نهلة كرم
لو أننا نجلس سويًا الآن، وقلت لك إنك كاتبي المفضل لكنت نظرت الجهة الأخرى مخفيًا ابتسامة خجولة، وتحدثت في أي موضوع آخر، لم تكن تخجل من الإطراء فقط، لكنك كنت تتعامل معي بمنطق الأب الذي يريد لابنته أن تقرأ كل شيء وتنفتح على العالم، لكنك كنت بابي على العالم.
كنت قبل “تغريدة البجعة” أحب قراءة الروايات ولا أتشجع أبدًا على الكتابة، لكن بمجرد أن قرأت أول فصل في روايتك، حتى قلت في نفسي: “أريد أن أكتب رواية”، السلاسة والبساطة وطريقة السهل الممتنع في كتابتك جعلتني أشعر أن بإمكاني كتابة مئة رواية وليست رواية واحدة، حينها لم أكن قابلتك، لكن روايتك حمستني لأنهي روايتي الأولى في ثلاثة أشهر، وحين سألت كيف أنشرها، اقترح أحد أصدقائي اسمك لأنك تساعد الشباب على النشر، وهكذا قادتني روايتك إلى الكتابة، وحين قررت النشر قادتني الصدفة إلى معلم سيبقى تأثيره عليً مدى الحياة.
ربما يكون هناك الكثير من الكتاب المفضلين الذين أثروا فيً، لكني يمكن اختصارهم جميعًا بك، فأنت من عرفني بمعظم من صاروا كتابي المفضلين فيما بعد، أتذكر ذلك اليوم الذي كنت أشعر بالملل فيه وعدم جدوى الحياة، قلت لي ببساطة وبدون كلام كثير: “اقرئي إيزابيل الليندي”، وحينها فتحت لي الباب ثانية بعد “تغريدة البجعة” على البساطة والسحر، قرأت “بيت الأرواح”، كانت إيزابيل ملهمة جدًا، بعدها عدت لك بقصة، كنت تدلني على كتب ساحرة، وكنت أعود لك في كل مرة بقصة، لا زلت أتذكر طعم الشوكولاتة التي كنت تمنحها لي في كل مرة كانت تعجبك قصة، لازلت أتذكر ابتسامتك وسعادتك، وكذبك الأبيض: “لم أقرأها بعد”، ثم تخرج لي الشوكولاتة وتخبرني بأنها أعجبتك، وبأنك كنت تتمنى لو أنني ابنتك فعلاً، كنت تقول: “لم أنجب في حياتي، لكنكِ ابنتي، أنتِ من ستكملين الطريق بعدي”، على مدار سنوات تحولت علاقتنا من مجرد كاتب جعلتني روايته أرغب في كتابة رواية، إلى معلم في الحياة يدلني على الطريق، ولا يقول لي أبدًا “سيري به”، كنت تترك لي حرية الاختيار دومًا.
مكاوي، أريد أن أعترف لك بسر، بعد وفاتك بعام فقدت القدرة على النظر إلى الماضي، صارت بداخلي حالة إنكار غير طبيعية، يذكرك أحدهم فاتفادى الدخول في تفاصيل، لم أقصد والله، لكني كنت أشعر بالخجل منك، كنت مجمدة، لا أستطيع كتابة أي شيء جديد، كنت أشعر أني ابن فاسد أضاع ورث والده بعد وفاته، شعرت حقًا أني لم أستحق كل المجهود الذي بذلته من أجلي، كنت خائفة ومرتعشة، أحكي لأريج جمال ما أشعر به فتقول لي إن هذا الشعور طبيعي وسيذهب بمجرد أن أكتب، لكني كنت أشعر أن هناك شيئًا خاطئًا، كنت أخشى حتى النظر في صورنا معًا، لم أتصالح مع الأمر سوى من عدة أشهر فقط، حين كتبت نصًا جديدًا، لو كنت هنا لكنت أرسلته لك وانتظرت حتى تفتح هاتفك في الصباح، لأتصل بك وأسمع رأيك بعد أن تتناول على “زهرة البستان” إفطارك وقهوتك التي كنت أراقبك في كل مرة وأنت تصب عليها بعض الماء، حين كنت أسمع بجوارك أصواتًا كثيرة كنت أفهم أنك جالس مع أصدقائك، أو مع ضيوف من دول أخرى، كانت القهوة منزلك وطاولتك تتسع للجميع، كنت أفهم من الأصوات أن عليً الانتظار حتى يرحلون، وحينها تعاود الاتصال بي بعد أن تكون قرأت، وتخبرني أن لي شوكولاتة لديك، فأفهم أن النص أعجبك.
مكاوي، لا تتضايق مني أرجوك، أنت تعرف جيدًا أن بعد وفاة والدي، شكوت لك ذات يوم أن أختي تنشر كل لحظة على فيسبوك شيئًا عنه وتبكيني، أنت تعرف أن وسيلتي في العلاج هي الصمت ومحاولة الانشغال، لكن هذا لا يعني أني لا أتذكرك، بل على العكس فأنا أتمنى أن أتذكرك دون أن أبكي مثل الآن، ظننت أنني تعافيت، لكن يبدو أننا لن نتعافى أبدًا من الفقدان، فهناك عرج في قلبي تركه رحيلك، لا يراه سوى القريبون كلما جاءت سيرتك، لكني أتماسك مثلما كنت تطلب مني دائمًا، وأبدو قوية مثلما تمنيت، أنا قوية جدًا ولا أظهر أي عرج، ويكفي أن أقول لك بكل ثقة الآن وبعد أن عدت للكتابة، إرثك لم يذهب هدرًا والله، لكن التعافي كان يحتاج وقتًا، وأعرف أنك ستبتسم الآن وتسامحني ببساطة، مثلما علمتني يومًا أن كل شيء وكل كتابة جميلة لا تحتاج سوى البساطة..فلتسامحني ببساطة وخفة مثل روحك.