أيام الشمس المشرقة

بهاء جاهين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بهاء جاهين

1

فى عملها الجديد (أيام الشمس المشرقة) الذى صدر العام الماضى، ترسم الروائية المصرية المبدعة ميرال الطحاوى، التى تعيش حالياً وتعمل فى ولاية أريزونا غرب الولايات المتحدة، خريطة حزينة للعالم؛ ترسمها بسطور وفصول روايتها، وعبر وجوه وعيون وذكريات شخصيات الرواية، الآتين من بلاد تشرق فيها الشمس بقوة تكاد تكون قسوة، وتغرب فى بعضها تواريخ حضارات قديمة، وفى البعض الآخر تشتد سطوة الشمس حتى تكاد تُذهِب العقول، فيعبر الكثيرون البحر من جنوب وشرق العالم إلى شماله والغرب، فى زحف جنونى يخاطر بفقدان الحياة، غرقاً فى مركب متكدسة بالأحلام اليائسة أو برصاص حرس الحدود، ولا يحدث هذا فى المتوسط وحده حيث نقرأ ونشاهد فى الإعلام كل يوم، بل أيضاً فى المحيط الذى يُسمّى ـــ سخرية! ـــ بالهادئ، بالقرب من المدينة التى تُدَرِّس فى جامعتها ميرال الطحاوى أدبنا العربى؛ يتسلل أهل الجنوب والشرق إلى ساحل أمريكا الغربىّ، عبر حدود البر والبحر، ليعمر الناجون منهم منطقة تسميها أديبتنا، سخرية وإشارة إلى أصول هؤلاء: الشمس المشرقة, التى تمثل الجذع الجنوبى لخريطة ترسمها لنا الكاتبة بالكلمات، لجزء فى ولاية بغرب أمريكا لا تسميه (لتعطى خريطتها عمومية عالمية) حيث يصعد المتجه شمالاً من سفح اللاجئين غير الشرعيين لتلك الولاية ـــ القادمين من سفح أعرض وأشمل هو جنوب العالم ـــ يصعد إلى أعلى كلما أوغل فى الشمال، عابراً منطقة وسطى تسميها الكاتبة سنام الجمل ويسكنها أهل الطبقات شديدة التوسط، وهى منطقة يعلو مستواها طبقياً وجغرافياً، ليكون ربوةً وسطاً ما بين سفح غوغاء ومهمشى وعشوائيى (الشمس المشرقة)، وبين منتجعات سكان قمم التلال، أو رحاب (الجنة الأبدية)، كما تسميها ميرال, أولئك السعداء الواصلون الذين يعيش على خدمتهم ويحلم بها تعساء (الشمس المشرقة). هكذا اختصرت كاتبتنا العالم كله، تاريخياً وجغرافياً، فى ذلك المصَبّ الواطئ لحالمى العالم اليائسين، المرتمين عند أقدام تلال السعادة والرخاء والرفاهية، العالية موقعاً ومقاماً، والقائمة فوقهم وإلى الشمال معهم. واستخدمت الطحاوى المفارقة الحزينة فى تسمية روايتها: عن تلك المنطقة العشوائية الأمريكية التى تحتشد فيها الأحلام والإحباطات، والذكريات الحزينة عن أوطان طاردة يشتد فيها وهج الشمس أحياناً حتى يكاد يُخَبل العقول.
الشخصيات الرئيسية فى الرواية، كما هو متوقع إذا وضعنا فى الاعتبار هوية القارئ والكاتبة، معظمها عرب ومصريون؛ وبتحديد أدق، ثلاثة مصريين وفلسطينى وعراقية، فإذا أضفنا إليهم فتاة زنجية رائعة الحُسن لكنها – كالجميع هنا – ضائعة، نكون قد ذكرنا أهم الشخصيات. نبدأ بالمصريين الثلاثة، الذين يمتازون عن الباقين بأن الكاتبة منحتهم فصولا تحكى عن جذورهم فى مصر، وحياتهم فيها التى انتهت بهم إلى تغريبة (الشمس المشرقة).
تبدأ الرواية بحكاية (نِعَم الخباز)، ابنة الخباز القروىّ، التى عاملتها الحياة بخشونة منذ طفولتها المبكرة، بعكس مدلول اسمها الذى يشبه عنوان الرواية من حيث رنته الساخرة الحزينة, فمن بين (النعم) التى أغدقتها عليها الحياة، وكانت فى الرابعة من عمرها، أن تعثرت وسقطت على ركية نار أكلت خدها الأيمن، ثم أنفقت باقى طفولتها خادمة لعجوز محتضرة انشغل عنها الأهل فاشترت بالمال طفلة تتفرغ لخدمة (السيدة ذات الأوجاع) حتى الموت فى سرير احتضارها. وما شبت تلك الطفلة عن الطوق حتى صارت خبيرة محنكة فى ذلك النوع من الخدمة، فتناقلتها بيوت الأغنياء الوحيدين المحتضرين، حتى عبرت البحر ولا تدرى، وانتهى بها المطاف فى جنوب غرب أمريكا الشمالية، خادمة عمومية تقيم فى عشوائية عند أقدام جبل يسكنه الأثرياء المسعدون الذين تصعد إليهم للخدمة وتعيش على فتات نفاياتهم.. ونواصل بإذن الله فى المقالة القادمة.
٢
نواصل حديثنا عن رواية أيام الشمس المشرقة لميرال الطحاوى، فنستكمل تأمل أولى الشخصيات الرئيسية فى الرواية: الخادمة الأبدية (نِعَم الخباز) التى تعيش فى سفح المجتمع الأمريكى، حيث رمت بها الصدفة، قادمة من المجتمع المصرى. لا تبدأ الرواية ببداية حكايتها، بل بذروة مأساوية للحكاية، وهى كهلة تحيا فى إحدى عشوائيات الغرب الأمريكى، وقد قتل بكريُّها نفسه، لأسباب غير واضحة، ضمن حالة أمريكية قومية وحاجة عامة لإطلاق الرصاص ـ تحكى عنها الكاتبة فى فاتحة الجزء الأول ـ سواء على الآخرين أو على النفس، خاصة فى ظل بؤس الحياة أسفل المجتمع، فيمتلئ الفصل الأول بزخات الرصاص، بين سكان ذلك الحى الذين كثيراً ما يختفون، سواءً بالموت أو بالرحيل المفاجئ دون ترك أثر. هكذا مضى (جمال) ابن (نِعَم) مقتولاً بيده، وقبلها ذهب أبوه (أحمد الوكيل) مهاجرا من بيت امرأة تحتقره.
وبعد أن نتعرف على وجه (نِعَم)، المحترق نصفه من حادثة فى الطفولة، تعود بنا الكاتبة لتلك الطفولة فى بيت قروى مصرى، ثم السياق القدرى الذى سخّرها للخدمة فى البيوت حتى وصلت إلى هذا الوطن البديل، حيث الشقاء بطريقة مختلفة. وفى (الشمس المشرقة) قابلت (نِعَم) مصرياً آخر من بيئة قروية رمت به بحور الدنيا بقدرة قادر إلى ساحل أمريكا الغربىّ، بعد أن فقد فى قريتها البيت ودفء الأسرة ـ فى حكاية طويلة يحكيها الجزء الثانى من الرواية، المعنون بـ(حديقة الأرواح) ـ فصار شبه متسول فى أمريكا، متشرداً يشحذ فرصة العمل الطارئ اليومى مع متشردين مثله. فاصطادته (نِعَم) التى لها بيت لكن ليست لها أسرة. وكملكة النحل وأنثى العنكبوت حملت منه الأبناء ثم نبذته حتى فر من ذل بيتها إلى مكان مجهول.

