حاوره: حسين عبد الرحيم
عن الفقد والدهشة وتلك السهام المضروبة بموهبة عفية، في مراحل الطفولة والصبا وشباب الأحلام في عهد عبد الناصر ومن بعده وقبله، من فترات ومراحل اجتماعية عاش فيها – اقترب ورأى ففرح وحزن وانفعل بالأحداث فعشق المكان والبشر فكانت المرأة والسفر والغربة التي أدت إلى سرد الغرابة والتغريب في متون قصصه ورواياته التي فاقت أربعة وثلاثين عملا ما بين الرواية والقصة وترجمات تحمل عناوين مغايرة تخص الوجود كله من بعد ذائقته.
في الإسكندرية كانت بدايات اشتباك الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد مع كل مفردات عوالم “الكوزموبوليتان”، عن المدينة والمدنية ورفقاء مسيرة الحياة والفن والأدب وتلك “الأيام الحلوة فقط” الذي صدر منذ أيام وبات العمل الذي يحمل رقم 37 في مسيرة المبدع الكبير إبراهيم عبد المجيد الحاصل على جوائز عديدة عالمية وعربية مصرية كجائزة “نجيب محفوظ عن رواية “البلدة الاخرى” ومن قبلها جائزة “أهم روايات القرن العشرين” من أهم المواقع الأدبية الـمريكية عن رواية “لا أحد ينام في الإسكندرية” فجائزة الدولة للتفوق فالتقديرية فجائزة “ساويرس” عن روايته “في كل أسبوع يوم جمعة” فجائزة الشيخ زايد.
الكاتب إبراهيم عبد المجيد الذي ترجمت أعماله للغات شتى منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والروسية والألمانية وحولت رواياته وقصصه لأعمال درامية سينمائية لاقت الكثير واللافت من النجاح، نلتقي معه في هذا الحوار
سألته بداية: بعد صدور عنوانك السابع والثلاثين “أيامي الحلوة فقط”، والذي رصدت فيه بالكثير من تناقضات وعصف وتسلط الكاتب في موقع السلطوي المستبد على المبدع، ماهو موقفك أو رؤيتك للواقع الثقافي المصري في الآني والمستقبلي ؟
* الحقيقة هذا جزء لا يساوي 2000 كلمة في الكتاب الذي يصل إلي أكثر من 55000 كلمة، ورغم أني كتبت في نهاية الكتاب أرجو أن لا يشغل الصحفيون بهذا عما في الكتاب من ضحك وأيام حلوة، لكن يبدو أني ساواجه كثيرا من الاسئلة حوله. علي أي حال نحن في دولة مركزية منذ 1952 بمعني أن كل شيء أصبح رهن الحكم. وزارة الثقافة أقيمت لتكون هي مركز الثقافة والمجتمع الأهلي تواري كثيرا جدا. ورغم أن الصادارت الثقافية ليس ضروريا أن يغلب عليها السياسة إلا أن البعض وجد أنه كي يتصدر المشهد فليكن قريبا من صناع القرار. مثل هؤلاء لايتركون مساحة كبيرة لغيرهم من الموهوبين بسهولة. ورغم أن العالم واسعا للنشر داخل وخارج البلاد لكن تظل القنوات الرسمية للثقافة مجلات أو صحف مهمة جدا، وخاصة للكاتب في سنواته الأولي لذلك كانت الحروب بشعة وإن لم أدخل في تفاصيلها. الموضوع الآن اختلف فالعالم صار أكثر اتساعا بالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الثقافية المختلفة بل ويستطيع الكاتب إذا أراد أن يصنع له موقعا وصفحة لأعماله وهكذا فالأمر أفضل كثيرا. وسيصبح أفضل فيما بعد بالطبع.
ـ كان لكل من الشاعر محمد كشيك والقاص سعيد الكفراوي مكانة متفردة في سرودك عن “الأيام الحلوة” فكيف تراهما بما يمثلان من قيمة إبداعية بعيدا عما ذكرت في مؤلفك العميق؟
* سعيد الكفراوي ككاتب للقصة القصيرة محور هام بين كتاب القصة القصيرة المصرية. هو ممن أطلق عليهم جيل السبعينات في عملية قصد بها أن يظل جيل الستينات داخل السور وحده، بينما الحقيقة أن كل كتاب السبعينات سعيد الكفرواي وعبده جبير ومحمد المنسي قنديل ومحمود الورداني ومحمد المخزنجي وأنا وغيرنا أبناء هزيمة 1967، وكلنا بدأنا بالقصة القصيرة لأنها كانت هي المتصدرة للمشهد في الستينات ونهايتها. كل منهم أخذ طريقه في القصة القصيرة بشكل مختلف في موضوعاته، وكل منهم وهذا هو المهم جدا كان يبني أبنية جديدة في الصياغة واللغة وهو نفس ماقاله الستينيون عن أنفسهم. سعيد غاص فيما وراء الحياة العادية من موت وميلاد وشخوص عابرة تترك وراءها فراغا مذهلا رغم أنها شخوص عادية وفي قصصه الغرائب التي تحدثوا عنها أنها واقعية سحرية قبل أن يعرفها أحد في مصر. بعضنا انتقل إلي الرواية ليس لأنه زمن الرواية لكن المجتمع انتقل نقلة كبيرة إلي الحكي مع التغيرات الكبري في الحياة بعد حرب اكتوبر، أنا والمنسي قنديل وعبده جبير ومحمود الورداني بينما ظل سعيد مخلصا لمعماره في القصة القصيرة تماما كما فعل محمد المخزنجي. لذلك سعيد قيمة فنية كبيرة. الأمر نفسه بالنسبة إلي محمد كشيك. هو شاعر عامية لكن موهبته رقيقة جدا فكتب شعرا رائعا للأطفال كما أنه كتب نقدا ودراسات هامة لكتاب وشعراء كبار. محمد كشيك نموذج للكاتب متعدد المواهب وهذا نمط سائد في العالم لكن عندنا يحبون أن يربطوا بين الكاتب وفن واحد لكن عادة في الدنيا كلها تتجلي الموهبة في أكثر من مجال. لكن لتعدد تجليات موهبة كشيك لم يجد من يستطيع أن يبحث المشترك بين هذه التجليات للموهبة. فضلا عن أنه أيضا رغم توليه مناصب ثقافية هامة لم يستغلها لنفسه أبدا بل فتحها للجميع من كل الأجيال. أي أنه أراد للثقافة بمعناها الواسع أن تتجلي فيما يتولاه من عمل. سواء في إدارة النشر بالثقافة الجماهيرية أو برئاسته تحرير مجلة الثقافة الجديدة بالثقافة الجماهيرية أيضا وهذا أمر نادر يدل علي روح صافية جميلة.
ـ عن مساوئ التربص والتهميش والنفي الآتي من بعض أسماء جيل الستينيات في الكتابة وهؤلاء الذين تعمدت ألا تذكرهم في كتابك، لماذا كان التعمد في عدم ذكر تفاصيل ما تسببوا فيه من مواقف وحوادث كنت لا تقابلها بسخرية بل بالعمل.
* كما كتبت في الكتاب. في الإسكندرية في سنوات الشباب الأولي كانت البراءة حولي في كل من قابلت. كنا جميعا، مصطفي نصر وسعيد سالم ورجب سعد السيد وغيرنا نبحث عن منفذ في القاهرة العاصمة المركزية التي لا تبالي بمن هو خارجها. حين أتيت القاهرة دخلت وسط المعمعة. وجدت صراعا خفيا وظاهرا بين الكتاب، أسوأه حين يمارسه كاتب متنفذ في مكان ثقافي ما فوجدت أن من يتوقف عند ذلك سيضيع عمره هباء ورفعت لنفسي شعار العالم واسع فسيح الأرجاء رغم أنه لم يكن واسعا كما هو الآن. لكن القاهرة أعطتني فرصة النشر في الخارج بسهولة وكان مقهي ريش مكانا يفد عليه كتاب عرب يديرون صحفا ومجلات ويتابعوننا وهكذا صرت لا أعاتب أحدا علي ما يفعله أبدا فالكتابة هي الباقية. ربما أعاتبه علي موقف منه إزاء غيري أما أنا فلا. وكما كتبت يوما علي الفيسبوك كنت أعود آخذ “دشاً” في الحمام ومع الماء الساقط من فوق جسدي يسقط كل ما رأيته وسمعته في المجاري. وحددت حياتي ببيت نظيف حسن الإضاءة كما قال هيمنجواي وموسيقي أسمعها طول الليل وقراءة وكتابة، ومع التقدم في الوضع الأدبي أسند إليّ اكثر من منصب ثقافي لكني سرعان ما تركتها لغيري حتي لا يضيع انفرادي بجمال الابداع. صار عملي الرئيس هو أن أكتب قصة أو وراية وطبعا أقرأ كتبا عربية واجنبية وأشاهد المسرح والسينما ومعارض الفنون التشكيلية ليتسع العالم وتتسع الكتابة وقدراتي علي التعبير. اكتفيت بمتعة الكتابة عن أي متعة دنيوية وساعد عليها أني لم أسعي لجلب المال، فالقليل جدا يكفيني ويكفي بيتي المهم الستر لا الثروة. وهكذا أعطيت وقتي للابداع حتي أني رغم عمري الآن مندهش أن كتبي وصلت الي 37 كتابا بينها عشرون رواية وست مجموعات قصصية والبقية بين دراسات ومقالات وترجمة وطبعا لو نشرت بقية المقالات التي نشرتها وهي بالمئات لصارت ستين كتابا أو سبعين.
كيف ترى الأجيال الجديدة ابداعيا وإنساني خاصة وانت قاريء نهم لكافة المطروح او المنشور أدبياً؟
* الأجيال الجديد مثيرة ورائعة. صحيح أن الكثيرين تحولوا إلي الرواية بحيث بدا الأمر مربكا، لكن بينهم أسماء هامة جدا في الرواية والقصة وستتقدم أكثر وراينا بعضهم يفوز بجوائز مثل البوكر أو الشيخ زايد أو كتارا أو جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الامريكية أو جزائز الدولة أو جائزة ساويرس وتعرف أعمالهم الطريق إلى الترجمة مثلا. هذا طبيعي جدا وعلي أي كاتب عاقل أن يعرف أنه وجيله ليسوا آخر الأجيال. المهم أنني ادعو منذ وقت مبكر النقاد أن تجمع بينهم في دراسات عن المشترك بينهم في التجديد الأدبي وهذا حتي الآن لم يحدث بشكل يميزهم رغم أنهم متميزون عن غيرهم. معظم المقالات وهذا أيضا جميل عن أعمال منفردة. أتمني من النقاد وبالذات في الدراسات الجامعية أن يفعلوا ذلك. أقصد دراسة البناء في العمل الفني أكثر من المضمون. ما يميز الكتًّاب هو كيف يكتبون أكثر من ماذا يكتبون.
بعد أكثر من أربعة عقود في الواقع الثقافي والإبداعي، ماذا يتبقى للكاتب بعد أبداعه ؟
* أعجبتني من زمان مقولة لصنع الله ابراهيم حين سأله أحد عما يتوقعه بعد وفاته أطال الله في عمره فقال أنا لا يهمني إلا ما يحدث في حياتي. وطبعا يقصد متعة الكتابة ووجود القراء وهذا ما أقوله.
عن الوجود والملاذ والخلاص والنشوة في متن عناوينك الروائية، ماذا يتبقى من سلوى تعين الكاتب أو المبدع على التفاؤل والإستمرار في تطوير أدواته في التجلي بمفاهيم الجمال والفن أو العدل والحرية ؟
* كما قلت لك متعة الكتابة تسري معي خاصة وأنا في كل رواية أغامر في موضوع جديد وأبني بناء مختلفا هو ابن مكان وزمان الرواية وطبيعة شخصياتها ولغاتهم ومشاعرهم. فالصدق الفني هو أن تكتب الرواية بلغات متعددة توافق تعدد شخصياتها. تجعلهم يظهرون في مواقف أكثر مما تحكي عنهم. لا تقدم لهم مقدمات طويلة تبرر أو تفسر أعمالهم لكن تأتي بعمل لهم يفسر آراءهم ومشاعرهم. هذه هي السلوي العملية وبعدها يأتي القراء الأحباء أكثر من أي شيء، والحمد لله لا يزالون ويزدادون. لي روايات طبعت طبعات كثيرة جدا ورغم أني ضد تزوير الكتب لكنها تزور بشكل واسع للاسف كما نشرت أعمالا منها عند أكثر من ناشر والكل يبيع منها ولا يشعر بالضيق لنشرها في مكان آخر.هذا هو الجمال. أما العدل والحرية فستظل مهما تقدم العالم ناقصة ومن ثم يبني الكاتب عوالمَ جديدة. أفلاطون حين كتب المدينة الفاضلة أو جمهوريته منع دخول الشعراء إليها ولم يكن وقتها قصة قصيرة ولا رواية. كانت الملاحم والمسرحيات تكتب شعرا. لماذا منعهم أفلاطون؟ لأنهم لن تعجبهم المدينة الفاضلة وسيتشوقون لمدينة أفضل.
عن الاسكندرية التليدة والمفجعة والحلم والهوى والطفولة والتي شكلت غالبية هواجسك في دوافع الكتابة عن الحب والموت والحياة، ماذا تبقى من سكندرية الكاتب ابراهيم عبد المجي ؟
* كل سنة وانت طيب. لم يتبق إلا الذكريات. حتي الأصدقاء رحل الكثيرون منهم. لم يتبق منها لي غير شخصيات رواياتي. لا المكان ظل علي حاله ولا الناس. ولا تقلب علي المواجع ياجميل.
المتابع بدقة لعلاقتك بالمدن، وحتى بعيدا عن الإسكندرية يفزعه مسائل التوديع لكل الأمكنة وسيولة الزمن فيما يخص ترحالاتك وموقفك حتى الوجودى من مفهوم المدينة، فهل هناك المدينة الحلم التي لم تستوعب طموحات وجنوحات الكاتب عبد المجيد، أم أن حلمك يمثل يوتوبيا ليس لها وجود في الواقع، حدثنا في هذا الإطار؟
* جانب أكبر هو البحث عن يوتيوبيا. حتي رواية قصيرة مثل “قناديل البحر” تري فيها البطل وقد زار أكثر من مدينة في الشرق والغرب تقلبت ولم تعد تمثل حلما مستمرا. الحقيقة أن التشوهات التي تحدث للمدن معماريا وثقافيا هي سبب البحث عن يوتوبيا. في “الإسكندرية في غيمة” مثلا حين تضيع قصة حب “نادر” مع “يارا” وهو يري المدينة تتغير معالمها كل يوم إلي الأسوأ، يقول في الفصل الأخير الذي جعلته شعرا منثورا له فهو شاعر في الرواية، يقول أكثر من مقطع يوضح ذلك في صور شعرية حزينة منها مثلا “قال لي لماذا لا تترك الشاطئ، لقد حل المساء ؟ قلت له هذه السفن البعيدة لا تكف عن الرحيل” أو مثلا “قال لي يرحل الناس وتبقي المدن. قلت له ماذا يبقي للناس إذا رحلت المدن؟” وهكذا. المدن المفتوحة علي الفضاء التي ينعم أهلها بالحرية تحملك إلي الفضاء بينما العكس توقظ فيك المآساة. هناك أسطورة ظريفة تقول إنه حين قرر الإسكندر الأكبر بناء الاسكندرية طلب من المهندس دينوقراطيس الذي كان مشهورا بلقب البارع في الهندسة أن يرسم له المدينة علي الأرض بالحجر الجيري. لم يجدوا حجرا جيريا قريبا منهم فرسمها له دينوقراطيس بالحبوب فأقبلت الطيور من السماء أكلتها. تشاءم الإسكندر لكن قيل له لا تحزن يامولاي هذه المدينة ستكون لكل البشر من العالم. ولقد حدث. عصر كامل امتد ستة أو سبعة قرون كان يسمي العصر السكندري امتزجت فيه الثقافة اليونانية والرومانية فيما بعد بثقافة الإسكندرية التي كانت بها المكتبة والعلماء والجامعة التي كانت تسمي بالموسيون علي اسم الموسيات ربات الفنون. لكن بعد ذلك ومنذ الخمسينات بدأ خروج الاجانب ورفع شعار القومية العربية فتمت معاداتهم بلا تمييز ثم حدث التأميم وفي السبعينات هبط عليها الجراد في شكل الأفكار الوهابية والسلفية مع الفساد في التخطيط والعمران فامتلأت بالعشوائيات إلخ ما هو معروف. المدينة التي كانت ثقافتها وأزياؤها وسلوك أهلها من البحر المتوسط وحضارته قائمة علي الحرية والاختلاف صارت ثقافتها من الصحراء. والمضحك أن أهل الصحراء في الجزيرة العربية الآن يتخلصون من ثقافة الصحراء وعينهم علي أوربا بينما نحن محلك سر.
في غالبية رؤاك الكتابية وفي أعمالك الإبداعية هناك تعظيم من علاقة السينما والموسيقى بفن الكتابة فماذا مثلت لك تلك الثقافة البصرية والسمعية مع مشوارك مع الإبداع ؟
* أنا من الجيل الذي يؤمن بوحدة الفنون. الكتابة الأدبية حقا لغة لكنها تنزع إلي تقديم صورة أكثر منها حديثا مباشرا. والصورة تجدها في السينما وتتابع أو تناقض المشاهد كما تجدها في لوحة صغيرة لكنها تعبر عن الكثير جدا بمادة رسمها وطريقة الفنان في استخدامها وعمق المشهد سواء كان وجها – بورتريه – أو جسدا كاملا أو حتي خطوطا تجريدية وألوانا متوازية أو متصارعة أو مقبلة في مودة علي بعضها. كذلك المسرح في حركة الشخوص ودراما المشاهد وهكذا. السينما والفن التشكيلي هما أكثر ما أثر عليّ والموسيقي حققت لي الرغبة أن أبني بناء سحريا للرواية أختلف فيه عن غيري. أما الشعر وهو حبي الكبير أيضا فتعلمت منه أن شعرية الرواية تأتي من بنائها وليس من البلاغة التقليدية في اللغة. طموحي للقارئ أن يري كما يسمع.
بعد سبعة وثلاثين عملا ابداعيا مابين الرواية والقصة والترجمة والدراسات والمقالات، كيف ترى الرحلة والوجود من حولك وماذا تقول للأجيال الجديدة في الكتابة ؟
* راضٍ بالرحلة فلقد استمتعت بما يكفي العالم حتي بالألم في الكتابة. أما الأجيال الجديدة فأقول لهم العالم واسع فسيح الأرجاء ولا شيء جيد يضيع في الفضاء وأسوأ شيء للكاتب هو تعجل الشهرة. الشهرة تأتي من الأعمال وفيها تداخلات كثيرة علي رأسها الحركة النقدية ولا تثقوا كثيرا بالميديا فتنشرون أجزاء من أعمالكم تطلبون رأي القراء فيها. العمل أشبه بالتعبد في المحراب لا يشارك الكاتب فيه أحد. ما أراه من هذا النوع أشبه بتسليع الأدب فيخلو من روح كاتبه. العمل يصبح سلعة حقا بعد انتهاء كتابته في المعبد الخاص ونشره. بعد انتهاء الصلاة إذا جاز التعبير.
بعد انتشار فيرس “كورونا” ليتك تحدثنا عن مؤثرات الأوبئة على فكر وعوالم وأشكال الكتابة، خاصة وأنك قد استشرفت هذه الوقائع في روايتيك السايكلوب والعابرة.
* الوباء ليس ضروريا أن يكون فيروسا. الوباء هو مايحل بالعالم من تغيرات تقتل ساكنيه في حروب لا معني لها أو سجون أو معتقلات أو فوضي وعشوائية في السلوك والبنيان. لذلك تجد في كثير من رواياتي رؤي أحزن لتحققها، هي في الأصل خوف مما يأتي. يعتبرها الكتاب نبوءات ويفرحون وأنا لن أحكي لك عما قلته في أكثر من رواية حتي قبل العابرة والسايكلوب ودائما أقول إنه ابن الاحساس بالغموض القادم أو المحيط بالأبطال. هذه نقطة. الثانية أري الكثيرين يتحدثون عن كتابات عن الكورونا يكتبونها. جميل لكن ماذا لو كتب كاتب عن شيء آخر ولم يبال بالكورونا؟ هل يكون خارج السياق؟ طبعا لا. الموضوعات تأتي إليك فلا تذهب إليها مسرعا لأنها ستكون متكلفة في الغالب. يمكن أن تعرف بإصابة الكثيرين بالكورونا ولا تكتب ويمكن للصدفة أن تضعك أمام شخص واحد فتجده مادة أدبية عظيمة. المسألة نسبية. والحمد لله أنها لم تصل في بلادنا إلي حد الوباء الذي يموت فيه الناس في الطرقات. يمكن لشخص لا يغادر البيت ويجلس في الشرفة يعزف لا يسمعه أحد أن يكون قصة جميلة. مثلا. للعزلة تجليات كثيرة كما للوباء.
عن يارا بطلتك الأثيرة في “الإسكندرية في غيمة” ليتك تحدثنا عن مكانة المرأة في حياتك وإلى أى مدي كان تأثير الحب والفقد في حياة الكاتب والمبدع إبراهيم عبد المجيد تحديدا ؟
* انا ابن حي كرموز في الإسكندرية وهو حي كان فيه كثير من الفقراء أو البسطاء، عشت وترعرعت كما يقولون في أحياء شعبية كنت أري فيها أكثر الفتيات والنساء مقهورات من الرجال. تري ذلك مجسدا جدا في رواية مثل “طيور العنبر”. من هنا بدأ ميلي إلى تقدير المرأة. من ناحية أخري الحب حياة والفقد إيقاظ للحب الضائع. حتي لو كان في الفقد غُبنا وظلما لي فعند الكتابة، الفن لايعرف الانتقام. الفن غفران. فمابالك حين يكون الفقد بعد حب حقيقي أو حياة حقيقة ورفقة عظيمة. هنا يتجسد الحب في كل سطور الرواية رغم حزن الفقد. كما أن روايات مثل “أنا كارنينا” أو “مدام بوفاري “أضافت لي حبا للمرأة كبيرا جدا أو ثلاثية نجيب محفوظ التي جعل فيها عائشة التي مات زوجها واولادها تجسيدا للعذاب الأبدي. وأفلام مثل ” صانعة الدانتيلا” لإيزابيل أوبير، و”روعة علي العشب” لنتالي وود ووارن بيتي أو “حتي ذهب مع الريح” وغيرها جعلت للمرأة مكانة روحية عظيمة عندي. الذي يكتب الحب في رأيي أفضل هو من عرفه وضاع منه.