتخلى عن فكرة البيوت) وهو عمل لا زلت أرتب افكاري عنه، لانه يمثل انتقالاً آخر في مسيرتها الشعرية، حيث يكسر التباس فكرة الحنين التي كانت تؤرقها طوال سنوات هجرتها من مصر وهي سنوات قضتها بمنطق (رجل هنا، ورجل هناك) لانها حاضرة بالطريقة التي تلائم موهبة كبيرة حاضرة بالكتابة وفي الكتابة.

حتى في المرات التي كانت طرفاً في سجال صحفي بشأن ترجمة نصوصها إلى العبرية أو نشر نصوصها في أنطلولوجيا بدون إذنها، ظن البعض أننا تدخلنا من منابرنا الصحفية بطريقة انطوت على تدليس أو تواطؤ انتصر للصداقة أكثر من الانحياز للفكرة وهذا غير صحيح إطلاقاً، لأن من يعرف العصامي في مطبخ ايمان مرسال الشعري يعرف رفضها لفكرة الوصاية، ونفورها من التوجيه فهي من الفئة التي لايمكن ان تكتب استجابة لتعليمات أو شغفاً بشيء غير الكتابة.

لذلك فرحت حين تصالحت مع صديقة أخرى أحبها، ووجدت هذه الصديقة تكتب (يجمعني بإيمان مرسال الشعر وهو أرحب من أي خلاف) وحين واجهتني صديقة أخرى أقدرها بفكرة تواطؤي أنا وزملاء آخرين مع ايمان على حساب القارئ ، فكرت في الاتهام و فرحت به لأنهرد لي إحساسي بأن إيمان صديقة قديمة لديها عندي ما يفوق تصوراتي عنه، لكني وبضمير خالص اكتشفت أنني لم أناصرها من موقع قبلي، لكني دافعت عن حقها في المغامرة أو حتى حقها في الخطأ، ربما لأنني أردت دائماً أن احتفظ لها بصورة قائد العربة الطائشة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم