محمد العبادي
في رائعة يورجوس لانتيموس “مخلوقات مسكنية” تشعر بيلا باكستر “إيما ستون” بالصدمة حين يصطحبها هاري إلى الإسكندرية لترى بعينيها البريئتين القسوة والتعاسة اللذين يملآن العالم، حينها تتعاطف بيلا مع الأطفال الفقراء المتروكين ليموتوا في القاع، وحين تحاول أن تعطيهم الأموال لتنقذ حياتهم يقابلها اثنان من الموظفين ويقنعانها بترك المهمة لهما ويتعهدان بتوصيل هذه النقود للفقراء والمحتاجين، بالطبع فور انصرافها يقتسمان الثروة بينهما ولا يصل شيء للأطفال الفقراء!
ربما يعبر هذا المشهد بشكل ما عن ما تفعله هوليود حاليا، حيث يستغل المنتجون تعاطف العالم مع القضايا الإنسانية والمظلومين والمحرومين ليثروا من وراء هذا التعاطف، أصبحت هوليود تنتج أفلاما لتتعاطف مع الضحايا لكن بالتأكيد لن تذهب أرباح هذه الأفلام للضحايا، بل ستنتهي في جيوب كبار المنتجين والموزعين في أكبر صناعة سينما على مستوى العالم.
وموسم الأوسكار لهذا العام كان أكبر دليل على هذا، فحركة “التطهير” التي تبنتها أكاديمية السينما الأمريكية وغيرها من الجوائز أظهرت احتفاء كبيرا بموضوعات الأقليات والمهمشين – من وجهة نظر أمريكية – على الرغم من أن حفل الأوسكار لهذه السنة كان من أكثر الحفلات توقعا وأقلها إثارة للجدل منذ سنوات على مستوى الجوائز والترشيحات، إلا أن الحفل وما يحيط به لم يخل من إثارة للجدل على مستوى الشأن العام، فلا يمكن عزل الأوسكار في جزيرة منعزلة عن العالم وما يحدث فيه.
على مستوى السينما لا توجد مفاجآت حقيقية، لا جديد يذكر ولا قديم يعاد، فمن بداية موسم الجوائز اتضح تفوق أوبنهايمر الكاسح فلم تكن مفاجأة أن يتصدر ليلة الحفل بسبع جوائز كبرى: أحسن فيلم، مخرج، ممثل، ممثل مساعد، تصوير، مونتاج وأفضل موسيقى تصويرية، ولم تكن مفاجأة فوز إيما ستون بجائزة أحسن ممثلة رغم قرب المنافسة بينها وبين ليلي جلادستون، ولم تكن مفاجأة أن يحصل روبرت داوني جونيور على أوسكار طال انتظاره بعد ما غرق في غياهب المخدرات وعاد، بل وما هو أسوأ: بعد ما غرق في غياهب عالم مارفل ورجله الحديدي!
ولم تكن مفاجأة أن يخرج سكورسيزي وفيلمه “قتلة زهرة القمر” صفر اليدين، كأن الأكاديمية تتعمد أن تخرج لسانها له مرة أخرى ليدخل الحفل بعشر ترشيحات ويخرج منه ـ كالعادة ـ بلا أي تمثال ذهبي!
وإذا نظرنا للجوائز والترشيحات بنظرة أكثر شمولية، وتتبعنا الأسباب “غير الفنية” وراء اختيارات أعضاء الأكاديمية لا نجد ـ أيضا ـ مفاجأة حقيقية، كعادة الأكاديمية في عصر “الصوابية السياسية” اعتمدت أجندة تطهيرية تصب فيها الحب والدعم صبا على كل الأقليات والمظلومين في العالم وعبر التاريخ ليحصل كل منهم على قدر من الدعم والتمثيل في الترشيحات، بشكل يقترب من “الكوتة” التي يتم فرضها للأقليات في المجالس النيابية: حصل سكان أمريكا الأصليين على الاهتمام في: قتلة زهرة القمر، ومثل اليهود ومحرقتهم في معسكر أوشفيتز: منطقة الاهتمام، بينما حظت المرأة ومطالبها بالتمكين بـ”باربي” الملون عديم الذوق، واستمر التمثيل السنوي للمثليين عبر “مايسترو” الذي أرخ لحياة الموسيقار الأمريكي ثنائي التوجه: ليونارد برنستاين (الذي كان من أشد مؤيدي إسرائيل بالمناسبة)، حظى الملونون بالتقدير في “خيال أمريكي” الذي اقتنص جائزة أحسن سيناريو مقتبس وأربعة ترشيحات أخرى، ولم ينس الأمريكان شركاءهم الاستراتيجيين في أوكرانيا، ليحصل فيلم “20 يوما في ماريوبول” على جائزة أحسن فيلم وثائقي طويل.
