سيد الوكيل
تخلص من معتقداتك السياسية شوية، وانت بتتفرج على فيلم (أيام السادات) وسوف تراه فيلماً استثنائياً في تاريخ السينما المصرية.
من الناحية الفنية، فهو واحد من الأفلام جيدة الصنع. سيناريو عظيم وموضوعي للرائع أحمد بهجت، ليس فقط لقدرته المدهشة، على سرد 40 سنة من حياة السادات المعقدة، المحفوفة بالخطر، المكتنزة بالمغامرات. لتعطي الفيلم نفحة إنسانية إلى جانب التاريخية والسياسية. فخلا الفيلم تقريبا من العبارات الرنانة، حتى في موسيقاه التصويرية الهادئة.
يذكرني الفيلم، بفيلم ( نيكسون) الذي كتب السيناريو له ثلاثة من الكبار (أوليفر ستون، وكريستوفر وليكنسون، وجاي ريفيل).فعالج رحلة حياة الرئيس الأمريكي سيء الحظ، منذ نشأته حتى وهو رئيس جمهورية، إذ توارت شخصيته في ظل الكاريزما التي تمتع بها جون كينيدي، وكان هذا عصر الزعامات ( كينيدي، وناصر، ونهرو، وتيتو، وماوتسي تونج، وشارل ديجول وغيرهم.
موت كينيدي الدراماتيكي هز وجدان الأمريكان، وجعلهم غير متحمسين لأي رئيس بعده، سواء جونسون أو نيكسون. وبنفس الدرجة أثر موت جمال عبد الناصر في المصريين.
بدأ نيكسون بتعزيز القوات الأمريكية في فيتنام، حتى استردت قدرا من هيبتها، جعلته ينسحب من حرب انهكت امريكا، وهو انسحاب أطلق عليه وقتها تعبير (سلام مشرف) وهو نفس التعبير الذي أطلقه السادات على اتفاقية السلام. قام نيكسون بزيارة تاريخية للصين الشيوعية عدوة الأول وسط ذهول العالم، ثم بدأ رحلة إنهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، التي أسفرت بعد سنوات عن تفكيكه، مضى نيكسون من تحول إلى آخر، حتى اغتيل سياسيا بقضية ووترجيت. وهكذا فقد تحول نيكسون إلى شخصية مثيرة للجدل والاختلاف على نحو عنيف ومتباين، كانت جديرة بتصويرها في الفيلم العظيم الذي أخرجه أوليفر ستون.
ويبدو أن محمد خان، أدرك هذا التشابه بين ظروف السادات ونيكسون، كان فيلم نيكسون حاضرا في ذهنه، فاعتمد على النقلات السريعة، وتوقف عند اللقطات والعبارات الدالة بعمق على شخصية السادات، واستعان بالمشاهد الوثائقية الأبيض وأسود، لتخلق حالة من التباين البصري مع الألوان، ولم يقع في الترهل، بفضل سيناريو محكم، ولغة بصرية (مونتاج) غاية في الذكاء وعمق الدلالة. فكشف الفيلم بفنية، عن جوانب عديدة من شخصية السادات، أهمها قدرته على مراجعة أفكارة، وهو في السجن الانفرادي بتهمة قتل أمين عثمان، عندما اكتشف أن الحلول الجذرية هي العلاج الحاسم، وأن مقتل أمين عثمان مجرد مسكنات. والحل هو القضاء على نظام المليكة الذي أصبح مترعا بالفساد.
الفنانة منى زكي التي قامت بدور جيهان السادات، من الفنانات التي تمثل بتلقائية، وحضور جذاب في مواجهة الكبير أحمد زكي، الذي ضايقتني منه المبالغة في تقليد السادات بحركات فكة السفلي غير المفهومة. أحمد ذكي من مدرسة ستنسلافيسكي التي تعتمد على التقمص، وكان هذا يقتضي منه أن يتخلص من وزنه الزائد، فلم تنجح كاميرا طارق التلمساني في تجنب كرشه، فكسر انطباعا مميزا عن السادات، بقوامه الممشوق، كأنه عارض أزياء، حتى اعتبر من الرجال الأكثر شياكة وجاذبية في العالم. وغير ذلك فلدي التلمساني زوايا تصوير ودرجات إضاء مبتكرة، لا سيما في لقطات السجن الانفرادي للسادات، وأثناء القبض عليه.
جيهان، التي صارت أما مرتبكة أمام طفلها الباكي، وتحلم بحياة زوجية مستقرة، عندما علمت بتورط أنور مع الضباط الأحرار فزعت، وصرخت، فيه: سياسة تاني يا أنور، أنت مش قادر تبعد عن الخطر لحظة؟ فرد عليها: اعمل ايه يا جهان ، أنا كده…
حوار كشف عن شخصية جيهان، التي رغم كل جمالها، ومكانتها كسيدة أولى، وأصولها الإنجليزية، كانت تربكني بحواراتها في التلفزيون، إذ تبدو كأي ست بيت مصرية، هادئة، ومغلوبة على أمرها حتى بعد مقتل زوجها انسحبت من المشهد تماما في هدوء وصمت. بهذه الشخصية، ربما حققت جيهان نوعا من التوازن النفسي للسادات، الذي ابتعد عن بؤرة الضوء السياسي لسنوات، ومع ذلك ظل من المقربين جدا لعبد الناصر، وكان محل ثقته.
في الفليلم قدم السادات توكيلا لناصر، لكي يقوم بكل مهمامه في مجلس قيادة الثورة، وآثر أن ينأى بنفسه، حرصا على ألا يكون سببا لمزيد من التوترات داخل المجلس. وعندما صارح عبد الناصر بقلقه من الصراعات داخل المجلس، طمأنه ناصر، بأنه سيحسم الأمور في الوقت المناسب. وقد كان، وهكذا كان ابتعاد السادات عن مجلس قيادة الثورة موقفا ذكيا، انتهى لأن يظل الورقة الأخيرة في يد عبد الناصر، فلجأ إليها عند الضرورة. هكذا يومئ الفيلم بدون مباشرة عن شخصية السادات، التي ربما لا تتمتع بكاريزما ناصر، لكنها تتمتع بدهاء سياسي كبير، أهله بعد انتصار أكتوبر ليكون أبرز الشخصيات السياسية في العالم.
هكذا يركز الفيلم على كشف مناطق ظلت غامضة في شخصية السادات للسادات، بل ومتناقضة، إنها شخصية متميزة، لها طبيعة خاصة، فالحوار السابق بينه وبين جيهان، الذي كشف أبعاد شخصيتها، كشف في نفس الوقت عن شخصية السادات: ذات موزعة بين عشق الجمال والخطر، حب بيته وزوجته وحب الوطن، ذات تندفع إلى الحياة بقوة، وإلى الموت بنفس القوة.
إنها شخصية البطل التراجيدي كما يصفها أرسطو، في كتابه ( فن الشعر) وهي شخصية، تثيرالجدل حولها، نتيجة لتحول مواقفها من النقيض إلى النقيض.
لحظة نزول السادات من سلم الطائرة في تل أبيب لحظة شارحة بامتياز لهذه الشخصية، حيث كان العالم كله يترقبها، بمشاعر متناقضة، فثم من يخفق قلبه خوفا أن يقتل السادات في تل أبيب بيد أعدائه التقليديين، وثم من يشتعل قلبه حنقا وكراهية، ويتمنى ألا يعود.
عاد السادات وقتل بيد جنوده، تماما كما قتل يوليوس قيصر الذي حقق أعظم انتصار لروما، وعاش حياته موزعا بين عشقه للحروب وعشقه للفنون والآداب.