أوهام المَرَّة الأولى

محمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

هذه المسكينة البسيطة المُسَمَّاة “المَرَّة الأولى”، أحد أكثر الأشياء التى ملأناها أوهامًا، وملأنا هذه الأوهام بالدراما، نُحَوِّلها إلى سجن نحبس فيه قدرتنا على الدهشة والمتعة بالأشياء، كأننا لا يمكن أن نندهش مع الشىء نفسه مرتين، لا يمكننا أن نعيش معه بحماس وحتى دهشة أكبر من “المَرَّة الأولى”.

ولماذا بالأساس نريد أن نُجَرِّب الأشياء نَفْسها من جديد بإحساس “المَرَّة الأولى”؟ بِمَ يفيدنا التكرار حتى لو كان رائعًا، حتى أنه لا يمكنه تكرار روعته؟ وماذا عن إحساس المَرَّة الثانية؟ والثالثة؟ والمَرَّة المئة؟

 سيكون من المُمِلّ لو جَرَّبْنا شيئًا ما بنفس الإحساس فى كل مرة، مُمِلُّ  مهما كان رائعًا.

إحساس “المَرَّة الأولى” لا يتكرر؟ هذا صحيح، لكن، هو نفسه حال المَرَّة الثانية، والثالثة، وكل مرة، لا واحدة منها تتكرر، لكلٍ منها إحساسها ودهشتها، ويمكننا أن نعيش أجمل من “المَرَّة الأولى” فى الشىء نفسه، نعيشه مئة مرة، وكلها أجمل من “المَرَّة الأولى”.

لا نستعيد أبدًا ما حدث معنا فى المَرَّة الأولى؟ هذا صحيح، وبديهى، ليست معجزة، وصحيح أيضًا أننا لا نستعيد ما يحدث معنا ونشعُر به فى المرة الثانية أو الثالثة أو المئة، لكلٍ منها طعم مختلف، ليس أقل من غيره بطبيعة الحال.

لماذا لا تكون الثانية هى الأجمل، وجمالها أن نُجرِّب الشىء للمرة الثانية، أو الثالثة، لماذا لا تكون المرة العاشرة أو الألف هى الأجمل.

لو انتبَهْنا لأنفسنا عندما نفعل الشىء للمرَّة الأولى، نَنْتَبِه بقصد أن نستمتع ونندهش لأعلى درجة، فما يحدث أننا لن نندهش به، لن نشعر معه بأىّ متعة، سيكون تركيزنا أن نكون مُنتبِهِين، ومشاعرنا كلها هى الانتباه واليقظة والمُراقَبَة، فتضيع منا المتعة الحقيقية، تفوتنا اللحظة نفسها، يفوتنا ما نحبه فى “المَرَّة الأولى”، تلقائيتها وبساطتها، سذاجتنا معها، وسذاجتها هى أيضًا، رعونتها ورعونتنا، وبالمناسبة، كل هذه الصفات موجودة فى كل المرَّات الأخرى لكن بدرجات متفاوتة.

ننتبه للمَرَّة الأولى من كل شىء؟ خطأ الكبير، فقط لنترك أنفسنا فى كل مرة، ألا ننتبه، ولا نتعمَّد شيئًا كثيرًا، ما بداخلنا سيعرف ويتعمَّد بالقَدْر المطلوب للاستمتاع بالمَرَّة أيًّا كان رقمها، لا يُهم، من المُهم ألا نتدخَّل بادِّعاءنا النباهة والمعرفة، لنَدَع هذه الحماقة، فقط لنُجَرِّب ونَعِشْها.

جمال “المَرَّة الأولى” هو ألا نكون منتبهين، جمالها فى رعونتها، ومفاجآتها، دور “المَرَّة الأولى” أن نُجرِّبها دون فَهْم كبير، دون تركيز، ثم تأتى “المَرَّة الثانية” بدور جديد، فيه تركيز وفَهْم أكثر، ورعونة أقل، وتأتى “المَرَّة الثالثة” بخبرة ودهشة ومتعة جديدة، وهكذا.. كل مَرَّة لها دور جديد خاص بها، ونحبها لأجله، وكل مرة “جديدة” ستناسب ما صِرْنا عليه، كل المَرَّات بها دهشة على طريقتها.

الدهشة لا تتعلق بتجربة الشىء للمرَّة الأولى وفقط، وإلا فلماذا نكتشف ونندهش مع الأشياء نفسها، حتى لو مارسناها ألف مرة؟ حتى ما نظن أننا أدركناه وفهمناه واعتقدنا أنه لن يكون مدهشًا أكثر، تأتى لحظة ونعرف أننا أخطأنا فى تقديرنا له، فالأشياء لا تبقى على حالها، وليس لها آخِر، نحن أيضًا لا نبقى حالنا.  

كل مَرَّة هى “جديدة” بطريقة ما، حتى مع الشىء نفسه، لأننا لا نكون الشخص نفسه الذى كُنَّاه فى المرة السابقة، كما أن الشىء الذى نفعله لا يكون هو نفسه، والظروف حوله وحولنا، كل شىء تَغَيَّر حتى لو لم نلاحظ.

حتى فنجان القهوة الذى يتعمَّد بعضنا أن يكون هو نفسه كل يوم، بطريقة معينة، ليكون المَرَّة نفسها فى كل مَرَّة، حتى هذا الفنجان الذى يظنه البعض هو نفسه فى كل مرة، “المَرَّة الأولى”، ليس هو فى كل مرة، فالشخص الذى يَعِدُّ هذا الفنجان ليس هو نفسه الذى كان بالأمس، ولا حتى منذ ساعة، ليست نفس لا خلايا جسدك أو عقلك، أعمارنا ليست ما كانت عليه بالأمس، ومزاجك ليس هو نفسه بالضبط مزاج الأمس فى اللحظة نفسها، وذرات وحبوب القهوة ليست ما كانت عليه بالأمس، والناس فى الشارع، والكرة الأرضية ليست فى موضعها الذى كانت عليه أمس، والجوّ، درجات الحرارة والبرودة، أشجار نبتت وأخرى ماتت، وبحر يثور كان هادئًا بالأمس، أو العكس، وأنهار وألوان ليست اليوم على حالها بالأمس، ملايين الكائنات الجديدة ظهرَت فى العالم، وكلها حَرْفيًّا، لها علاقة مباشرة بفنجان القهوة الذى يُعِدُّه أحدنا، ويظن أنه يُعِدُّه بالطريقة نفسها، وله طعم كل يوم.

  لا يَحِقّ لها أن تأخذ أكثر مما أخذَت، لا يَحِقّ لها أن تحبسنا، أو لا يَحِقّ لنا أن نحبس أنفسنا فيها، هى “المَرَّة الأولى”، نحبها، شكرًا، ونحب كل المَرَّات الأخرى، أقصد كل مَرَّة بمَرَّتِها، بدهشتها وجمالها.

هى فقط مُجرَّد “مرَّة أولى”، كم مرة كانت المَرَّات غير الأولى أفضل من “المَرَّة الأولى”؟ وأكثر دهشة وجمالًا ومتعة؟ كل ما فى القصة أن هناك مَرَّة أولى لكل شىء، كما نعرف كلنا.

نُحَوِّلها سجنًا نحبس فيه جزءًا من روحنا ودهشتنا، وكأن أفضل ما فينا لا بد أن نتركه مع “المَرَّة الأولى”، أَفضل ما فينا يَظَلُّ معنا، نستعمله مع كل المَرَّات، الأولى.. والمئة، والألف، هذه الروح، الدهشة، هى لنا، ليست للمَرَّة الأولى ولا أىّ مرة، فقط لنمنح الفرصة لكل المَرَّات الأخرى، ولنعطها فرصة لتمنحنا ما لديها، وتكشف لنا جمالها ودهشتها.

وكم مرة نسينا “المَرَّة الأولى”؟ مرات كثيرة.

لنتخيَّل أننا مع كل مَرَّة أُولى نفقد جزءًا منا، نترك معها جزءًا من دهشتنا، أقصد الجزء الأهم، جوهر دهشتنا، فإننا فى وقت قصير سنفقد الدهشة، وقدرتنا على رؤية الحياة، بعضنا سيفقدها فى العشرين، لن يكون لدينا رصيد أو قدرة على الدهشة.

كأنها رصاصة نُطلقها على دهشتنا، وقدرتنا على الاكتشاف.

نُضَيِّق علينا العالم الكبير، ونُضَيِّع الفرص الكثيرة، اللا نهائية، لأننا ننظر للمرة الأولى بهذا الانبهار والدراما والوهم، نُغرق أنفسنا فى دراما الأوهام، وأوهام الدراما، فى حين أن “المَرَّة الأولى” نفسها تقول لنا: “هَوِّنوا على أنفسكم، لستُ إلا مَرَّة، أنا مَرَّة ضِمْن مَرَّاتكم”.

المسكينة البسيطة حَوَّلناها إلى وحش يأكل قلب دهشتنا ويترك الفُتات لبقية المَرَّات، وهى أبْعَد ما تكون عن ذلك، فقط هى أوهامنا ودرامِيَّتنا.

شكرًا للمَرَّة الأولى، نحبها، لكننا نتطلَّع إلى كل المَرَّات التى ليست مَرَّة أولى.

لا مانع، سنترك شيئًا من روحنا مع كل مرة، سنحب ذلك، لا مانع، هذا جيد بالأساس، نترك شيئًا من روحنا فى كل ما نلمسه ونتكلم إليه وننظر إليه ونفكر فيه، يحدث هذا مع كل شىء فى العالم، مع كل قصة، مع كل موقف، نحمل منه شيئًا معنا، نَحمِل شيئًا من كل شىء فى أرواحنا، ونترك فيه شيئًا مِنّا، لا مانع، سنفعل هذا بمحبة وقبول، سنحمل كل شىء، وفى الوقت نفسه تبقى أرواحنا نقية وصافية وحُرَّة.. هذه الروح يمكنها أن تتوزَّع على العالم إلى ما لا نهاية، يمكنها أن تستوعب العالم إلى ما نهاية. 

وبرأيى، أن الأهمّ من “المَرَّة الأولى”، ومن كل المَرَّات، أن نتحرَّر من كل مَرَّة، ومن كل المَرَّات، مهما كانت.

مقالات من نفس القسم