أورشليم .. اعتياد الشر والعنف غير المبرر!
هاميس البلشي
"سطع اسم جونسالو إم. تفاريس في المشهد الأدبي البرتغالي لتمتعه بخيال خصب أصيل تجاوز كل حدود الخيال التقليدي. هذا إضافة إلي لغته الخاصة، التي جمعت بين جرأة الصك وبراعة استخدام العامية، مما يدفعني للقول، ودون أي قدر من المبالغة - مع كامل الاحترام للشباب من روائي البرتغال اليوم - أن جونسالو إم. تفاريس مرحلة يقف عندها الزمن، هناك مرحلة سبقته، وأخري تلته".
هذه هي شهادة الروائي العظيم جوزيه ساراماغو التي جذبت انتباهي على ظهر غلاف رواية "أورشليم" -الصادرة حديثًا عن دار مصر العربية- ودفعتني إلى شرائها، متحمسة للتعرف على هذا الروائي الشاب الذي استحق ثناء ساراماغو.
ولد جونسالو إم تافاريس في أغسطس 1970 في مدينة لواندا عاصمة أنغولا، ويعمل بالتدريس في جامعة لشبونة إلى جانب عمله ككاتب. نشر تافاريس أول كتاب له عام 2000، ومُنح عدد كبير من الجوائز الوطنية والدولية في وقت قصير جدًا مثل:- جائزة ساراماغو للكتاب الشباب تحت 35، وجائزة لير الألفية، وجائزة أفضل كتاب أجنبي 2010 في فرنسا: الجائزة التي حصل عليها كتاب مثل:غارسيا ماركيز، أورهان باموك، روبرت موزيل، فيليب روث. نُشرت أعمال تافاريس في أكثر من 50 دولة، وتُرجمت أعماله إلى حوالي 25 لغة.
في روايته "أورشليم"، والتي اُعتبرت أحد أهم أعمال الأدب الغربي، ينقل تافاريس ما هو أصدق من الحقيقة، عن ماهية الشر والعنف والجنون والوحشية المسيطرة على العالم. تنفذ الرواية داخل نفوس البشر، وتكشف عن الرغبات الكامنة في الأذى، واستغلال ضعف الآخرين، والتحكم في مصائرهم. "العالم عبارة عن صراع بين طاقتين، طاقة إيجابية وأخرى سلبية، وسينتهي عندما تقضي كل طاقة على الأخرى".
تافاريس لا يعطي اهتمامًا كبيرًا للأحداث بقدر التفاصيل الصغيرة التي تخص كل شخصية وترسم ملامحها ودوافع تحركاتها. ميليا -على سبيل المثال- الفتاة المصابة بالشيزوفرينيا، وعلاقتها الغربية بالأشياء. تمضي أيامها تتأمل مكونات الأشياء حولها، وترصد روابطًا محددة بينها. فالبيض مثلا يزعجها بشدة "به نوع من إنكار الذات، خُلق البيض لأنه يريد الاختفاء، ليتجسد في شيء آخر"، والأحذية تُشعرها بالإشمئزاز لخضوعها الكامل للبشر وكأنها وُجدت لتمتلك، أما البطاطس فترى فيها دفء أنثوي، يشبه ما تشعر به بالقرب من زوجها ثيودور باسبيك.
أحد التفاصيل الهامة أيضًا:- العلامات البارزة في وجه هينرك: الأكياس أسفل عينيه، التجاعيد الجلدية المتراكمة، الرواسب الدهنية التي تعكس تفاصيل حياته التعسة، قسوته، خوفه المهيمن على حياته، شعوره الدائم بالخطر، شهوته للقتل. هوسه بالمسدسات، يتحسسها كمن يتحسس جسد امرأة مثيرة يتلذذ بها، ويُعمل تركيزه على تمييز رائحة كل جزء منه على حدة.
تدور معظم أحداث الرواية داخل مصحة "جورج روزنبرج" النفسية وهي أشبه بمعتقل يمارس فيه دكتور روزنبرج نظريته على المرضى، فلم يكن مفهومه للجنون طبيًا بل أخلاقيًا. "بكل بساطة الشخص الذي يتصرف بصورة غير أخلاقية هو شخص مريض عقليًا..فالجنون، إذن، هو نقص بسيط في الأخلاق - سؤاء مؤقت، وبالتالي يمكن علاجه، أو قاطع بلا نهاية ولا يمكن علاجه". في مصحة روزنبرج يُصنع الواقع ويُجبر الجميع على تقبله واتباع القوانين.
ثيودور باسبيك باحث وطبيب النفسي يقيم على بحث علمي في "محاولة فهم تطور الرعب عبر التاريخ، في سبيله للتوصل إلى بيان قد يحدد تواريخ ومواقع أحداث تراجيدية كبرى ستقع في القرن القادم"، وأثناء بحثه يضع جملة -أظنها هي الإجابة الخفية عن كل تناقضات الشخصيات- على لسان أحد الناجين من معسكرات الاعتقال: "البشر العاديون لا يعرفون أن كل شيء ممكن". جملة تُشعرك بمدى خصوصية الألم الذي يعانيه الفرد، وربما يدفعه لارتكاب جرائم غير مبررة، لن نستطيع إدراكها لأننا ببساطة لم نعايشها.
أورشليم هي مزيج من حالات إنسانية تورطت بشكل مباشر أو غير مباشر في حياة فوضوية لا يمكن استبدالها، بل أرغموا على الانخراط فيها وتحمل تداعيتها. الأحداث مخيفة بدرجة لا تترك لك فرصة للتعاطف مع أى طرف أو على الأقل تحديد الجاني والضحية. أجواء مشحونة بالعدوانية والعنف والشك والجنون. هناك تخبط واضح في المشاعر، وتحولات سريعة صادمة تكشف عن مدى غموض وتعقد النفس البشرية.
بنية الرواية مختلفة عن الأنماط السائدة، ليس هناك بنية تقليدية، الكاتب يلعب بالتسلسل الزمني للأحداث، والرواية لا تخضع لوحدة الحدث. كما ينتقل تافاريس بشكل مدهش بين المشاهد والشخصيات المختلفة، يحيل الصدف إلى أحداث مثيرة والمعاني البسيطة لأفكار عميقة، وكأنه قصد هدم ما هو كلاسيكي في الشكل الروائي.
بقي أن نُشيد بالترجمة المتميزة لأحمد صلاح الدين ومحمد عامر، وهي أول أعمال الكاتب المترجمة إلى العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية