محمد العشري
يبدو أن حديث كعب الأحبار لعمر بن الخطاب، واصفاً حال الدنيا وبلاد العرب، أفاد الروائي سعد القرش في استلهامه شخوص روايته الجديدة “أوّل النهار”، الصادرة حديثاً لدى “الدار المصرية – اللبنانية” في القاهرة: “إن الله عندما خلق الدنيا جعل لكل شيء شيئا، فقال الشقاء أنا لاحق بالبادية، وقالت الصحة وأنا معك. وقالت الشجاعة أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك. وقال الخصب وأنا لاحق بمصر، فقال الذُّل وأنا معك”.
في “أوّل النهار” يتكىء الكاتب على التاريخ، ينهل من وقائع صنعها الفلاحون، ليتغلبوا على ذلّ الجنود الفرنسيين وبعض المصريين الموالين لهم، زمن الحملة الفرنسية على مصر، وتأثيرها على منطقة المنصورة، والقرى المجاورة لها. عبر تسع وأربعين فاصلة سردية قصيرة، في ثلاثمئة صفحة وصفحة، يعمّق الكاتب أوتاد نبوءة ملعونة، تحلّ كل خمسين عاماً، على أهل قرية أوزير المتاخمة لنهر النيل، التي تتعرض للفيضان والطاعون، فيفرّ أهلها تاركين جذورهم غارقة في وحل الطوفان. حيث ينتشر وباء الطاعون، يحصد الأرواح من دون تفرقة، ولا يترك وراءه إلا عدداً ضئيلاً جداً، يكون عليهم إعمار القرية من جديد: “بدأ الشتاء بطاعون أرعبه لحلول خمسين عاماً، على موعد نبوءة ملعونة، ولكن الوباء كان رحيماً بالعائلة، وأختار ضحايا آخرين، ولم يطمئن الحاج عمران إلا “يوم النقطة”، بعد أن أرسل الله، في يوم حار من شهر بؤونة، رئيس الملائكة ميخائيل لإسقاط نقطة ماء في النيل، خميرة للفيضان، واكتفاء بمن انتقاهم الطاعون من أضحيات”.
بإطلالة موجزة على شخوص الرواية، يمكن تتبع النسيج اللحمي المتين للعلاقات البشرية في القرى، ومحاولة سعد القرش أن يجعله ممتدا وبسيطا ليشمل القارىء في شبكة الود المتشعبة، فيتفاعل مع عمران، كبير أوزير، الذي يفي بنذر، أوجبه على نفسه، بإطعام فقراء القرية، عندما نجا ابنه الوحيد مبروك وأختاه غير الشقيقتين من مصيدة النبوءة وخطر الطاعون. حليمة، مربية عمران، مصدر النبوءة، راوية لرحلة التيه مع الغجر، يرافقهما في البيت، العبد هوجاسيان وابنته هند، التي سيتزوجها مبروك، بعد أن يفروا جميعاً، هرباً من القرية، حين يهاجمها الطوفان إلى المحلة الكبرى. في الرحلة يكتشف مبروك هنداً، معها يبدأ بإدراك معنى الحياة، ويكتشف اللذة، ويتأمل فلسفة الموت بين ذراعيها. في ليلة خلت إلا منهما، يصعدان إلى سطح الدار، ليمارسا الحب بنشوة ولذة، كأنهما يهربان من الطوفان إلى مكان عال، وفي إغماءة النشوة، وربما تجلّيها، يقترب مبروك من حافة السطح، ويجرب أن يطير محمولاً على أجنحة المتعة التي أذاقته إياها هند، فيسقط صريعاً في الشارع، بعدما ترك في رحمها بذرة لولديه عامر وسالم. عند هذا الحد من الحوادث المتلاحقة، يفتح سعد القرش مجالاً يؤكد من خلاله معنى الإنتماء، والإرتباط بالوطن، حتى لو كان موبوءاً، غارقاً في الوحل، وقاتلاً لأبنائه. تتجلى تلك الدلالة في عودة عمران بجثة ابنه مبروك ليدفنه في أوزير: “لم تكن للمكان حدود ليصبح قرية. كان قبراً بإتساع الفراغ”.
في “أوّل النهار” تبدأ الحياة من حيث تنتهي، لتعيد دورتها الأولى. لا يجد عمران سوى إثني عشر من رجال القرية، ظنوا أنهم وحدهم الناجين من الموت، ليبدأوا بعد دفن الجثة التفكير في إعادة إعمار القرية من جديد، فيحدد كل منهم موضعاً لدار، ويختار لها مكاناً مرتفعاً، فوق مستوى الفيضان. يجيء كل رجل بعروس من قرية أو مدينة صادف وجوده فيها ساعة الفيضان. وما أن يعاد بناء أوزير من جديد، وتسوَّر ببوابات عملاقة، وخنادق ليتسرب منها ماء الطوفان، حتى يبدأ رجال الباشا في جعل البلدة مراتع لبغالهم وأفراسهم، فيخضع عمران في نهاية مواسم الحصاد بإرسال الضرائب إلى الباشا: “سأله الرجل عن المطلوبات، من العوائد التي يحصلها رجال الباشا، من أهالي أوزير، لدفعها للعربان، اتقاء لشرهم، فقال إن الناس في أوزير ضاقوا بالضرائب، ولا يرحمهم شاهد رذل، يخلط فيما يسجل في دفتره، الحق بالباطل، ويأتي الصراف لتحصيل الجباية، حسب ما دُوِّن في سجل الشاهد، فلا يجد عند الخلق شيئاً”.
الجيل الثالث يتتبعه سعد القرش عبر مسيرة الولدين عامر وسالم، ابني مبروك، وهما يكبران إلى جوار جدهما عمران، يتسربان إلى طريقين مختلفين، وإن أديا في النهاية إلى مقاومة المماليك والبصاصين من جانب، وجنود الفرنسيين في عبورهم إلى المنصورة مروراً بالمحلة الكبرى من جانب أخر. يموت سالم، ويصمد عامر في مجابهة القوات الطاغية، المستولية على خيرات البلاد، حتى يصبح كبيراً لقرية أوزير، ويتعاظم دوره في مقاومة قوات الإحتلال الفرنسية، الى أن يحاصروه مع رجاله. ويفتديه الجدّ عمران بأسرى فرنسيين، ليخرج ويستقبله أهل أوزير كفارس.
لا تهدأ الحياة في أوزير، فتتحقق النبوءة واللعنة مرة أخرى، في دورات متلاحقة، بين الضوء والعتمة، الإقامة والتيه، الحياة والموت، وربما الى حيث لا مفر من البدء من جديد.
…………….
نشر في “النهار” ـ بيروت 31 يوليو 2006