إنساني.. إنساني جداً

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
إخراج: أسامة فوزي مشهد1 نهار في الخارج ميدان محطة حلوان في جانبٍ من سرفيس الميكروباص يجلس الأسطى "سعيد" على المقهى، أمامه كوب الشاي الأسود، ولفَّة ورق مفتوحة بها شقتان من الفول والطعمية، وقرنان من الفلفل المخلل، وقطعتان من الجزر واللفت المخلل أيضاً. تبدو اللفَّة وهي مفتوحة بوحشية على مربع المنضدة المعدنية وفي ضوء الشمس الصباحية صارخةً بألوانها الطبيعية، وكأنها لوحة ل"جوجان". يدخل من زاوية المقهى "محمود"، وهو طفل لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره، ملفوحاً بسمرة برونزية، يرتدي قميصاً مفتوحاً، تحته فانلة من الصوف الخفيف، وبنطلوناً من الجينز الرخيص، وحذاءً رياضياً، وفي جيبه الخلفي قصة من قصص الفتيان، تظهر حافتها رافعةً ذيل القميص قليلاً. يرفع الأسطى "سعيد" يده عالياً ببقايا شقة الفول الثالثة ل"محمود" وهو يقول بصوت مرتفع نسبياً، وبخليطٍ من الألفة والصرامة.

سعيد: أيواا

يتجه “محمود” بشبح ابتسامة اطمئنان لصوت وصورة الأسطى “سعيد”، وهو يرفع يده نصف ارتفاع، بنصف ثقة أمام صدره. وفي تلك الأثناء، وكالبرق الخاطف يقول سائق من منضدة منخفضة ملاصقة لمنضدة الأسطى “سعيد” المرتفعة، لمُحدِّثه وهو يميل عليه ويستند بكفيه على حافة المنضدة المُستخدَمَة للعبة الطاولة، لتأكيد الأداء، فيرتفع مرفقاه إلى الخلف، ويكاد يصدم مربع المنضدة المرتفع.

السائق: قالوه يا راجل يا كوووع

في الحال وبسرعة بديهة مرحة يمسك الأسطى “سعيد” مرفق زميله، أو بالأحرى يوقف اندفاع المرفق في الهواء.

سعيد: طب شوية كوعك

السائق: صباح الفل يا أسطى سعيد

يقوم الأسطى “سعيد” من مقعده وهو يمسك كوب الشاي الأسود بسبابته وإبهامه، ولكن من فوق الكوب، ويؤرجحه مع حركة يده بطريقة طبيعية، وكأنّ الكوب صُنِعَ ليُمسكَ به بتلك الطريقة الأكروباتية. يتقدم “محمود” ليجلس مكان الأسطى “سعيد” الذي يقول له مُشيراً إلى ورقة الفول والطعمية.

سعيد: أقعد إفطر

ثم يشير الأسطى “سعيد” سريعاً إلى عامل نصبة الشاي والقهوة ويقول بثقة وأريحية وكأنه في بيته، وبإصبع يده اليسرى الخالية من كوب الشاي وفوق رأس “محمود” يصنع الإشارة.

سعيد: شاي بحليب يا ابني

يلتفت الأسطى “سعيد” في دائرة الخطوات الضيقة إلى زميله السائق الذي كاد يصدم المنضدة المعدنية، ويقول له وهو يؤرجح كوب الشاي في اتجاهه ويُباعد بين ساقيه، فيبدو أكثر حِجْر البنطلون الساقط تحت كرشه.

سعيد: مش كشمْلوه يعني في الآخر

يستجيب السائق الزميل لكلمات الأسطى “سعيد” بحرارة، ويقوم من مقعده، وبخطوة واسعة رشيقة يدخل دائرة خطوات الأسطى “سعيد”، تاركاً مُحدِّثه بجفاء، ويقول بتأكيد أكثر، وبأداء مسرحي استعراضي، وبصوت مرتفع نسبياً، وهو يُقرِّب وجهه من وجه الأسطى “سعيد”، ويصنع أثناء قوله علامة إكس مُتقاطعة على وجهه بعد كلمة التأكيد الأولى، ويُزامن كلماته اللاحقة مع ذراعي العلامة المُتقاطعة، والإصبع الذي يصنعها على الوجه.

السائق: أيوااا.. وقاله وعندي استعداد لكده وكده

يبتسم الأسطى “سعيد”، ويعود بخطوة من دائرة خطواته الضيقة إلى “محمود” الذي يأكل شقة الطعمية بلياقة، ويعبث أثناء ذلك بقراءة ما تحت اللفت والجزر المخلل، ويميل رأسه مع الكلمات والصور المبتلة على ورقة الفول والطعمية. وبينما يضع صبي المقهى كوباً من الشاي بالحليب أمام “محمود” يقول الأسطى “سعيد”.

سعيد: ها يا محمود.. العربية بتحمِّل

محمود: أيوه يا أسطى

سعيد: أستوراد.. هه

محمود: أيوه أستوراد

قطع

 

مشهد2

نهار في الخارج

طريق الأتوستراد

الميكروباص على طريق الأتوستراد الجبلي، وعلى مقود العربة الأسطى “سعيد”، بجواره كرسي صغير شاغر، ثم الكرسي الكبير يشغله أحد الزبائن. يجلس “محمود” على عظْمة الشاسيه العرضيَّة وراء كابينة القيادة مُباشرة. تصل إلى “محمود” أجرة العربة من الزبائن تباعاً. ثلاثة زبائن أمامه مباشرة، ثم ثلاثة من بعدهم، وأخيراً ثلاثة في الخلفية. من بين أصابع يد “محمود” اليمنى ترتفع في الهواء طرفا عصى من النقود المبرومة جيداً مُلتفَّة حول إصبعه الأوسط كخاتمٍ وبينما يعمل الإصبع الأوسط مع أشقائه في العد والحساب دون عائق تتداخل ثلاثة مستويات مُتزامنة من الحوار في أذن “محمود”. في المقعد الأول أمام “محمود” سيدتان محجبتان.

السيدة الأولى: عشان تبقى تقول كويس آخد

ابن عمي واتغطى بكمي..

السيدة الثانية: إنتي شوفتيها قبل ما تسافر

السيدة الأولى: لأ…

السيدة الثانية: أنا بقيت طول القعدة خايفة

تسألني عليكي

السيدة الأولى: علي كان هناك

السيدة الثانية: لأ.. ما خادش أجازة الشهر ده..

بيقول الشغل كتير في الفندق 

السيدة الأولى: وهيه عاملة إيه

السيدة الثانية: يعني

السيدة الأولى: يعني إيه

السيدة الثانية: بصراحة كدة.. هيه عايزة تسيبه

بتقول ما بقتش قادرة..

وعلي كبر خلاص

السيدة الأولى: يعني كان علي هوه إللي حايشها

السيدة الثانية: أنا ما عرفش.. أهو ده كلامها

السيدة الأولى: ها تقعد في السفر كتير

السيدة الثانية: سنة.. وممكن سنتين

وفي المقعد الثاني يجلس رجلان في الأربعينيات عليهما سمات جديَّة مفرطة، يرتديان بذلتين سوداوين رسميتين ونظارتين سوداوين ولهما تسريحة شعر واحدة وكتفين مستويين في جلستهما المستقيمة، وتضفي النظارتان السوداوان عليهما تشابه الملامح.

الرجل الأول: أنا مش مصدق إنه هناك.. الدليل الوحيد

لو اعتبرنا إنه ينفع دليل.. نور الشباك المنور

ليل ونهار.. أنا بنفسي راقبت البيت تقريباً 24 ساعة

ما فيش حاجة.. النور بس

الرجل الثاني: ما جربتش تطلع 

الرجل الأول: إنت مجنون.. أطلع إزاي. عمر ما في حد

جرَّب يطلع هناك.. كل إللي الواحد يقدر عليه إنه

يراقب من بعيد.. لعل وعسى

الرجل الثاني: غريب

الرجل الأول: إيه إللي غريب

الرجل الثاني: ما فيش مرة النور بيقطع

الرجل الأول: آه.. هنخرف بقه.. إزاي يعني النور

يقطع.. وهوه النور لو قطع ده هيثبتلك

إنه هناك.. طب ما هوه ببساطة ممكن يطفي النور

الرجل الثاني: مش عارف.. حاجة تحير..

على العموم أنا لازم أراقب بنفسي

النهاردة اسمه إيه في الأيام.. آه الخميس

بعد بكرة السبت. ما عنديش شغل

ها روح وأشوف بنفسي

الرجل الأول: أنا من نحيتي ها شيل إيدي من

الموضوع ده.. ده عايز ناس فاضية

الرجل الثاني: أنا من نحيتي ها حاول مرة

وأنا وحظي

الرجل الأول: أدام حكِّمت الحظ..

قول يا رحمن يا رحيم في الموضوع

من أساسه

الرجل الثاني: ولو.. لازم أجرَّب لوحدي

مش يمكن في إنَّ نبقى مع بعض

دايماً

الرجل الأول: أيوه ده إجراء للسلامة

مش أكتر… الدنيا بتبقى ليل

ومحدش عارف ممكن يحصل إيه

الرجل الثاني: بس إنت قولت إنك

شفت البيت بالنهار

الرجل الأول: إنت ها تقفلي على الكلمة

الرجل الثاني: مش ها أقفلك ولا حاجة

ما هو كلامك

الرجل الأول: طيب روح إنت السبت..

بس على الأقل ابقى قولي حصل إيه

الرجل الثاني: وإنت كنت قولت لي

لمَّا كنت بتروح لوحدك

وفي المقعد الثالث في آخر العربة يجلس طالبان صغيران لم يتجاوزا العشرين.

الطالب الأول: كل هذا لا قيمة له.. ما

يُعَوَل عليه حقيقةً في أعمال دويستوفسكي

هو حركة شخصياته.. وحركة الشخصيات

تردنا لمرض دويستوفسكي.. والمرض لا يُستحب

الحديث عنه.. وكأنه ينتقص من عبقرية العجوز الروسي

الطالب الأول: باختين ينسب عبقرية دويستوفسكي

إلى روح الحوار والكرنفال

الطالب الأول: يتحدث أندرية جيد في محاضراته

عن مرض دويستوفسكي هكذا

ومع أنه مريض إلا أنه أخرج تلك الأعمال العظيمة

ومع أن العالم مليء بمرضى الصرع

إلا أن أحداً لم يتمثل تجربة المرض بهذا الشكل

الطالب الثاني: راسكولينكوف بعد كل الترتيبات

ينسى أثناء قتله للمرابية إغلاق الباب وراءه

فتدخل شقيقتها أثناء الجريمة فيقتلها هي الأخرى

مع أنه لم يدبر لقتلها

الطالب الأول: جريمة تفتقد المهارة بشكل

لا يُصدَّق.. وهذا هو ما يؤثر فينا

بحيث ينصب تعاطفنا كله مع راسكولينكوف

أثناء الحوارات الثلاثة المُتزامنة يكون صوت السيدتين أعلى من صوت الرجلين، وصوت الرجلين أعلى من صوت الطالبين، ويكون “محمود” قد أخرج من جيبه الخلفي قصة الفتيان ويقرأ فيها بينما يجلس الزبائن الثلاثة المكملون للمقاعد الثلاثة صامتين. ذهاب وعودة، وذهاب آخر وعودة أخرى، وصوت إسطوانة الديبرياج تأخذُ نفساً طويلاً مع ضغط البنزين من قدم الأسطى “سعيد” صارخةً بصوتٍ يوشك على الانفجار، ترتفع القدم عن الاكسراتير، فيهدأ صوت الإسطوانة ثم يرتفع من جديد مع ضغط البنزين. تتقافز بمرور الوقت عصاوات النقود المبرومة بين أصابع “محمود” وفي باطن يده وينساب مع الباب الجرار مخلياً الطريق لزبون برشاقة وتختلط الحوارات الثلاثة في أذنيه بترتيب آخر ومستويات أخرى من العلو والانخفاض وفي الخلفية صوت إسطوانة الديبرياج العنيد اللاهث.

قطع

 

مشهد3

ليل في الخارج

أمام حديقة أكتوبر

في طريق عودة الميكروباص من كورنيش النيل ينظر الأسطى “سعيد” في مرآة القيادة المستعْرَضَة إلى الزبون الوحيد في آخر العربة بينما “محمود” شبه نائم في أول مقعد خلف الأسطى “سعيد” مباشرة.

سعيد: الآخر يا أستاذ

الزبون: أيوه

يكلكس الأسطى “سعيد” لميكروباص يمرق بجواره. يقف الميكروباص الآخر بعد أمتار قليلة من ميكروباص الأسطى “سعيد” وهو يُحضِّن على رصيف الحديقة بحيث يُصبِح على خط استقامة ميكروباص الأسطى “سعيد”. يفتح الأسطى “سعيد” باب الميكروباص بتململٍ وتكاسلٍ مصطنع وهو يعتمد بشدة ويرمي ثقله على مفاصل الباب أثناء فتحه. يبدو بنطلونه الجينز ساقطاً بشدة عن كرشه. يرفع البنطلون قليلاً ويبتسم ويفرْجِح ساقيه وهو يتجه إلى سائق الميكروباص الآخر ثم يصنع تلك الإشارة، يُمرر سبابته وهي مفرودة مستقيمة ساحفة على جلد وجهه من فتحة أنفه من الخارج إلى الما لا نهاية بين حاجبيه، وهو يستنشق بصوت مسموع هذا الزبون المحشور في أعلى أنفه. يقول السائق الآخر ما بين النظر في مرآته والنظر إلى الأسطى “سعيد” وهو يبتسم.

السائق: هاتوه

يخرج الأسطى “سعيد” نصف الأجرة ويعطيها للسائق فبقول هذا وهو في مقعده على المقود بنصف الالتفاتة المِهَنيَّة المعتادة.

السائق: خلاص بقه

يصمم الأسطى “سعيد” فيأخذ منه السائق نصف الأجرة، وفي تلك الأثناء يكون زبون الأسطى “سعيد” قد أدرك مصيره فيتحرك من آخر العربة إلى الباب الجرار ويفتحه وفي عودة الأسطى “سعيد” للميكروباص يشير للزبون على الميكروباص الآخر وهو يقول.

سعيد: معلشي يا أستاذ هغسل

ينحشر زبون الأسطى “سعيد” وسط زبائن الميكروباص الآخر بينما يعتمد الأسطى “سعيد” على زجاج نافذة الميكروباص المفتوح ويهز “محمود” من كتفه بألفة خَشِنة وهو يقول.

سعيد: قوم يا محمود هنغسل..

يا لله يا حودة

يستجيب “محمود” بطاعة سريعة مُؤثرة وهو يفرك عينيه وتتزاحم أنفاسه بين أنفه وفمه بصوت مسموع بريء بينما ينظر الأسطى “سعيد” إلى نهر الأسفلت الأسود استعداداً للعبور فيمرق ميكروباص أمام فيطلق الأسطى “سعيد” صيحته الشهيرة عالية مرحة.

سعيد: أيوااا

يستجيب الميكروباص المارق بعد لحظات بكلكس بينما يتجه الأسطى “سعيد” لمقهى الرصيف المقابل.

قطع

 

مشهد4

ليل في الخارج

مقهى على الطريق

أمام حديقة أكتوبر

يملأ “محمود” الجردل المعدني بماء من حنفية بجوار نصبة المقهى من الداخل، ثم يضع على الماء من أسفل الحنفية كيساً كاملاً من مُنظف الغسيل “برسيل”. وعلى الأرضية هناك حذاؤه الرياضي بينما في قدميه شبشب بإصبعٍ وقد شمَّر بنطلونه الجينز إلى قرب ركبتيه. تنبعث من راديو خفي أغنية “أم كلثوم” “ذكريات”. يجلس الأسطى “سعيد” خارج المقهى وفي يده لاي الشيشة. يخرج “محمود” من المقهى وعلى كتفه فوطتان برتقاليتان وجردل الماء في يده وتعوم على سطح الماء فرشة بلاط. يعبر “محمود” فردتي الأسفلت الهادئتين في هذا الوقت من الليل، ليصل إلى الميكروباص أمام الحديقة. يأتي ضوء فوسفوري من خلفية الحديقة يظهر مقدمة الميكروباص اللامعة البرَّاقة التي أنجزها “محمود” مع الجردل الأول. مسَّاحات الميكروباص طائرة في الهواء راشقة فوطتين برتقاليتين معصورتين من الماء، وخلفهما لوح البرابريز شديد الامعان الصفاء يعكس أضواء الحديقة. في مرحلته الثانية يعمل “محمود” بفرشة البلاط على جنوطة العجلات المنتفخة ودائر العجلات الأسود ثم برابريز زجاج المؤخرة والاكسضام الخلفي وبين الحين الآخر يعصر فوطته البرتقالية بإحكام وينترها في الهواء بمهارة وقوة فتصنع كرابيج هوائية متتالية. يفتح “محمود” الباب الجرار ويبدأ بإخراج الدواسات الجلدية ويضعها على حافة الرصيف العالي استعداداً لمرشها بفرشة البلاط

ومن تحت دواسة في خلفية العربة يجد “محمود” حافظة جيب جلدية، فيلتقطها بدهشة وينظر بشكل لا شعوري من النافذة الجانبية في اتجاه المقهى ناحية الأسطى “سعيد” ثم يعود بنظرته إلى الحافظة الجلدية. يميل “محمود” داخل العربة ويضع الحافظة الجلدية على قصته للفتيان الموضوعة على التابلوه الأمامي ثم يكمل مرش الدواسات على حافة الرصيف شارداً ناظراً بين الحين والآخر إلى اتجاه التابلوه الأمامي بما أن وضعه عند حافة الرصيف خلف الميكروباص.

قطع

 

مشهد5

ليل في الخارج

مقهى على الطريق

يضع “محمود” حافظة الجيب على مربَّع المنضدة المعدني أمام الأسطى “سعيد”، ويقول وهو يجلس إلى جواره وبينهما المنضدة ويداه مشغولتان بارتداء الحذاء الرياضي وإنزال تشميرة البنطلون الجينز على ساقيه.

محمود: لاقتها ورا في العربية

ينظر الأسطى “سعيد” ومبسم الشيشة في فمه إلى الحافظة الجلدية على المنضدة ويقول.

سعيد: خليها معاك.. ما تفتحهاش دلوقتي

في البيت كدة مع نفسك افتحها وقلب فيها

وشوف إنت عاوز تعمل فيها إيه..

عوز ترجعها.. عاوز تاخدها.. براحتك

يهم “محمود” بالكلام فيقاطعه الأسطى “سعيد” وكأنّ موضوع الحافظة الجلدية لا يستحق منه سوى الكلمات التي قالها وهو يخرج من جيبه ورقة نقدية بعشرين جنيهاً ويضعها على الحافظة الجلدية.

سعيد: يومية النهاردة وبكرة

محمود: أنا ممكن أنزل الشغل بكرة

سعيد: لأ ريَّح بكرة.. إنت مش عندك مدرسة السبت

محمود: آه

سعيد: خلاص ريَّح بكرة.. آه كمان في حاجة

بالمرة أقولهالك.. هيّه مش وقتها. بس عشان

تبقى عارف.. إنتَ كبرت يا حودة على

العربية ورجليك بتبقى مزنوقة في القعدة

بتاعتك.. وبعد الكام شهر بتوع المدرسة

هتكبر أكتر..

يأخذ “محمود” الحافظة الجلدية ويضعها في جيبه الخلفي وهو يفكر في كلمات الأسطى “سعيد” الذي يلاحظ وقع اليأس وخيبة الأمل على وجه “محمود” فيقول وهو يمسك رأس “محمود” ويهزه بعنف حميم.

سعيد: ما تخافش ياد.. ها شفلك حاجة تانية..

حاجة أحلى كمان.. أنا عارف إني المدرسة

مهمة عندك. وإلا كنت خليتك تتعلم السواقة

وتنزل على الميكروباص التاني.. عارف أبو

حسين بتاع الدهب..

محمود: أيوه يا أسطى

سعيد: ممكن تقف عنده في المحل.. شغلانة سهلة

ونضيفة.. وهتحصلك حوالي400 جنيه في الشهر

هيَّه بس عايزة أمانة وأنا متهيألي إن الأمانة وارمة

عندك..

ينقر الأسطى “سعيد” بحركةٍ خاطفة رأس “محمود” نقرةً عابرة للمنضدة، بطرف مبسم الشيشة النحاسي، فيفرك “محمود” مكان نقرة المبسم النحاسي وهو يبتسم.

سعيد: صح يا حودة

محمود: صح يا أسطى

قطع

 

 

مشهد6

ليل في الخارج

شارع جانبي يفضي للمحطة

محطة حلوان

يمشي “محمود” في شارع جانبي مظلم وهنا تبدو سطوة الليل المتأخر في الهدوء المخيم على البيوت وأنصاف نوافذها المفتوحة والأضواء الخافتة المنبعثة من مداخلها، وهنا أيضاً تبدو خطوات “محمود” الواثقة وكأنه رجل كبير يمشي في شارع مظلم. يدخل “محمود” بعد لحظات محطة حلوان التي يغلب عليها في ذلك الوقت روح التشطيب والهدوء النسبي، في سرفيس الميكروباص، ومحلات الطعام الكثيرة والمقاهي. أمام محل الكباب يكسح عامل الأرضية مياهً قذرة من داخل المحل إلى الرصيف الخارجي بينما يقوم آخر بتفريغ جراب الدولاب الغازي الخاص بتحمير الدجاج. يتجه “محمود” إلى دولاب الدجاج ويرمي على “سيد” الذي يقبع

أمام عمليته الجراحية الدقيقة، “أيواا” الكلمة السحرية التي تعني الكثير، مُقلداً الأسطى “سعيد”.

محمود: أيواا

سيد: محمود

يُخرج “سيد” بحرص شديد زاوية الجراب المليئة ببهريز دَسِم يقطر من الدجاجات المصفوفة في الدولاب الغازي، ولأن عمق الجراب أسفل الدجاجات قليل قياساً لسطحه الكبير. يُميل “سيد” زاوية الجراب تحت جردل بلاستيكي، فيتدفق الدَسَم سميكاً بطيئاً في قاع الجردل، وشيئاً فشيئاً يُخرج “سيد” الجراب من بعد زاويته بقليل، والجراب يستجيب بمزيدٍ من الدفْق الدَسِم

ينظر “سيد” إلى “محمود” ويقول.

سيد: هملالك التنك حالاً

يتوقف دفْق الجراب وهذا معناه إخراجه أكثر قليلاً من بيته تحت الدجاج. يقوم “سيد” ويأتي من داخل المحل بحقيبتين بلاستيكيتين مُعَضْعَضتين، واحدة كانت في الأصل حقيبة أحذية لها سُمْك أكثر من الأخرى السوداء الشائعة المُستخْدَمَة كثيراً كحقيبة قمامة. يضع الواحدة داخل الأخرى، في الداخل حقيبة الأحذية، ومن الخارج حقيبة القمامة وهو يوسِّع بيده بطن الحقيبة البلاستيكية المُتَغضن وذلك بضرباتٍ عارفة سريعة من ظهر يده لعمق الحقيبة التي تنتفخ بالهواء، ثم يضعها بين ساقيه ويسكب فيها من جردل البهريز ببطء، ثم يعقد طرفي الحقيبة الداخلية عقدتين متتاليتين، وكذلك الحقيبة الخارجية، ويحملهما معاً مُختبراً توزيع الثقل على الحقيبتين، ثم يدخل “محمود” بيده مكان أصابع “سيد” ويُحكم قبضته.

قطع

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم