بديعة زيدان
كانت حكاية “نِعَم الخبّاز”، تلك العربية التي تعيش في منطقة هي أقرب إلى “الغيتو” في أطراف واحدة من الولايات الأميركية، هي مفتتح رواية “أيام الشمس المشرقة” للروائية المصرية ميرال الطحاوي، والصادرة حديثاً عن دار العين للنشر في القاهرة.
وعبر يوميّات “نِعَم”، تسلط الرواية الضوء على واقع غالبية اللاجئين في الولايات المتحدة، بحيث يعيشون في الهامش، بل في هامش الهامش، حيث العزلة تقبض على أنفاسهم كما واقع الحياة المرير، هناك في “الشمس المشرقة”، التي هي “مجرد مستعمرة صغيرة، أو أنقاض مدينة حدودية شبه ساحلية مهجورة، يقولون إنها كانت في السابق بيوتاً خشبيّة يسكن فيها عمّال مناجم النحاس التي نضبت”.
“رحل العمّال منذ زمن بعيد تاركين خلفهم الوحدات السكنية الفقيرة، أو سلسلة من الأكواخ الصغيرة، التي تتراقص في الفضاء الجبلي، منفصلة ومتقاربة وكاشفة لبعضها البعض.. ثم توسّعت المستعمرة البشرية مع الوقت، وضمّت إليها، غيرها من الأحياء والامتدادات السكنيّة التي تجاورت بين الهضاب الصحراوية، وتحوّلت إلى محطة لعبور العمّال المتسللين إلى المزارع الجبلية في الشمال.. من تلك المستعمرة تخرج حافلات عمّال النظافة وتعمير الحدائق كل صباح، تتسلق مرّات الجبال وتسير باتجاه التلال البعيدة حيث تنام منتجعات الجنّة الأبدية عالية بين القمم الجبلية.. يحمل العمّال في طريقهم إليها أدوات تهذيب الأشجار، وماكينات قصّ الحشائش وتقليم النخيل وتزيين الحدائق”.
وتعتبر رحلة “نِعَم” المتواصلة، نموذجاً لمعاناة اللاجئين في “بلاد العم سام”، مع أنها كانت من بين من تحصلوا على حق الإقامة الشرعية الدائمة في أميركا.
“لا يعرف أحد على سبيل التأكيد متى وكيف وصلت، ولا كيف عبرت البحر واستقرت في تلك البلاد، يرجحون أنها جاءت برفقة أحد مخدوميها المُسنّين، فهناك على بعد عدّة أميال شمالاً من أرض (الشمس المشرقة) تقع مصحّة استشفائية ضخمة للمُعمّرين يقصدها الأغنياء والقادرون من بلاد الله البعيدة.. في السابق كان يُسمح فيها باصطحاب العاملات والخادمات كمرافقين دائمين للمُسنّين”.
تعتقد نِعَم الخبّاز أنها من جيل الرواد، ليس فقط في مظهرها، بل في جوهر تجربتها، تلك التجربة التي تتكرر كل يوم “بشكل مخيف ومحزن”، فهي من ذلك الجيل الذي يمكن اعتباره “أكثر حظاً”، أي ممّن جاؤوا مبكّرين نسبيّاً، وتحصلوا على بطاقات الضمان الاجتماعي، وكروت الطعام، ومعونات البطالة، وتوفيق أوضاع الهجرة، بل وكانت من الجيل الذي استطاع تكوين ثروة، ولو صغيرة، من تجارة حليب الأطفال والبضائع المهرّبة، فهي من “جيل المعونات والاقتراض من البنوك”.
حين قدمت “نِعَم” إلى أرض “الشمس المشرقة” كان العبور أسهل، وفرص العمل ممكنة، ومكاتب الهجرة أكثر تعاطفاً مع حكاياتها وحكايات الأخريات التي تنضوي جميعها في إطار من المأساوية، على الرغم من اختلافها، ومن هنا نتعرف على حكايات عابرة وليست بعابرة، كحكاية صديقتها “سوزانا”، أو “فاطيما” الصومالية التي تتعرض لتكرار الخيانة الزوجية، أو “كريستال” المكسيكية دائمة الحرص على حصر غنائمها من حملات إخلاء البيوت المنكوبة.
في وقت لاحق يصل إلى المستعمرة هذه، “أحمد الوكيل”، الشخصية التي تقاسم “نِعَم” بطولة الرواية، بل تتسلم فصولها القادمة بعد قرار تنحيتها جانباً، لبعض الوقت، بقرار من كاتبة الرواية.. يصل الوكيل متسللاً في شاحنة، ويعيش بين المقابر، على تماس مع مزاجه الغريب وطقوس الحزن التي تتملكه، فهو يحب أجواء الجنازات كما نواح العجائز!
تبدأ الرواية هنا فصلاً جديداً يعيش معه القارئ حكاية الوكيل منذ كان طفلاً وحتى وصوله، فنعرف أن والده يموت في طفولته، وأن والدته التي تهيم على وجهها تصير مثار سخرية الجميع، ومن ثم تعيش “أم حنان” وابنتها “زينب” معه في البيت، فتصبح الأولى بمثابة أمه والثانية بمثابة شقيقته بالتبنّي، وتبقيان تظللان عليه حياته حتى تغادرا القرية، في أعقاب علاقة تتطور بين “مدرّس العلوم الملتزم دينيّاً، ويعمل على نشر الفضيلة والالتزام بين الطلاب”، أو هكذا يتظاهر، و”زينب” التي بدأت تضجّ أنوثة، وهنا يقرر “أحمد الوكيل” السفر أو الهجرة.
لكن “نِعَم الخبّاز” و”أحمد الوكيل” يلتقيان ثانية حدّ الزواج.. استمرت علاقتهما الزوجية لثلاث سنوات فقط، وكان فيها الوكيل يرفض مشاركة الخبّاز أحلامها أو حتى فراشها، إلا أنهما يرزقان بولدين أكبرهما يدعى “جمال”، وكانت تصدّرت حكايته المختصرة مدخل الرواية، وهو ما أتحدث عنه في قادم السطور، والثاني “عمر” متفوق في دراسته، وينسق مع معلمته للسفر بعيداً عن بؤس أمه و”الشمس المشرقة”، ودون أن تدري والدته.
في محيط “نِعم” ثمة العديد من الحكايات للعديد من الشخصيات القادمة من مناطق مختلفة، من بينها “ميمي دونج” تلك الشابة الأفريقية الجميلة، التي وطئت أرض “الشمس المشرقة” مرافقة لواحدة من إرساليّات الكنيسة، لتعيش في بيت صغير ملحق بها، كما الكثير من الأطفال الناجين من الحروب التي تعصف بأفريقيا.
و”دونج” هذه صاحبة علاقات متعددة برجال “الأرض المشرقة”، وكان من بينهم “جمال” ابن “نِعم”، الذي لم يكن قد تجاوز التسعة عشر عاماً، حين ظهر في مشهد سردي بمفتتح الرواية، يطلق النار على نفسه منتحراً، ما يدفع والدته لاتهام الأفريقية بالمسؤولية عن مقتله، بسبب علاقته مجهولة التفاصيل بها.
أما “نجوى”، وتعيش أيضاً كما شخصيات الرواية جلّها في “الشمس المشرقة”، فهي جارة “نِعَم” ورفيقتها، تعمل كاختصاصية اجتماعية، وهي منذ طفولتها متفوقة على عكس شقيقيها الذكرين.. كانت تعيش رفقة والديها وجدتها لأمها التي تنحدر من عائلة عريقة، ولم يتبقَ لها من عراقة عائلتها إلّا عيناها الملوّنتان وأنفها الدقيق.. تتفوق نجوى، وتُعيّن معيدة في الجامعة، ثم تتحصل على منحة دراسة وتسافر.
الملاحظ أن جميع شخصيات الرواية، نساءً ورجالاً، وممن هاجروا طوعاً أو قسراً، يعيشون المصير السردي نفسه الذي اختطته الطحاوي لهم، فعلى كلّ منهم أن يسرد -أو تسرد نيابة عنه – ماضيه، في ما يمكن وصفه برحيل خلفي لذكرياتهم وحيواتهم السابقة في بلدانهم، ما قبل الهجرة، وهي رحلة تبدو تبريرية أحياناً، ووصفية أحياناً أخرى لتضع القارئ في أسباب وجود هؤلاء في “الأرض المشرقة” كجغرافيا وكرواية، ربما.
الطحاوي، التي خطت في الرواية، سرداً جديداً فيما بات يعرف بـ”أدب اللاجئين”، وارتفع منسوبه عربياً منذ ما يزيد على العشر سنوات بقليل، أرادت من خلال روايتها “أرض الشمس المشرقة”، إيصال فكرة تتمحور حول “وهم الجنة” أو “الجنة الوهم”، فالسعادة، كما صوّرت لا تكمن في المال الذي يتأتى بعد نجاح ليس مضموناً لصاحبه بالهجرة، فقد ينتهي به المكان في مستعمرة هي نموذج هنا للتعاسة والبؤس والشقاء.
وكانت الطحاوي قالت عن روايتها الأحدث هذه: “أيام الشمس المشرقة” رواية عن فكرة النجاة والبحث عن الضفة الأخرى التي تستقبل المهاجرين واللاجئين، وبالطبع هي عالم متعدد الأعراق، لكن الرواية ليست عن الهجرة، ولا عن أبطالها، بل عن البؤس والفقر والاستغلال الطبقي، وعن البلاد التي تبدو خلابة في الصور فحسب، لكنها في حقيقة الأمر مقبرة كبيرة لأحلام البسطاء.