“إيزادورا” التى جعلت الرقص تعبيراً عن حركة الروح

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

من أجمل وأبدع ما قرأت في الفترة الأخيرة السيرة الذاتية للفنانة الأمريكية، أم الرقص الحديث "إيزادورا دنكان"، التي صدرت ترجمتها العربية منذ فترة بعنوان "حياتي" من ترجمة مدحت طه، فى سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

أصبحت مفتونا بهذه الشخصية الاستثنائية منذ شاهدت فى صباي فيلم “إيزادورا” فى التليفزيون من بطولة الرائعة فانيسا ريدجريف، ولكنى عندما قرأت سيرتها الذاتية الممتعة (أكثر من 530 صفحة) اكتشفت أن إيزادورا أكثر عمقاً وعبقرية مما ظهرت فى الفيلم البديع، لاشك عندي الآن أنها من أبرز شخصيات القرن العشرين، ومن أكثرهن ثقافة وتأثيرا وأصالة واستقلالية وإبداعاً.

ترسم المذكرات ملامح ميلاد الأفكار الجديدة فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أوربا الصاخبة الممتلئة بالفن والفلسفة والحياة، من المفاجآت بالنسبة لى أن إيزادورا كتبت مذكراتها بأسلوب أدبى ممتع للغاية ككاتبة محترفة، كانت الإضافة الكبرى التى قدمتها إيزادورا أنها جعلت الرقص تعبيراً عن حركة الروح، عن الحلم بالطيران الذى لم يفارق إيزادورا منذ مولدها  فى أمريكا بين البحر والجبل فى 1877، وحتى وفاتها عام 1927.

الرقص عندها هو التعبير الخالص عن الحرية، والجسد هو الآلة المقدسة لإظهار هذا المعنى بالحركة ، إنها إحدى أجمل وأمتع السير الذاتية التى كتبها فنان عن حياته، ولا ينافسها عندى حتى الآن سوى السيرة الذاتية التى كتبها شارلى شابلن عن حياته الطويلة الخصبة من ترجمة الراحل صلاح حافظ.

حياتى” لإيزادورا دنكان .. درسٌ فى معنى الحياة، ودرسٌ فى معنى الفن، أتمنى أن يكون هذا الكتاب على قائمة القراءة لدى كل قارئ أو كاتب أو فنان يريد أن يصنع شيئاً مختلفاً وأصيلاً، أتمنى أيضاً أن تحظى سلسلة الجوائز المدهشة التى تصدرها هيئة الكتاب بالدعاية الكافية، لأنها بالفعل من أفضل وأهم السلاسل المترجمة فى مصر.

ترسم المذكرات لوحة لا تنسى لامرأة قوية الشخصية ومستقلة وعنيدة ولا تتوقف عن السؤال والمراجعة: ” عندما كنتُ طفلة، كشفت لنا أمى سرّ سانتا كلوز، وكان من نتائج ذلك أنه أثناء احتفال مدرستى بالكريسماس، قامت المُدرّسة بتوزيع الحلوى والفطائر علينا، وقالت : “أرأيتم أيها الأطفال ماذا أحضر إليكم سانتا كلوز؟ فقمتُ وأجبتها بكل إجلال: “أنا لا أصدقك، لا يوجد شيء اسمه سانتا كلوز”، تكدّرت المدرّسة الى حد بعيد وقالت: “الحلوى للبنات الصغيرات اللاتى يؤمنّ بسانتا كلوز فقط”، فقلت لها: “إذن أنا لا أريد حلواك”، انفجرت المدرّسة بغضب تعوزه الحكمة، وأرادت أن تجعل منى أمثولة، أمرتنى أن أتقدم، وأجلس على الأرض، تقدمتُ، والتفتُ تجاه الفصل، وألقيت أول خطاب شهير لى: “أنا لا أؤمن بالأكاذيب”، وصرختُ:” قالت لى أمى إنها فقيرة جدا حتى تصبح سانتا كلوز وتقدم لنا الهدايا، وأن الأمهات الغنيات فقط هن اللاتى يمكنهن الإدعاء بأنهن سانت كلوز وأن يمنحن الهدايا” .

فى سن مبكرة جدا، رفضت إيزادورا أن تتقبل ما لا تستطيع أن تشعر به، نفرت من الباليه غير الكلاسيكى، وجدته تدريبا مصطنعا ومؤلما لايمكنها أن تؤديه لمجرد أن البعض يطلبون منها ذلك : ” عندما أخبرنى مدرس الباليه أن أقف على أطراف أصابعى سألته : لماذا؟ أجاب : لأنه أمر جميل، فقلت له : بل إنه قبيح وضد الطبيعة، وبعد الدرس الثالث تركت فصله ولم أعد إليه أبداً، هذه التمرينات الجسمانية الشائعة والعتيقة التى سمّاها رقصا لم تفعل سوى تشويه حلمى، فقد حلمتُ برقص مختلف، لم أعرف بالضبط ماذا سيكون هذا الرقص، ولكنى كنت أشعر أنى أسير فى اتجاه عالم غير مرئى، وتنبّأ حدسى أنى يمكن أن أدخل هذا العالم إذا وجدتُ هذا المفتاح ” .

حتى التعبيرعن اكتشافها لما يجب أن يعبّر عنه الرقص، يتحول بوصف إيزادورا الى لحظة صوفية، حالة من الإشراق والتجلى الروحى: ” ” قضيت أياماً وليالى طويلة فى الأستديو، باحثة عن تلك الرقصة، التى ربما كانت التعبير الإلهى عن الروح الإنسانية، عن طريق حركات الجسد كوسيط، كنت أقف ساكنة لساعات، ويداى معقودتان فيما بين نهدى ومنطقة الحجاب الحاجز عند فم المعدة، اعتادت أمى مراقبتى أثناء هذه الفترات الطويلة دون حراك، كما لو كنت فى حالة من النشوة الصوفية، لكنى كنت أبحث عن ضالتى، واخيراً اكتشفتُ النبع المركزى لكل حركة، فوهة البركان للطاقة المحركة، وحالة الانسجام التى تولد منها كل تنويعات الحركات الراقصة، ومرآة الرؤية لابتكار الرقص، ومن هذا الإكتشاف أسست  مدرستى فى الرقص ….. هناك فى هذا المنبع تعكس إشعاعات الموسيقى وذبذباتها نفسها فى رؤية روحية، ليست مرآة للعقل بل مرآة للروح” .

فى سيرة حياة إيزادورا التى تتوقف عند وصولها الى روسيا عبارات كثيرة ملهمة حول الفن والرقص والحب :” إن فنى هو مجرد جهد بذلته للتعبير عن حقيقة كيانى، بالإيماءة والحركة، وتطلب الأمر منى سنوات طويلة لأكتشف مجرد حركة راقصة واحدة حقيقية بشكل مطلق، لم يصبنى أبدا أى إحساس بالتردد أمام الجمهور، الذى احتشد وتزاحم لرؤية أدائى الراقص، لقد أعظيتهم البواعث والإشارات الأكثر سرية لروحى، قمت من البداية بأداء راقص لحياتى كلها: ورقصت كطفلة بسعادة التلقائية وعفوية الأشياء فى نموها، ورقصت كمراهقة بسعادة الخوف من التحول الى الإدراك الأول للتيارات المأسوية التى تجرى تحت السطح،  والخوف من القسوة عديمة الرحمة والتطور الساحق للحياة” .

تقول إيزادورا الرائعة فى مذكراتها شعرا وحكمة لايقلان بلاغة عن رقصاتها المحلّقة:” أحيانا سئلتُ هل كنتُ أعتبر الحب أسمى من الفن؟ وأجبتُ بأننى لا أستطيع الفصل بينهما، لأن الفنان هو المحبّ الوحيد، فهو وحده الذى يملك الرؤية النقية الصافية للجمال، والحب هو رؤية الروح الروح عندما يُسمح لها بالتحديق فى الجمال الخالد“.

مذكراتها متعة للعقل وللفكر، مثلما كانت رقصاتها متعة للعين وللروح.

 

مقالات من نفس القسم