العجيب أنك يمكنك بأريحية شديدة التمييز بين أدباء الصعيد سواء القاطنين منهم حتى موعد الكتابة في بلاد الجنوب، أو من نزحوا إلى العاصمة، ليتنفسوا مرغمين نسيم العواصم ذو النكهة الخاصة.
فالتعبيرات شديدة الوطأة، والاختلاف عن السائد، وحمل قضايا الوطن على كاهل القصيدة أو القصة أو الرواية، هو المشترك الأكبر بين أدباء الجنوب، بل والسخونة التي تكاد تتلمسها بين حروف الكاتب، ووهج المعنى أيضاً، الذي قد يكون مسرفاً ــ بعض الأحيان ــ في المباشرة، هو شريك هؤلاء الكتاب.
ولا يمكن أن نستحضر هذا المشهد الأدبي شديد الخصوصية، دون أن يمر بذاكرتنا أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، ويحيى الطاهر عبد الله. وهم على اختلاف أسليبهم في الكتابة، شعراً فصيحاً كان أم قصة أم شعراً عامياً، إلا أن القاسم المشترك بينهم هو هذا الحرف القادم لتوه من كوة نار أشعلتها مقادير الأوطان وأوجاعها.
غائبون عن المشهد.. متصدون للواقع
ثلاثة أسماء استشهدت بها في متن هذا المقال، ولكن الصعيد ــ يا سادة ــ عامرٌ بأسماء أخرى، من المبدعين لا يتذكرهم قاموس الأدباء إلا لماما، فالصعيد البعيد، يعيش أدباؤه في عزلةٍ، رشحتها لهم الكيلومترات التي تبعدهم عن القاهرة، لكن بعدهم عن أضواء المدينة التي تغازل الأنظار، واكتفائهم بمصابيح باهتة لا تكاد تضيء أوراقهم التي يكتبون عليها، لم تفت في عضدهم، بل استمروا يكتبون ، وينشدون أشعارهم وقصصهم ورواياتهم في منتدياتهم البسيطة، يتناقشون في القضايا الأدبية بذات السخونة التي يكتبون بها، وهم يرتشفون الشاي “الصعيدي الثقيل”، الذي تماهى مع ثقل حياتهم وشدة وطأتها.
كنت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي أدرس في جامعة أسيوط، وأعيش معظم وقتي في قصر الثقافة، لكن قلبي كان مع كتاب هذا الإقليم “المغضوب عليه” من الدولة، وعيني كانت على القاهرة، فامتلكت الحسنيين.
أكتب بذات الحميمية التي منحنا إياها الجنوب، وأسبر أغوار الكتابة الجديدة، كأهل العاصمة. هكذا كنت وأقراني في ذاك الوقت، لكنني حينما أرنو إلى نفسي البعيدة، أستذكر كل ما مضى، وأتمنى لو أنني ظللت هناك، حيث نقاء الكتابة، وبعدها عن ضجيج العواصم الملوث.
نحن أهل الصعيد، نمتلك أمهات بسطاء، يستخرجن لنا الرغيف من قلب “الفرن البلدي” طازجاً ساخناً، ولنا آباءٌ لم يسيروا بعد على إسفلت تم رصفه على عجل من أجل زيارة حكومية، وأرجلهم لا تزال تزهو بتراب الحقول.
نحن فقط من لعبوا صغاراً في ساحات مفتوحة تتوسط المنازل، وفروا إلى جداتهم هاربين من عصا الآباء الغليظة. إننا النائمون على أسرة خشبية جافة، واللاعبون بأحجار عصية، والمتشحون بحرارة الصيف القائظ الذي ترك آثاره على جلودنا.
نحن أيضاً من أحبوا لأول مرة فتيات يحملن على رؤسهن مياه الشرب، ويقفن متباهيات بجلابيب مزخرفة، وينظرن لنا بتعفف ندرك معناه.
كل ما مضى جزء من ذاكرتنا التي ننهل منها أثناء الكتابة، نستحضره بابتسامة نادم على ترك هذا الإرث، لكي يدخل راضياً في ماكينات العاصمة التي تجفف الذهن من ذكرياته العتيقة، وتمنحه رأساً جديداً يسير به هائماً على وجهه في أزقتها.
وها أنا ذا أرى قطار الجنوب يمر من أمامي، يسير الهوينا، وأنا أجري خلفه بكل ما أوتيت من قوة، منادياً إياه بأعلى صوت: “أيها الجنوب.. خذني معك”.