أحمد عبد الرحيم
فى الفيلم الأمريكى The Matrix أو المصفوفة (1999)، من تأليف واخراج الأخوان وارتشوفسكى، يذهب بطل العمل “نيو” لزيارة العرّافة، فيجد عندها عددًا من الأطفال، واحد منهم يتمكن من ثنى ملعقة دون لمسها، وبعد أن يتعجب “نيو” للمنظر، يفاجئه الطفل: “حاول أن تدرك الحقيقة؛ إنه لا توجد ملعقة.. ووقتها سترى أنها لا تنثنى، أنت من تظن ذلك!”، لأننا فى الماتريكس، لعبة الوهم، وهو ما يذكّرك أول ما يذكّرك بفن السينما نفسه.
أتذكر محبة الكل لفيلم ماتريكس، الجزء الأول، حين إطلاقه فى دور العرض المصرية، ربما لخيالية القصة، وجدَّة الخدع السينمائية، وفوران المغامرة، وربما – أيضًا – لما حمله من رموز وأفكار يمكن قراءتها على أكثر من وجه، وهذا وحده نادر؛ خاصة حين يحاك ضمن نسيج فيلم أكشن / خيال علمى، تجارى. لكن بينما نال الفيلم قراءات متنوعة حاولت تفسيره سياسيًا (هل الماتريكس هو المجتمع العصرى الذى تحكمه شركات كبرى تلتهم الإنسان حتى تعيش وتتطور؟)، أو فلسفيًا (هل الحياة ليست إلا تحقيق لإرادة عليا تقضى عليك بما لا تريده؟)—ثمة قراءة أخرى خطرت فى بالى حين شاهدت الفيلم لأول مرة فى دار عرض قاهرية، بتاريخ 5 مايو 2000، وهى قراءة مفادها أن هذا فيلم عن السينما.
فكّر معى ببساطة؛ الماتريكس هى السينما، والعالم الخَرب خارجها هو واقعك خارج دار العرض، وأنت تدخل الفيلم خاملًا مسالمًا كـ”توماس أندرسون”، وتعيش داخله مُخلِّصًا مغوارًا كـ”نيو”، و – الأهم – أن تخرج منه بطلًا مثله!
على مستوى أعمق، ستجد هذه المعانى مُجسَّدة، عبر الشخصية الرئيسية فى الفيلم ورحلتها، بذكاء ممتع، ورؤية ناقدة، وخطاب مُحرِّض. فالماتريكس، أو ذلك العالم الرقمى الذى يعيشه البطل، هو مجرد إلهاء خلّاب للجميع عن الحقائق المؤلمة المحيطة بهم، وتمويه متقن عن بيع أجسادهم وأرواحهم لحساب قوى آلية تستهلكهم، فى عالم أصلى شنيع لا يراه إلا من يستيقظ من نومته بالماتريكس، ويعى ما يغيب عنه من مصائب خارجها. لهذا فإن الفيلم يحمل هذه الثنائية؛ العالم الخيالى المصنوع، الذى يشمل الشعوب مسلوبة الإرادة، التى تحيا فيه حياتها الاستهلاكية الطرية، ثم العالم الواقعى المتخم بقسوته ومآسيه، البعيد عن الأناقة الظاهرية ودغدغة الحواس، الذى يشمل البقية الباقية من الشعب، الذين يواجهون الظروف المعذِّبة، ويسعون للحرية الصعبة. فما أشبه العالم الأول بالسينما، لاسيما الهوليوودية خالصة التسلية، وما يضاهيها من خارج هوليوود، التى تسلب لبّك بإثارة أحداثها، وفتنة صورها، وما أشبه العالم الثانى بعالم الواقع، الذى لا يملك كل هذا الترف، ويضغط عليك بمتاعبه.
هذا المعنى تدعمه الجملة التى عزَّز بها “نيو” شجاعته عند القفز من المصعد فى معركة النهاية: “إنه لا توجد ملعقة!” قاصدًا تلك الملعقة التى نتخيل أنها تنثنى، بينما هى غير موجودة أصلًا، وعلى المنوال نفسه فإننا نتخيل أن هذه القفزة خطرة، بينما هى محض خدعة (مثل خدع السينما)، لهذا سيخرج “نيو” منها دون خدش واحد، لأنه داخل الماتريكس، أو عالم الخيال الذى لا يخضع لقواعد الواقع؛ وهو ما يشير إلى السينما كنوع عظيم من الواقع التخيلى الجماعى. فمثلًا النار التى تندلع بعد قفزه من المصعد لا تلمسك، أنت فقط تتخيل حرارتها، وهو ما يعبِّر عنه “مورفيوس” فى عبارته: “فى الماتريكس.. العقل ينفصل عن الجسد”؛ أليست هذه هى قصة مشاهد كل فيلم؟ يمنح عقله للمعروض على الشاشة، فيعيش الوهم تحت سحر طقس الفُرْجَة، وموهبة الصنعة، حتى يتحوَّل هذا الوهم إلى حقيقة لا يمل من تصديقها!
اسأل نفسك: لماذا يصرخ الكثيرون إذا ما هوى بطل الفيلم من شاهق، أو أصابته طلقة غادرة؟ الإجابة – كما جاءت على لسان “مورفيوس” –: “لأنهم لم يحرِّروا عقولهم بعد”؛ مُصرِّين على توحدهم مع البطل، متناسين وهميته هو وعالمه، لتصير الماتريكس / السينما هى اللعبة الأثيرة لدى جمهور الواقع المتردى الذى لا متعة فيه، التى حتى إن ورطتك فى مشاكل ما، فإنها ستهبك حلم الانتصار عليها، وأنت جالس فى كرسيك؛ تمامًا مثل “نيو” ورفاقه فى سفينتهم.
باختصار، إن الماتريكس هى لعبة الوهم التى نمارسها بإرادتنا كلما تفرغنا لمشاهدة فيلم، وقد بعنا أنفسنا لشاشة الزيف الملونة الواسعة، كى نتابع “نيو”، كل “نيو”، وهو يفلت من طلقات الرصاص كافة، أو يصاب بها ليحيا من جديد؛ وهو الأمر الذى يتكرّر كثيرًا فى أفلام الحركة الهوليوودية منذ التسعينيات، كأنها انقلبت إلى أجزاء من ملحمة حديثة، أبطالها يكرِّرون قصة المسيح الذى سيعود حيًا مهما حدث، والأمثلة بلا حصر: بطل The Crow أو الغراب (1994) يموت فى البداية، ثم يعود خارقًا، بطلة Alien³ أو الكائن الغريب – الجزء الثالث (1992) تموت فى نهايته، ثم تعود للحياة فى Alien: Resurrection أو الكائن الغريب: البعث (1997)، بطلة Catwoman أو المرأة القطة (2004) تموت فى البداية، ثم تعود للحياة أقوى مما كانت، ومؤخرًا، سوبرمان – شخصيًا – يموت فى Batman v Superman: Dawn of Justice أو باتمان يواجه سوبرمان: فجر العدالة (2016)، ثم يعود للحياة فى Justice League أو فريق العدالة (2017)!
تتسق عبارة الدعاية الخاصة بفيلم ماتريكس مع ذلك حينما تقول: “صدِّق ما لا يمكن تصديقه”؛ إنها مفتاح الإيمان بالسينما الخيالية، ومن ثم فكلنا أمام هذه الأفلام مسيح يعيش البطولة ويتحدى الموت، مُحقِّقًا ما قد يعجز عنه فى واقعه؛ ابتداء من السمات الإنسانية العادية كالشجاعة والنبل، وصولًا إلى غير العادية كالقدرات الخارقة وصنع المعجزات، والفكرة – فى الفيلم موضع الحديث – أن تصدق إمكانية توافر هذا فيك داخل الماتريكس، وخارجها، لأن القتال مستعر على الجبهتين؛ الخيالية، والواقعية كذلك، لذا لا تفرِّغ إنفعالاتك كلها كمشاهد فى العالم الأول، ثم تخرج للعالم الثانى كائنًا متبلدًا، ضد الفعل؛ فبهذا الشكل ستبتعد عن مساحة المُخلِّص المغوار “نيو” داخلك، وتستقر فى مساحة الخامل المسالم “توماس أندرسون”!
الحق أنه حين التفكر فى هذه القراءة، لن تملك سوى تذكر فيلم المخرج وودى ألن The Purple Rose of Cairo أو زهرة القاهرة القرمزية (1985)، حيث بطل فيلم سينمائى يهرب من الفيلم الذى كاد يأسره بعالمه المُعلَّب المحفوظ (ماتريكس)، مخترقًا شاشة دار العرض إلى خارجها (الواقع) كى يستمتع بمشاعر مختلفة، وتجارب جديدة، أو يحيلك هذا إلى فيلم المخرج چون ماكتيرنان Last Action Hero أو آخر أبطال الأكشن (1993)، حيث ضابط شرطة يحيا مظفرًا على الدوام، فى عالم مصطنع يقبع داخل فيلم أكشن (ماتريكس)، وكيف يقاسى مطاردة المجرمين بعد انتقاله إلى عالمنا (الواقع) الأقل مثالية، والأكثر إيلامًا. إنها تنويعات على المفارقة عينها، بين عالم السينما وعالم الحياة الفعلية، التى تؤكد فى مجملها زيف العالم الأول، ودور الوعى فى كشف حقيقته، وإرادة اختياره أو رفضه. لذا لا عجب أن الموزِّع المصرى اختار كلمة “المتمرد” عنوانًا تجاريًا لفيلم The Matrix حين إطلاقه فى دور عرضنا، فنحن بصدد تمرد على قيم الوهم، وبحث عن الحقيقة داخلنا وخارجنا.
وعليه عزيزى مشاهد هذه النوعية من السينما المبهرة، أنت لست إلا “آليس” التى تتبع الأرنب الأبيض بكامل إرادتها، لتقع، أو تتلذّذ بالوقوع، فى “بلاد العجائب” التى لا تنتهى عجائبها، ومن ضمنها هذا الفيلم، الذى يقدم – على غير أشباهه – رسالة خفية رائعة يجب ألا تتجاهلها؛ فهناك عالم مرعب، شبه متدمر، خارج الماتريكس يحتاج إلى بطل يصلحه، وكل ما حقّقه “نيو” من انتصارات كان مجرد تحضير لحرب أكبر فى ذلك العالم الأصلى، حتى يكتمل تحرير الجميع من أوهامهم، وأعدائهم. إنه العالم الذى توجد فيه الملاعق.. وأنت أيضًا. فهل ستتنضم إلى القلة المقاوِمة وسط أطلاله البائسة، أم ستبقى مع الأغلبية فى الماتريكس لذيذة الخداع؟!
…………………………………………
*نُشرت فى موقع عرب لايت – 17 مارس 2019.