لكن الحقيقة أن الأكاديمية قامت بتوزيع حنانها ودعمها لكل المظلومين والمحرومين ما عدا نحن!!، بينما تجري حرب إبادة ضخمة على قدم وساق تجاهل الإبداع الأمريكي، أو لنقل موسم تقييم الإبداع الأمريكي الإشارة من قريب أو من بعيد لما يحدث في غزة، رغم أن بداية الأحداث كانت في أكتوبر إلا أن غياب القضية الفلسطينية عن منصات الأوسكار والجوائز هو غياب دائم ومستمر عبر التاريخ، فلا نجد تمثيل حقيقي لفلسطين في الجوائز العالمية إلا في حالات نادرة وظروف خاصة، بشكل أكثر تحديدا لا نجد تمثيلا لفلسطين بين ترشيحات الأوسكار إلا مرتين عن فيلمي “الجنة الآن” و”عمر” والاثنين للمخرج الفلسطيني/الهولندي هاني أبو أسعد الذي نجح في الحصول على دعم دولي لأفلامه، وتمرير مضمون “متوازن” يلقى قبول الغرب.
حالة مستمرة من التواطؤ ضد قضية فلسطين رغم وجود العديد من الأفلام التي تناولت قضايا الاحتلال وتاريخه وحياة الشعب الفلسطيني في حربه المستمرة عبر أكثر من مائة عام وحتى الآن، على الجانب الآخر لا تدخر هوليود جهدا لتذكرنا بمعاناة اليهود خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.
آخر عنقود الأفلام التي تتحدث عن المحرقة هو فيلم “منطقة الاهتمام” الذي تدور أحداثه في معسكر أوشفيتز سيئ السمعة، لكن بؤرة أحداث الفيلم ليست منطقة احتجاز المعتقلين، بل يتفرغ الفيلم لتصوير منطقة إقامة القائد النازي للمعسكر وعائلته، حيث يبدو بيت القائد أقرب لقطعة من الجنة، تحت رعاية وخدمة المعتقلين اليهود المنتظرين لدورهم في الحرق في محرقة المعسكر، يكتفي الفيلم بإشارات بسيطة لما يتعرض له اليهود خارج “منطقة الاهتمام” تلك، لم يصور الفيلم عمليات القتل والحرق، لكن اكتفى بعرض انعكاس نار المحرقة عبر نوافذ البيت، ونقل أصوات ما يحدث في المعسكر من قتل وقمع للمعتقلين عبر النوافذ والأسوار، ربما هو نفس الوضع الحالي في غزة لكن مع تغير الضحية والجلاد، حيث يتواطأ العالم الغربي ليبقي المحتلين في “منطقة الاهتمام” ويضع الضحايا من أهل غزة خلف أسوار من التجاهل والعنصرية.
المفارقة أن يكون هذا الفيلم بالذات هو السبب في ذكر غزة على مسرح الأوسكار والمطالبة بوقف إطلاق النار، بل وانتقاد صريح لسلطة الاحتلال وأفعالها غير الإنسانية. ففي استلامه لجائزة أحسن فيلم عالمي انتقد المخرج البريطاني اليهودي جوناثان جلازر اختطاف الاحتلال للمحرقة لتسويغ مذابحه وطالب بإيقاف إطلاق النار، ولم يكن موقف جلازر موقفا منفردا، بل جرت أحداث حفل الأوسكار في أجواء من التظاهر والمطالبات بوقف إطلاق النار، شارك فيها العديد من الفنانين الذين اعلنوا دعمهم عبر حركة Artists4Ceasefire، كثير منهم أصر على ارتداء شعار الحملة خلال الحفلة والتوعية بها في لقاءاتهم على هامش الحفل، من أبرزهم “بيلي ايليش” الفائزة بجائزة أحسن أغنية ومارك روفالو المرشح لجائزة أحسن ممثل مساعد، و”رامي يوسف” شريكه في بطولة “كائنات مسكينة” مواقف تعطي مثالا على أن الإنسانية والتعاطف لا ينتمي لجنسية أو ديانة واحدة، وأن الضمير الحي صفة مجبولة عند كل البشر، إلا من اختاروا قتل ضمائرهم بأيديهم.