وفى الجزء الثالث، بعنوان (سرة الأرض) نتعرف أكثر على شخصية (ميمى دونج)، تلك السمراء الحنون ذات الحُسن والجمال التى تشبه ربات الأرض فى أمومتها الفياضة وخصبها، والتى تفتح أحضانها لكل شريد، وتحقد عليها (نِعَم) وتتهمها ظلماً بالمسئولية عن موت ابنها البكرى، الذى قتل نفسه فى بيت (ميمى دونج) لأسباب غامضة، وإن كان الظن، وما توحى به الكاتبة، أنه ورث خيبة أبيه وتعاسته فلم يتحملهما، إلى جانب حالة التعاسة والضياع العامة فى حى (الشمس المشرقة) العشوائى. ويظل حقد (نِعَم) على (ميمى دونج) مشتعلاً طوال الرواية، حتى تختفى ميمى هى الأخرى، قرب نهاية العمل، فى جزئه الأخير المعنون بـ(الربع الخالى). وسنتحدث عنه لاحقاً، بعد أن نفرغ من شخصية (نجوى)، المصرية الثالثة فى الرواية، التى نتعرف عليها، وعلى جذورها فى مصر، فى الجزء الرابع، الذى يحمل عنوان ( تلة سنام الجمل)، ويتحدث عن الهضبة المنخفضة بعض الشىء التى تفصل سكان سفح (الشمس المشرقة) عن قمم تلال كومباوند(الجنة الأبدية)، مأوى السادة السعداء الأثرياء. يسكن حى (سنام الجمل) موظفو الدولة والجمعيات الأهلية الذين تتولى مؤسساتهم علاج المرضى من سكان السفح والنظر فى حالات بؤسهم وطلبات المساعدة التى يرفعونها. ومن هؤلاء (نِعَم الخباز) التى تتعرف فى رحلتها شبه اليومية لـ (سنام الجمل) على (نجوى)، تلك المصرية المتعلمة التى كانت تنتمى للطبقة المتوسطة ذات التطلعات وادعاءات الانتماء للوجهاء والذوات. نجوى امرأة حرمتها الطبيعة من أى تميز؛ فلا هى بالجميلة ولا الذكية، ولا تتمتع بأى موهبة، سوى ما حباها الله من إصرار سلحفائى واجتهاد فى الدراسة، ودأب على الحفظ و(الصَمّ) وصل بها إلى أن تعينت معيدة فى أحد الأقسام الأدبية فى جامعة مصرية، كما رشحها ضعف شخصيتها وطواعيتها وانضواؤها فى ظل (الأستاذ) رئيس القسم إلى منحة دراسية فى الولايات المتحدة.. ونواصل بإذن الله فى المقالة القادمة
3

فى الجزء الرابع من رواية (أيام الشمس المشرقة) لميرال الطحاوى، نتوقف عند شخصية (نجوى)، التى لا يعينها على تحمل مخالب الحياة إلا جلدها السميك وعقلها شبه النائم؛ فقد حماها افتقارها لأى موهبة من الحس المرهف الذى قد يُشقى من فى وضعها: فهى وحيدة فى وطن أجنبى، ليس لها أصدقاء إلا (نِعَم) التى لا تحمل نحوها كثيرا من الحب؛ بلا رجل ولا أسرة، تنحدر فى باطن عنوسة بلا أمل، ولا نصير لها إلا حسها المتبلد ونعمة الغباء الذى هو موهبتها الوحيدة. جاءت للولايات المتحدة فى بعثة دراسية، فلفظتها الجامعة إلى الشارع، وإلى زواج غير موفق قصير الأمد من عجوز بخيل أرادها خادمة له، إلا أنها فازت من ذلك الزواج التعيس بحق الوجود فى أمريكا، ووظيفة بائسة التقت عبرها (نعم الخباز) صديقتها الوحيدة التى لا تكترث بها حقا.
وفى الجزء الخامس / الأخير من الرواية: (الربع الخالى أو الكوارتر)، نلتقى بالرجل الذى تربطه بنجوى شبه صداقة، عبر صديقتهما المشتركة (نعم الخباز)، ويمكن اعتباره بطل الجزء الأخير من الرواية: إنه سليم النجار، الذى رسمت له الكاتبة بورتريها فيه مزيج من الرثاء والهجاء، وكثير من الفهم، لنوع خاص من اللاجئين العرب لبلاد البرد والحنين: إنه ذلك الذى صار لاجئا فى بلاده أولا، قبل أن تسوقه الأقدار إلى أقصى الغرب، ليهيم ضمن الجنوبيين المتسللين إلى أرض الحلم الأمريكى. ولكن سليم النجار بالذات يختلف عن معظم رفاق المهجر فى أنه رجل مثقف خصب الخيال، وتمتزج فى ماضيه الفجيعة الشخصية بالقومية، ويبدو أنه طاف عدة بلدان منذ أُجبر جده النجار الفلسطينى على ترك قريته بالجليل إلى مخيم «عين الحلوة»، ولذلك تتعدد حكاياته عن نفسه وأحيانا تتناقض.لكن من المؤكد أنه- قبل رسوه فى العالم الجديد – مر بجنوب لبنان وبالعراق، وهناك، فى جامعة بغداد، ربما التقى علياء الدورىّ، ابنة أحد ساسة العراق وأثريائه، الذين رمت بهم تقلبات السياسة على ساحل أمريكا الغربى، فالتقت علياء الفاتنة – جسدا وعقلا وروحا – مرة أخرى بسليم المفتون، لكن بعد أن صار حارس عقار فى مستنقع (الشمس المشرقة)، بينما تعيش علياء فى منتجع (الجنة الأبدية) فى قصر منيف سماه والدها (قصر الرشيد). يتقلب سليم النجار فى السفح، فى انتظار أن تتذكره علياء، وكلما هبطت من عليائها لتزوره، تلاحظ (نعم) و(نجوى) أن (سليم) اختفى، ويظل مختفيا حتى تنتهى نزوة علياء، ويعود سليم مرة أخرى لأحاديثه المثقفة لنجوى – الوحيدة المتعلمة ممن يخالطهم – فى صحبة (نعم الخباز) التى تعشقه سرا وتأكلها الغيرة. وحين يزور الحزن قلب (سليم النجار) يهرع إلى حضن (ميمى دونج) نبع الأمومة المتدفق وربة الحسن المشاع – ولكن (ميمى) تختفى فجأة، ككثيرين من أهل (الشمس المشرقة). وينتهى العمل بظهور جثة ميمى على شاطئ الخليج بعد شهور من اختفائها، لكن أحدا لا يهتم، لاعتياد السكان الأمر، وأيضاً لأن هذا يحدث متزامنا مع حادثة القارب (عين الحياة) الذى تسلل عبر الخليج للمياه الإقليمية للولايات المتحدة، وتعرض لإطلاق الرصاص من حرس الحدود، وغرق بعض الأطفال الذين ألقت بهم أمهاتهم أملا وخوفا فى الماء من سطح الزورق.
هكذا ينتهى العمل، الذى يمكن قراءته على أنه مرثية لا تخلو من دموع الضحك، لأهل الجنوب والشرق من سكان هذه الكرة المركولة فى الفضاء. تكتب ميرال الطحاوى بفهم عميق وتعاطف وموضوعية عن أولئك الذين جعلتهم خطوط الطول والعرض أقل حظا فهاجروا يلتمسون السعادة، ولم يجدوا منها إلا القليل. لكن من يقرءون الرواية سيجدون من المتعة الفنية الكثير، إزاء عمل يقف على مسافة من شخصياته، ويصورهم بلغة فيها من الحياد ما لا يمنع العطف، ويمنح القدرة على وصف الضعف الإنسانى بكل ما فيه من كوميديا ومن مأساوية.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم