مها حسن*
صورة الكاتب في كتابته.. تأسس الرمز أو الخيال
لم أكن أعرف شكل إيزابيل الليندي حين قرأت لها قبل أكثر من عشرين عامًا، وكذلك لم أكن قد رأيت شكل مكسيم غوركي حين فتنتني روايته “الأم”، وحين رأيت صورة سارتر بعد سنوات من تعلقي به وإدماني على قراءته في سنوات مبكرة من صباي، شعرت بالصدمة وبشيء يشبه التعرّض للخديعة، فرحت أبحث عن صور كامو، في الحقبة ذاتها، والذي كنتُ قد بدأت بقراءته بالموازاة مع سارتر، لكنني أحببتُه بدرجة أقل. تغيرت مشاعري صوب كامو حين رأيت صورته، وكأنني شعرت بالذنب صوب ذلك الرجل الوسيم، لأحبّه أكثر من سارتر، أو لأكن أكثر دقة، لأقول إنني وضعته في صفّ سارتر، بعد أن رأيت صورهما.
أما كولين ولسون، فقد رأيت صورته قبل الجميع، ربما لأن دار النشر التي طبعت روايته آنذاك، كانت تضع صور المؤلفين على الغلاف، وربما ساهمت تلك القراءة المصحوبة بالصورة، بخلق مفهوم قديم لدي، أن الكتّاب جميلون ووسيمون، دون منازع.
عشتُ مع الكُتّاب، من خلال كتبهم، قبل التعرف على وجوههم عبر الصور.
كان ماركس ولينين متاحين، بسبب المرجعية السياسية لهما، وتوفر صورهما، كما نجوم السينما، إذ كنت أضع صورة كبيرة لعبد الحليم حافظ في غرفتي.
من السهل جدًا التعرف على وجوه المغنين، فصورهم منتشرة لدى الباعة والأسواق، ومعروضة في الطرقات، ولكن من يأبه لصورة الكاتب؟
لم أكن حينها أقرأ الصحافة الورقية، بل تشكّل عالم القراءة لدي، كليًّا عبر الكتب، ربما كالكثير من أبناء وبنات جيلي، الذين كانوا يعتبرون المكتبة أجمل مكان في العالم.
بدأت باكتشاف القراءة عبر كتب العائلة والأصدقاء، أما رحلتي صوب اختيار القراءة، فقد انطلقت من المركز الثقافي العربي ودار الكتب الوطنية في مدينة حلب، حيث الكتاب هو مادة معرفية منفصلة تمامًا عن الكاتب.
هكذا تأسست العلاقة مع الكتاب وكاتبه، قبل أن يكون لهذا الكاتب شكل واضح في رأسي، فكتاب “هكذا تكلم زرادشت” الذي لطالما تطرقت إليه في الردود عن أسئلة القراءة وبداياتها لدي، كان من أوائل الكتب التي دخلت حياتي، وكان اسم نيتشه محببًا لدي ومألوفًا بشدة، بمعزل عن وجه نيتشه، الذي رأيته لاحقًا عبر الإنترنت، وشعرت بغرابة ما، وأنا أحاول أن أطبّق على هذا الوجه على اسم صاحبه: فريدريك نيتشه.
حاجة القارئ إلى الكاتب الرمز الذي يشبع الخيال
يوجّه سؤال: من هو الكاتب الذي أثر بك؟ إلى كل من القراء والكتّاب معًا. وتأتي أغلب هذه الإجابات، عن كتّاب قدماء، تفصل بينهم وبين المجيب سنوات، ومن النادر أن يكونا قد التقيا، أعني الكاتب الذي ترك الأثر والقارئ أو الكاتب الذي تأثر بالأول.
كما لو أن الأثر يتطلب المسافة، لأن المسافة هي الحلم، أي أن الأثر يشترط الحلم، أو الخيال.
أعتقد أن القارئ يعيد تشكيل الكتاب الذي يقرأه، عبر خياله، فيبني عالمًا موازيًا لذلك الذي صنعه الكاتب، وتتحرك شخوص أبطال الكاتب، في مساحة جديدة، يخلقها القارئ، وينسجها عبر الخيال.
تتحرك مدام بوفاري لفلوبير لدى عشرات أو مئات أو آلاف القراء، وتتوالد في نسخ متعددة، داخل خيال كل قارئ.
وكذلك الأمر بالنسبة لأبله ديستويفسكي أو “أنا كارنينا” لتولستوي، أو بقية الشخصيات الروائية التي صار لها وجودها القوي والمستقل عن صانعها.
لأن القارئ يتماهى أحيانًا مع أبطال الحكاية، كما يحدث للمشاهد في السينما، حين يتحول مشاهد مراهق إلى جاكي شان أو رامبو/ سيلفستر ستالون، بطريقة أكثر تعقيدًا، يتحول القارئ إلى أنطوان روكانتان/ الغثيان أو ميرسو/ الغريب..
وإلا ما الذي يدعونا، نحن المهووسين بقراءة الروايات، في سن مبكرة، قبل اكتشاف السينما وقبل أن تغزو الدراما بيوتنا، إلى التعلق بالقصص، وعدم ترك الكتاب قبل إنهائه.
المتعة التي كانت تتحقق لي، منذ صباي المبكر، وأنا أقرأ “وداعًا غوليساري”، أو “الشيخ والبحر”، أو “الصخب والعنف” في ليلة واحدة، أعلى بكثير من مشاهدة فيلم اليوم.. لأن قوة الخيال في القراءة أعلى منها لدى السينما.
ربما يشبه الأمر، ما يطلق عليه أورهان باموك وصف “قصص الآخرين”، إذ تجذبنا هذه القصص، لنصبح جزءًا منها، بمعنى آخر، يبحث القارئ عن قصته الشخصية في قصص الآخرين التي يرويها الكاتب.
بعد قراءة رواية “حارس حقل الشوفان” لسالنجر، كتبت عناية جابر رسالة إلكترونية إلى المؤلف وأرسلتها إلى عنوان بريدي ابتكرته؛ لم تتمكن من السيطرة على رغبتها في الكتابة له |
الصورة التي نسفت المسافة وحطمت الخيال
لأننا نحتاج إلى الخيال، فنحن نلاحق القراءة والكتابة والسينما وباقي الفنون، حيث نبحث عن خيالنا الذي يساعدنا الفن على نسجه، والقراءة هنا فن قائم بذاته: يحقق المعرفة والمتعة الذهنية ويخلق الخيال.
ولكن، هل خروج الكاتب من الورق، ومغادرته أرض خيال القارئ، ليستقل بصورته الخاصة به، عن خيال هذا القارئ، تهدد الكاتب؟
كانت الشاعرة والصحافية عناية جابر قد حدثتني يومًا أنها، بعد قراءة رواية “حارس حقل الشوفان” لـ ج. د. سالنجر، كتبت رسالة إلكترونية لسالنجر وأرسلتها إلى عنوان بريدي ابتكرته، وأنها لم تتمكن من السيطرة على رغبتها في الكتابة له، مسحورة بروايته.
كثير منا تعرف على أحمد عبد الجواد، في رواية “بين القصرين”، قبل أن يراها متجسدة في محمود مرسي، أو أحمد أفندي عاكف، قبل أن يجسد شخصيته الممثل عماد حمدي، وربما يحدث العكس، إذ لم أكن قد قرأت ديستويفسكي حين رأيت مسلسلًا مأخوذًا من الرواية قام الممثل محمود ياسين بأداء الدور، فارتبط شخص أبله ديستويفسكي دائمًا في خيالي، بوجه محمود ياسين.
ثمة إحباط نشعر به غالبًا، حين تسرق السينما خيالنا عن أشخاص الرواية في الأدب، فهل هذا يحدث بالنسبة للكاتب الذي يسرق خيالنا عنه، حين يصبح قريبًا منا، بل ومتاحًا كأي شخص من الأقارب أو العائلة؟
يتحدث روائي معروف في صفحته على “الفيسبوك”، كيف يتعرض للشتم من قبل القراء، ويستغرب من حصول هذا. وهذه حالة صارت رائجة، حين يهاجم القراء في وسائل التواصل كتّابًا مثل أليف شفق أو خالد الحسيني، بسبب مواقف هؤلاء من قضايا لا يتفق معها القارئ، بل وصل الجهل بإحدى السيدات، أن تحدثت عن زكريا تامر قائلة: ومن هذا كمان؟ ظنًّا منها أنها فوتت اسم ممثل جديد، من جيل تامر حسني!
اليوم، صار وجود الكتّاب في الحياة اليومية العادية أمرًا مألوفًا. في باريس، التقيتُ سلمان رشدي وبول أوستر في معرض الكتاب. والكتّاب المشهورون، مثل أليف شفق أو أورهان باموك وغيرهما، صرنا نرى صورهما مع الجمهور العربي الذي يصادف أحد هؤلاء في معارض الكتب.
الحياة اليوم صارت ضد خيال القارئ عن الكاتب، وصار الكاتب متاحًا إلى درجة شتمه بوجهه، وربما قراءة رده على قارئ مجهول، لم يكن يحلم يومًا بالاقتراب إلى هذه الدرجة من هذا الكاتب.
لنتخيل اليوم، أن تُعقد ندوة لديستويفسكي أو همنغواي أو ماركيز أو غيرهم من هذه الأسماء الكبيرة التي شغلت مخيلاتنا، وأمتعتنا بالقراءة، فنراهم أمامنا، هل يستطيع أحد أن يؤكد لنا، أن القارئ لن يوفر فرصة شتم أحد هؤلاء حين يراه قريبًا منه، أو يقول له باستهتار: ومن تظن نفسك!
قلق شخصي
أتلقى ككاتبة إيميلات مهمة من قراء وقارئات، تفصلني عنهم المسافة الواقعية، يكتبون لي كما يتخيلون حياتي، ولكن في الوقت ذاته، حين يقترب أحد هؤلاء مني، ويصير صديقًا في وسائل التواصل الاجتماعي، تغيب صورة الكاتبة لدى أغلبهم، لتحل مفاهيم جديدة في العلاقة، مفاهيم قائمة على محاولة تحطيم الصورة ـ الأيقونة، في محاولة، وهذا بحث مستقل، لتحطيم صورة الأب، والتحرر منها، عبر قتلها.
ماذا علينا أن نفعل نحن الكتاب الذين نحيا عصر الميديا، وتواجدنا القريب من عالم القارئ، وانعدام المسافات، وهي تجربة غير مسبوقة، وفيها الخبرات المختلفة والمتعة كذلك؟ هل نحافظ على صورنا في خيال القارئ، فنبقى أصنامًا لا تُمسّ، أم نسمح لأنفسنا بالخروج إلى الأرض، فنتلقى الصدمات، أو الصفعات؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية سورية، والمقال نقلاً عن موقع ضفة ثالثة