أهمية أن نفصل

أهمية أن نفصل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سيد الوكيل

هناك مثل شعبى يقول: " الجنة من غير ناس ماتنداس" والمعنى المباشر للمثل، أن لاقيمة للجنة، ولامبرر لوجودها أصلا بغير البشر، فبدون البشر يكون خلق الجنة عبثا لامعنى له. بل وتكون خرابا شاسعا، لاقيمة فيه لوجود ملائكة ولا أى شىء. وهو مثل يستنكر وجود الغيبى ( الجنة ) مجردا فى حد ذاته، فالغيبى لايكون مقدسا ولا محمودا إلا إذا كان فى خدمة البشر. ودافعا لهم إلى الحياة.

وهو مثل ينصت بوعى مدهش، إلى معنى الحديث القدسى الشريف: " فكروا فى مخلوقاتى ولا تفكروا فى ذاتى ". وهو أمر صريح بأن التفكير فى العادى والمعيش، مقدم ومقدس على التفكير فى الغيبى. وذلك باعتبار الإنسان اسمى آيات الخلق.

وأنا شخصيا مندهش، كيف انتجت العقلية الشعبية هذا المثل، فى حين تعلقت العقلية النخبوبة بالغيبى، وظلت تحصر سلوكياتها وممارساتها فيه، فى وقت تهدر كل قيمة للإنسان، بل تهدر دمه ووجوده المقدس بدعوى إرضاء الغيبى وتقدسيه.

القيمة الأسمى فى الحديث الشريف. أنه يرشدنا بين طريقتين للتفكير، التفكير العلمى المناسب لعقل الإنسان وقدراته المحدودة التى منحها الله له، والتفكير الغيبى الخارق المعجز للإنسان وفوق إدراكه. وكما نفهم من الحديث الشريف أنه يقدم الأول ويعتبره هو التفكير، فيما يدخل الثانى فى شأن الإيمان بالقلب، الذى لايطلع ولا يحاسب عليه إلا العليم بذات الصدور. هذا هو خلاصة المعنى الذى أدركه الإمام محمد عبده حينما أطلق مقولته الشهيرة عن الغرب: ” وجدت إسلاما ولم أجد مسلمين ” وكان ذلك تعقيبا على معنى الإصلاح الدينى، بفصل شؤون الحياة الإنسانية التى يتشارك فيها كل البشر، عن شأن الدين الذى يتشارك فيه الفرد وربه.

ما أخلص إليه هنا، أن غياب هذا الفصل فى ثقافتنا هو سبب كل محنتنا. لأن الفصل يعمل على تحرير عقلنا من الوقوع فى الالتباس والخلط الذى يؤدى إلى الضلال والتخبط. ولم تكن أوربا فى العصور الوسطى تعرف هذا الفصل ، لهذا شاع الفساد وتفشى الظلم وأهدرت الحقوق والدماء بدعاوى دينية لاقبل لأحد على دحضها لكونها تتلفع بعباءة المقدس. في العصور الوسطى المسيحية ، كان العلماء والمفكرين والفنانين، كثيرا ما يتهمون بالهرطقة، وقد انتقل الفكر التكفيرى إلى ثقافتنا فى تلك المرحلة، وشهد تاريحنا الوسيط كثيرال من دعاوى التكفير والردة، فيما لانجد شيئا من هذا لدى المسلمين الأوائل.

يحكى فى الأثر، أن النعمان بن عدى والى تلمسان ، أنشد شعرا يقول فيه :

ألا هل أتى الحسناء أن خليلها بميسان يسقى فى زجاج وختم.

فوشى به البعض إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، بأن فى شعر النعمان اعتراف بشرب الخمر، فضلا عن اتخاذه حسناء خليلة. بما يستوجب إقامة الحد عليه لأن الاعتراف سيد الأدلة. عندئذ استدعى أمير المؤمنين عامله النعمان، فأقر النعمان بنسب البيت إليه، ثم أردف: والله يا أمير المؤمنين ماشربتها قط، وما ذاك إلا طفح الشعر على لسانى . ثم استشهد بالآية الكريمة فى قوله تعالى : ” .. والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترى أنهم فى كل واد يهيمون، وأنهم يقولن مالا يفعلون ” فعزله أمير المؤمنين عن الولاية، ولم يقم عليه الحد.

ونستخلص من الواقعة: أن أمير المؤنين قد فصل بين موقفين للشخص الواحد، موقفه من النعمان بوصفه واليا وهو موقف سياسى، وموقفه من النعمان بوصفه شاعرا وهو موقف فنى وجمالى. فهو يدين الموقف الأول فيما يتسامح مع الموقف الثانى. ومن الغريب أن نرى هذا الموقف المستنير لأمير المؤمنين، المستوعب لطبيعة الخطاب الأدبى وطموحاته الفنية، فيما نجد استغلاقا، وجهلا بطبيعة الإبداع الأدبى فى عصرنا هذا، يصل إلى حد إهدار دماء الأدباء ورميهم بالكفر ومقاضاتهم بدعاوى الحسبة التى لم يعرفها الإسلام فى ريعانه. ومن الغريب أن ينزلق إلى كل هذا الشطط، رجال دين ورجال رأى بل ومحامون وقضاة، مما نعتبرهم فى مصاف النخبة، ونضع حقوقنا المقدسة أمانة بين أيديهم.

لست مفتيا ولا رجل دين، ولكنى أؤمن بأن النظر إلى جسد امرأة عارية فى فيلم سينمائى ليس حراما. فالجسد في الفيلم هو مجرد صورة للجسد، والمحرم والمقدس هو الجسد الإنسانى لاصورته. ولا يجوز أن نسوى بين الأصل والصورة فى الأثر والتحريم. كذلك الأدب هو قول فنى، يصور ـ باللغة ـ الحياة ومافيها من ممارسات وشخصيات وأفعال فاضلة أو مرذولة. إنه يشبهها، لكنه ليس هى، والقاعدة الفقهية، أن الحرام بيّن والحلال بيّن، وبينهما متشابهات، وعلينا أن ندرأ الحدود بالمتشابهات. أظن أنها تلك التى القاعدة التى استند إليها أمير المؤمنين عمر فى حكمه على النعمان. إذ فصل بين القول الفني والقول الفعلي الذى يأخذ صفة الاعتراف والإقرار بالفعل.

ومع ذلك مازلنا نرى من يكفر أديبا أو يهدر دمه، والسوابق والشواهد أكثر مما نظن، وتمارس فى كل يوم بنفس السيناريوهات المتبلة بالفضيلة والدين. بما يشير إلى أن العقلية العربية لاتتغير، ولا تطمح إلى التطور، وربما تتراجع على نحو مخيف، حتى لايكون الفارق بيننا وبين الغرب تجسيدا لمسافة حضارية شاسعة فحسب، بل هو نفس الأمر وأكثر بيننا وبين المسلمين الأوائل من السلف العظيم.

لماذالانفهم أن أول ماتنهض عليه الحضارات العظيمة، فنونها وآدابها؟.

هذا ماشهد به التاريخ، ليس العالمى وحسب، بل العربى أيضا. فإذا كنا جادين فى طلب نهضة عربية وبعث حضارى يستعيد الماضى المجيد. فأول مانفعل، هو أن نتعلم فضيلة الفصل بين أوجه النشاط الإنسانى كافة، وأن نسلم بأن طبيعة الوجود الإنسانى على فطرة الخلق، هى التعدد والتجاور الذى قد يصل إلى حد التناقض فى الذات الواحدة. وأن كل ميسر لما خلق له. ولو أدركنا هذا، وصار جزءا من ثقافتنا ووعينا بذواتنا الإنسانية كبشر خلقة الله وفضله على جميع مما خلق. لما وجدنا من يهدر دم مسلم لقول ولا مسيحى لعقيدة. أكاد أجزم بأن العقلية الإسلامية المعاصرة بمثابة خلاط كبير، لايفرق بين الرمل والأسمنت، والماء الذى هو سر الحياة

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم