إدوار الخراط.. ثورة رجل واحد

إدوار الخراط.. ثورة رجل واحد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هل رحل إدوار الخراط؟ ألم يكن قد رحل فعلا؟! فمنذ أعوام انسحب هذا الصوت المجادل العنيد والمحارب من أن يكون أن طرفا محوريا لا في حركة الرواية المصرية فحسب، بل في التيار الأدبي بمجمله باعتبار الأدب رأس حربة للثقافة بعامة. لكن أي ثقافة؟

يا لها من صعوبة أن تؤرخ لرجل اختلط النجاح الشخصي في حياته ككاتب بترويض المجال الثقافي كله باتجاه رؤيته. يأتي إدوار الخراط على رأس قائمة كتاب ما بعد نكسة 67 الذين نقلوا معركة الفكر كله إلى الأدب. بدا يومها أن الخطابية الزاعقة للنظام الحاكم، وفي مقابلها صيحات الجماهير المنومة تمثل حالة فضائحية من الزيف، ومثلها كان الأدب والنقد الملتزم الزاعق الذي اعتبر نفسه مدافعا عن قضايا جماهيرية واضحة. بدت السياسة أمام الخراط، سواء في موقعها الفعلي أو اختزالها للأدب والثقافة في صورة نضال وطني أو صراع طبقي، تشويها لفكرة الواقع نفسه.

حينما كان يتحدث عن محفوظ (وهو الوجه المقابل له أو الذي أراد له أن يبدو كذلك) كان لا ينتقد فقط «واقعيته»، ولكن يتساءل: وما الذي نعنيه بالواقع أصلا؟ أليست التجربة الفردية واقعا، أليس الحلم والأسطورة واقعيين. صاحب «رامة والتنين»، وصاحب الخلفية اليسارية سابقا، ذهب إلى الحد الأقصى لا للجمهور.. نعم لثقافة نخبوية. سألته يوما هل يمكن أن تكون هناك ثقافة متقدمة في مجتمع متخلف: فأجاب بصوته المملوء: أكيد.

مثّل ذلك حلا لأجيال بدت محاولات التغيير الاجتماعي والسياسي أمامها مجرد أكذوبة، وأن الثورة لا بد أن تكون في الكتابة أولا. أن تكون الكتابة نفسها برهانا على الثورة، أو كما كان يرى بعض شعراء السبعينات، الذين دعمهم الخراط بشدة، ثورة بديلة.

تجربة الخراط مع مجلة «غاليري 68» كانت ردا ضمنيا، في إطار احتكار مؤسسي للدوريات والصحف، على «الشعبوية»: نحن موجودون.. ولكن هناك. في مجلة على النفقة الشخصية لكتاب نفضوا أبوة جيل قديم.

هذا بالطبع لم يمنع بعض النقاد أن يروا فيه مجرد برجوازي صغير طموح ومستعد عمليا لتقديم التنازلات. هكذا كان هجوم الناقد الراحل فاروق عبدالقادر على الخراط بسبب من عمله تحت قيادة وزير الثقافة الأسبق يوسف السباعي في منظمة تضامن الشعوب الافريقية والآسيوية في منظمة الكتاب الافريقيين والآسيويين، رابطا بين توجهه الثقافي وما اعتبره ارتباطا بالسلطة، وهو ما كان البعض يومها يعده عارا. لكن كيف كان على كاتب بين مجتمع أعطى ظهره للثقافة العالمية، وسلطة تريد أن تحتكر خطابه لمصلحتها أن يعيش. حكى إدوار الخراط عن كتابته رواية «أضلاع الصحراء» وكيف أنه يمر بمرحلة صعبة ماديا، فتقدم بها لمسابقة.

لا يعرف البعيدون عن القاهرة مقدار المزايدات القاتلة التي كانت تدفع الكاتب ليشكل حول نفسه حصنا ويصنع من حضوره الشخصي خطا دفاعيا منيعا، كيف يجب أن يعيش (وهو ما يعني أن يتواطأ قليلا) وأن يبقى، وهو ما يعني أن يفاجئ ويتحدى، ويخرج عن السياق ليعود إليه نجما، تدور حوله كواكبه.

كانت المقدمة التي كتبها إدوار الخراط في عدد من أعداد مجلة «الكرمل» خصص ملفا للسرد المصري حول ما أسماه إدوار بـ«الحساسية الجديدة» مثارا للجدل. كان إدوار يحاول اشتقاق مصطلحات «رائدة»، مثلا «الكتابة عبر النوعية». في جلسة ودية في منزل الشاعر الراحل عبدالعظيم ناجي كان الصديقان إدوار الخراط والروائي بدر الديب ضيفين. دار الحديث عن «الكتابة عبر النوعية» فبادر بدر الديب بهدوء «لكن يا إدوار إنت مش شايف إن كل كتابة عبر نوعية بالضرورة؟» وكأنه يشير إلى المصطلح المطاطي الذي يعني كل شيء وأي شيء.

لكن الجهد الخاص والفريد لإدوار الخراط في كتاباته الروائية والقصصية كان أقوى من الاعتراضات العابرة، على ما بدا أحيانا تهورا في التعبير، وكان في الواقع تهورا محسوبا جدا. اشتق إدوار الخراط لغة بديعة حسية تتباهى بمفرداتها من فصحى منحوتة بدقة، تتخللها عامية مصرية دون شعور بنتوء. كان في لغته الوصفية ما يذكر بـ«دي إتش لورانس» بإسباغ حيوية على طبيعة الأشياء المادية كأنها تعيش حياتها الخاصة الكاملة بملمسها وروائحها.

في كتاباته النقدية لم يتخل الخراط عن لغته المحتفية بالالتفات لذاتها وجمالياتها، والمكرسة كتابات تعتبر «اللغة» والاشتغال عليها مركز اهتمامها.

هذا القبطي، بدلا من الاندماج في النسيج الوطني فيحكي رواياته كمواطن (بعيدا عن الخلفية الدينية) وضع قبطيته في المقدمة ووقع بها أعماله، تدخل بسيرته الشخصية ليخلط بين التاريخ العام والخاص، ظهرت الأساطير والأيقونات وروائح الأعياد والأسماء القبطية. بنى إدوار الخراط من هذا العالم القبطي نموذجا لعالم أوسع لأشواق الرفد ومكابداته في البحث عن الحب والمعنى.

كانت الاسكندرية حاضرة أيضا، لا كهامش للمنبوذين من العاصمة كما فعل نجيب محفوظ في «السمان والخريف» أو «ميرامار» ولكن كوجود استثنائي على أعتاب الثقافات.

كان الخراط متابعا لكل حراك جديد في الرواية أو الشعر محييا أيضا تاريخ وتقاليد السريالية المصرية في أربعينات القرن الماضي. كان هذا يعني دعما لما يمكن تسميته «ثورة الهامش». لكن تحت وطأة هذا الهامش الذي صار هو نفسه تيارا سائدا واختزاليا قلت له يوما «لكن الهامش تحول إلى جمهورية» فقال بنبرة لا تعرف منها السؤال من التهكم «والله؟!». وكأنه كان يعرف أيضا شروط اللعبة وثمنها. رحم الله إدوار فاستعادته هي استعادة تاريخ كامل سيظل جزء منه حيا في أسئلتنا الراهنة.

مقالات من نفس القسم